أكذوبة رصيد اللاعبين: عفوًا، الكل مدين لكرة القدم
في أحد المقاهي المصرية كان الجدل دائرًا حول رحيل «عماد متعب» من النادي الأهلي المصري. فأحدهم قرر أن الرجل كان يستحق فرصة والآخر اتهم المدرب بالتعنت ضده، بينما أشار الأخير إلى أن ما حدث يتسق مع سنة الحياة التي لا تدوم، لكن الحديث هنا ليس عن شخص اللاعب المصري ورحيله لكن عن العلاقة بين اللاعب والجماهير، هل هناك أحد الأطراف مدين للآخر ومن عليه تحديداً أن يرد هذا الدين.
ابدون بورتى: أين ذهب الهتاف باسمي؟
اللاعب الأوروجوياني «ابدون بورتى»
في «مونتفيديو» نهاية صيف 1918، دخل اللاعب الأوروجواياني «ابدون بورتي» ملعب سنترال بارك ملعب نادي ناسيونال الأوروجواياني فجرًا حاملاً في إحدى يديه مسدسًا وفي الأخرى رسالة، وفي وسط الملعب المظلم تمامًا أطلق على نفسه رصاصة لم يسمعها أحد.
قبل مضي أربع سنوات على هذا الحادث كان «ابدون» يدخل إلى السنترال بارك وسط تصفيق الجماهير والهتاف باسمه ثم حدث ما يحدث للاعب الكرة بمرور الزمن، أصبح بورتى أبطأ وفاعليته أقل ومع مرور الوقت بدأ يفقد رصيده لدي الجماهير فلازم مقاعد البدلاء إلا أن قبيل انتحار «بورتي» بساعات كان قد شارك في مباراة لفريقه كأساسي وظهر بمظهر جيد للغاية، ربما شعر أنها فرصته الوحيدة لكي تبقى ذكراه الأخيرة لدى الجماهير ذكرى جيدة.
يبقى حادث «ابدون بورتى» حادث مهم في تاريخ كرة القدم، حادث له دلالات حول أهمية رصيد اللاعبين لدى الجماهير، هل بالفعل هذا الهتاف باسم أحد اللاعبين يعول عليه فيما بعد؟ الرايات التي تحمل صور اللاعبين هل تبقي للأبد؟ بل إن السؤال قد يمتد لأكثر من ذلك، هل هذا الهتاف الذي لم يستطع أن يعيش بورتي دونه كان موجهًا إلى شخصه في الأساس؟ الحقيقة أن هذا الهتاف كان موجهًا إلى نادي «ناسيونال» متمثلاً في اسم «بورتي».
ملك تورينو وملك روما، الكل مدين لكرة القدم
19 عامًا يرتدي «ديل بييرو» الأبيض والأسود فقط، فقميص اليوفنتوس الذي حلم بارتدائه «اليساندرو» صغيرًا أصبح مع الوقت يعرفه الناس من خلال «ديل بييرو» نفسه، تتغنى باسمه الجماهير لسنوات ولا يخذلهم أبدًا، كان «ديل بييرو» ملك تورينو خلفًا لملوك تاريخيين للفريق حتى حانت لحظة الحقيقة «فضيحة الكالتشيوبولي» تلك التي تتعلق بنتائج بعض المباريات في الدوري الإيطالي والتي انتهت بإرسال اليوفنتوس إلى الدرجة الثانية ورحل الجميع من الفريق إلا «ديل بييرو» رفقة أربعة آخرين فأصبح الملك المتوج وحده في قلوب مشجعي السيدة العجوز.
ثم حدث ما يحدث دومًا، قرر «أندريا أنيللي» الاستغناء عن خدمات الملك بموافقة فنية من كونتي مدرب البيانكونيري آنذاك. ليرحل «ديل بييرو» الرجل الأكثر وفاءً في تاريخ اليوفي بأكمله ويذهب القميص رقم 10 إلى الأرجنتيني «كارلوس» تيفيز فيما بعد.
وبينما ودعت تورينو ملكها التاريخي كانت روما تدين بالولاء لملك لا يقل عن «ديل بييرو» عظمة ووفاءً، «فرانشيسكو توتي» الرجل الذي لم يعرف قميصًا في حياته سوى قميص روما. المطلوب من كل كبار أوروبا دومًا ولكنه يختار البقاء في العاصمة الإيطالية. حتى مع قلة فاعليته في سنوات لعبه الأخيرة بقي «توتي» ملك روما المتوج لديه حرية القرار متى يرحل من روما وهو ما اعتبره البعض ردًا لدين بقائه مع روما.
الحقيقة في الأمر أن الكثير من جماهير الكرة تقارن بين الرجلين وموقف أنديتهم فيما يتعلق برحيلهم، إلا أن التاريخ يؤكد أن الجميع مدين لكرة القدم فقط. فجماهير اليوفنتوس لم يقل حب «ديل بييرو» لديها برحيله ولكنها احتفلت بعد ذلك بأكثر من لقب في غياب «ديل بييرو» بينما كان الحديث بين جماهير روما كل عام حول إمكانية رحيل «توتي» الذي لن يضيف لتاريخه ولا لتاريخ روما شيئًا.
لا يوجد لاعب يستطيع أن يلعب كرة القدم بما لديه من رصيد لدى الجماهير فـ«ديل بييرو» رحل في قرار يراه الكثير وتبرهنه النتائج بأنه قرار صائب فنيًا وبقي ملكًا متوجًا في قلوب محبيه و«توتي» بقي في روما ملكًا حتى آخر يوم له مع كرة القدم، لكنه في سنواته الأخيرة لم يستطع أن يلعب كالسابق ولم تكن روما تستفيد بوجوده لمجرد كونه الملك.
زيدان والرحيل المثالي
في عالم كرة القدم تسعون دقيقة تكفي تمامًا لحسم نتيجة مباراة لكن الجدل الدائر حول المباريات واللاعبين لا يكفيه أيامًا وأسابيع. هكذا هي كرة القدم، لعبة الاحتمالات والآراء والتحليل ووجهات النظر. لعبة «ماذا لو»، ربما هذا ما يعطي لكرة القدم كل هذا الزخم التي تتمتع به. فعشرة أشخاص يشاهدون مباراة كرة قدم، ذلك ببساطة معناه عشر وجهات نظر حول حدث واحد، لكن هناك بعض اللاعبين الذين كانوا أذكى من الجميع، لاعبين لم يعطوا لأحد رفاهية الاختلاف عليهم أثناء الرحيل.
أشهر هؤلاء كان «زين الدين زيدان»، الفرنسي الأنيق صاحب النظرة المختلفة تمامًا على أرض الملعب. كان الجميع يتحدث عن مفاجأة قرار زيدان باعتزال كرة القدم وسط تأكيدات أنه قادر على اللعب لموسمين أو ثلاثة أخرى لكن زيدان كان على قدر من الذكاء يسمح له أن يدرك أن من يعارض قراره الآن لن ينزل معه إلى أرض الملعب ولن يقنع الجماهير أن تهتف باسمه بعد مباراة سيئة. كان يشعر أنه لن يصبح أفضل أبدًا فقرر أن يترك الجميع وهم يتمنون أن يعود مرة أخرى فذلك أفضل من أن يتمنى أحدهم له بألا يترك مقاعد البدلاء.
القدرة على العطاء: من يحدد ذلك؟
أشعر أني ما زلت قادر على العطاء. تلك الجملة التي يكررها كل لاعب يقل مستواه أو يتقدم به العمر فيصبح بدنيًا أقل حتى وإن أكسبته تلك السنين الماضية خبرة يتعامل بها مع الكرة إلا أنه دومًا يكرر هذه الجملة ربما للتخلص من هاجسه الشخصي إزاء تقدمه في العمر. تفتقد هذه الجملة للمنطق تمامًا. فمن يحدد أن اللاعب قادر على العطاء؟ وما هو هذا العطاء؟ ولماذا لا يظهر قيمة العطاء فجأة إلا مع تقدم السن؟
المدير الفني يقرر أن يستخدم لاعبي كرة قدم قادرين على تنفيذ رؤيته الفنية، الأمر بتلك البساطة، فاللاعب الذي يشعر أنه مازال قادرًا على إحراز الأهداف مثلاً ربما لن يفيد المدرب في رؤيته التي تحتاج إلى لاعب بدنيًا بمستوى عالٍ، فيتقلص دور اللاعب لدقائق أقل رغم عطائه المفترض، واللاعب الذي يري أنه مازال يتمتع بقواه البدنية رغم العمر ربما غفل إلى أنه أصبح أقل قدرة على تنفيذ مهام دوره من الجانب الفني وهكذا.
ربما لو استندنا إلى آراء اللاعبين أنفسهم بقدرتهم على العطاء لكان هجوم منتخب مصر يتألف من «عماد متعب» و«حسام حسن» و«أحمد بلال». فبلال أثناء صعود نجمه كان يلقب بحسام الصغير وكان حينها «حسام حسن» قادرًا على تسجيل الأهداف، و«عماد متعب» أصبح مهاجم الأهلي الأول لأن نجم «أحمد بلال» بدأ يأفل إلا أن بلال كان قادرًا في هذا الوقت على تسجيل الأهداف أيضًا حتى بعد أن ترك الأهلي.
الحقيقة أن العلاقة بين لاعب كرة القدم والجماهير المحبة هي علاقة لا تتسم بالاستقرار أبدًا ولا تبدو كما هي واضحة لأطرافها. فكل ذلك يتغير تمامًا لكن يبقى الشيء الثابت الوحيد هو كرة القدم وكياناتها المتمثلة في الأندية والمنتخبات التي تلعب من أجلها كرة القدم. اللاعب قد يذهب إلى نادٍ آخر بعرض مالي أكبر وسط لعنات الجماهير، وقد يرفض نفس العرض ويبقي ملكًا متوجًا لدى الجماهير لكن لا أحد من الطرفين في الموقفين مدين للآخر بشيء ويبقى الجميع مدينًا لكرة القدم.