الأفلاطونية: قراءة في فكر النخب العربية المحافظة
شهدت المنطقة العربية على مدار عقد كامل مجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت نخبًا جديدة وصلت إلى سدة الحكم، وبالرغم من الانتفاضات الشعبية التي اندلعت ضد النظم والنخب القديمة، فإن تلك الانتفاضات ذاتها، وبالرغم من شعارات الحرية والعدالة، أوصلت نخبًا ذات طابع محافظ إلى الحكم، سواء كانت إسلامية أو عسكرية أو مدنية، وربما يعود ذلك إلى تفضيلات الطبقة الوسطى في العالم العربي التي كانت وما زالت محافظة دينيًا ومتمسّكة بالتقاليد ومقاومة للتغيير.
وبالرغم من النجاحات المحدودة، فإن تلك النخب السابقة والحالية قد أخفقت في مشروع التحديث العربي. وهنا يمكن القول إن المجتمعات العربية كما المجتمعات الأخرى، تواجه فيها عملية التحديث مقاومة أكيدة، تتزايد وتتناقص بحسب السياقات التاريخية واقتناع المجتمع بشرعية تلك التحولات وضرورتها، والأهم من كل ذلك هو تقبل النخب لها.
إن دروس التاريخ لم تُقدِّم سوى نتيجة واحدة؛ وهي أنه ليس هناك شيء يتغير من ناحية المضمون، وأن الافتراضات الأخرى في التنوع والخبرة البشرية والإنسانية في تفادي الأخطاء ما هي إلا زوبعات تطفو بين الحين والحين، وأكثر الدروس ثباتًا في التاريخ هي أن التغير دائمًا ما تصنعه النخب، وهي منْ تشكل المفاهيم والأفكار السائدة، كان ذلك منذ المجتمع الأثيني وحتى مجتمع الحداثة.
والنخبة في أبسط تعريفاتها هي القلة المتميزة التي تقود الأغلبية إلى ما فيه الصالح العام، وهي أيضًا نتاج طبيعي لتطورات المجتمع، ولا يعني وجود قلة متميزة سواء بمعايير الطبيعة أو الجدارة أن تكون محافظة بالضرورة، ولكن كل النخب الاصطناعية هي نخب محافظة بالضرورة وموالية للسلطة، والنخب الاصطناعية هي التي دخلت دائرة النخبة لا على أساس الجدارة والتميز أو المواهب، ولكن على أساس الولاء للسلطة.
يغلب الفكر المحافظ على النخب العربية، والفكر المحافظ في جوهره يعود إلى «أفلاطون» الفيلسوف الأثيني الذي عارض التغيير لصالح الاستقرار، ولكن هل النخب العربية حقًا محافظة من ناحية الفكر؟ وما هو الفكر المحافظ؟
أفلاطون ونشأة الفكر المحافظ
عاش الفيلسوف الأثيني «أفلاطون» في فترة ساد فيها عدم الاستقرار، وغلبت النسبية على كل شيء في المجتمع الأثيني، بسبب الأفكار والأحداث، حيث لا لم تكن هناك حقائق ثابتة ومطلقة، الأمر الذي دفع أفلاطون للتشبث بالاستقرار والبحث عن أسس في ظل الفوضى السائدة، فقال بأن هناك حقائق ثابتة وعالم فوقي لا يدركه الأفراد العاديون وإنما الفلاسفة فقط منْ يدركون تلك الحقائق الثابتة في أوقات الاضطراب المزمن، لذا فهم أجدر الناس على الحكم.
وقد شكّلت فكرة الاستقرار وأهمية وجود قلة متميزة تحكم المجتمع الأساس نحو بزوغ فكر جديد، تطور على مدار التاريخ ليتخذ أشكالًا وأبعادًا مختلفة، لكنها جميعًا ترتكز على مجموعة من الأسس تتمسك بها وتدافع عنها، لاعتقادها بأن تلك الأسس هي الوحيدة التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع المثالي الذي ينشدونه.
الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه، وما هو قائم هو دائمًا جيّد، لأن ما هو قائم هو إرادة الله وأي محاولة لتغيير الوضع القائم فهي ضد قوانين الطبيعة وضد الإرادة الإلهية، إذن فالمجتمع المثالي هو المجتمع المستقر والمتدين، والتغيير هو آفة كل الشرور، فالتغيير يساوي التحلل والفساد ويجب مقاومته.
فالفكر المحافظ يؤمن أن الناس غير متساوين وغير أسوياء فهم أنانيون وغير عقلانيين وغير ملتزمين أخلاقيًا، لذلك ينبغي وضع قيود صارمة على وصولهم إلى الحكم أو محاولات التحرك نحو أعلى، ولعل هذا ما يفسر المعارضة الشديدة في العالم العربي للديمقراطيةـ التي قد تأتي بالغوغاء إلى الحكم بحسب نظرة الفكر المحافظ، الأمر الذي يدفعهم للرفض المتزايد لمطالب المساواة والديمقراطية والانتخابات الحرة.
فالسمة الأساسية للمحافظين هي رفض الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية الحديثة التي سقفها هو القانون حيث الناس جميعًا متساوون، لذا لا تجد للقانون موضع ترحيب في العقل الجمعي العربي ولا في النخبة المحافظة التي تتسيّد وتصنع الأفكار السائدة، لأن التراتبية والهيراركية هي ثوابت راسخة، والطبقية هي أمر ديني أيضًا بحسب بعض النصوص الدينية التي يروجها هذا التيار.
قيم الفكر المحافظ
الدين والتقاليد وتركيز السلطة هي قيم عليا للمحافظين، ففي المجتمع المحافظ على المرء أن يعمل عمل أبيه وأن يذهب إلى الكنيسة أو المسجد ليصلي ويشكر الرب ولا يطمح في التحرك من طبقته التي وُلد فيها، هكذا يصبح الأمر جيدًا ومثاليًا وعادلًا.
المشكلة العويصة هي أن المحافظة هي السمة الغالبة على سائر النخب، فالإسلاميون على مدار عقود وسنوات طالبوا بالحرية والديمقراطية وتحالفوا مع القوى الغربية، ولكنهم حين وصلوا للسلطة أقصوا الآخرين وحاولوا الهيمنة على السلطة وانتشرت أفكار حول تكفير الثورات التي أتت بهم إلى السلطة، وحتى النخب المدنية التي تهيمن على السلطة والثروة والقوة هي محافظة لهذا السبب ذاته، فأي تغيير في الوضع القائم يؤثر على تلك الامتيازات، الأمر الذي يدفعهم نحو الدفاع عن الوضع القائم والانحياز للسلطة ومعارضة التغيير، لعل تلك الممارسات هي ما تعوق أي نهضة حقيقية في العالم العربي.
بشكل عام لم تعد النخب تقوم بما ينبغي عليها القيام به من تنوير وتثقيف وبلورة مشروع وطني جامع يقود المنطقة نحو الخلاص من شبح الفوضى وعدم الاستقرار والبطالة والفقر والتهميش، وإنما باتت النخب العربية تعيش في أبراج عالية دون أن تكترث بالشعوب ومعاناتها ومآزقها التي تزداد يومًا بعد يوم، ما يقتضي الحاجة إلى نخب جديدة يمكن أن تعيد تجديد مشروع التحديث العربي.