لو أن مفكرًا جاء من مكانٍ قاص، ولقِيَ هذه الأرض، وكان جاهلًا بكل شيء عنها؛ لأدهشه الماء قدر دهشته للزمان.
جان دورمسون – رواية «لا شيء تقريبًا عن كل شيء تقريبًا»

تقف أسماك المحيطات وسلاحفها النادرة، وكافة مخلوقاتها متسائلة في حيرة عن الذنب الذي اقترفته بحق البشرية، كي يحولوا عوالمها الساحرة في المياه إلى مجرد مقبرة جماعية، تحتوي كافة المخلفات، وعالم يحاصره الموت! اضطرابات مناخية تسببت في نقص كمية الأكسجين، نفايات نووية وبلاستيكية، بقايا سفن غارقة، وغيرها من المخلفات لم تجد لها مكانًا سوى المحيط.

في الأرض منزلنا في الكون؛ يغطي الماء نسبة 71 % من مساحة الكوكب كله. تمثل مياه المحيطات نسبة 96% منه. يتواجد الماء في الهواء أيضًا في هيئة بخار. وفي الأنهار، البحيرات، الينابيع، التربة، جوف الأرض، الكائنات الحية، وفيكَ وفِيّ.

وبرغم أهمية الماء ومكانته في معادلة الحياة؛ فإنه أصبح مكان الموت الدائم للمخلوقات فيه، أو المخلوقات التي تستقي منه نصيبها. أبسط مثال؛ وبما أنني قطنت في الريف المصري فترة من الزمن، فأول ما لاحظته -وسيلاحظه أي شخص في بلدته – هو أن أغلب التّرع التي من المفترض أن تستخدم في الرّي؛ قد تحولت إلى مصارف مياه، ومكب للنفايات بأنواعها الجافة والعضوية؛ بما فيها الحيوانات النافقة!

البغيض في الأمر، هو أنك تجد المياه ملوثة تعلوها طبقة من الطحالب الخضراء والعفن، وأكياس النفايات، وتتبعثر الرائحة العفنة في كل مكان؛ ثم تجد أحد المزارعين يمد أنبوب الرّي خاصته فيها ليروي منها ظمأ مزروعاته!

هذا المثال جزء بسيط جدًا، وستجد في أي مكان في العالم هذا المكب المائي وذلك المزارع، وأمثلة أكثر بشاعة على نطاقٍ أوسع. أبرزها هو تلوث مياه المحيطات والأنهار بالمخلفات البلاستيكية، التي تتسبب في موت الكائنات الحية فيها. نحن اليوم بصدد الحديث عن مدى خطورة المخلفات البلاستيكية، وكم يبلغ حجم هذه المخلفات؟


بدائل الخشب والمعادن

يعود تاريخ صناعة واستخدام البلاستيك لأوائل القرن الـ20؛ حيث ظهرت مواد بلاستيكية مبتكرة، مصنوعة من الفورمالديهايد والفينول في عام 1907 تسمى «اللدائن – Bakelite». تستخدم هذه اللدائن بشكلٍ كبير في صناعات الأدوات والمعدات الكهربائية. أما عن استخدام البلاستيك أو البوليمرات العضوية الاصطناعية بشكل موسع خارج الأغراض العسكرية والجيش؛ فكانت بدايته في عام 1950.

وعن إجمالي الإنتاج العالمي من المواد البلاستيكية والألياف؛ فتشير إحصائية إلى أن إنتاج هذه المواد قد ازداد من مليوني طن في عام 1950، إلى نحو 380 مليون طن بحلول عام 2015.

هذا المعدل هو معدل نمو سنوي مركب قدره 8.4% يقدّر بنحو 2.5 ضعف معدل النمو السنوي المركب للناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال تلك الفترة. أما عن الصين؛ فتمثل وحدها 28% من حجم الإنتاج العالمي للمواد البلاستيكية، و68% من إنتاج الألياف والألياف الضوئية. أي حوالي ربع الإنتاج العالمي وحدها!

وعلى صعيد آخر؛ تستهلك عملية إنتاج المواد البلاستيكية كمًا من الطاقة تتراوح من 62 – 108 ميجا جول/ كلغ واحد وفقًا لحسابات متوسطات الجودة الأمريكية. تستخدم «المونومرات – monomers» مثل الإيثيلين والبروبيلين المستخلصة من الهيدروكربونات الأحفورية في صناعة أغلب اللدائن البلاستيكية. هذه المواد غير قابلة للتحلل. لذا تبقى المواد البلاستيكية كما هي صلبة، وتتراكم في مقالب النفايات، أو تتراكم في البيئة الطبيعية بشكلٍ عام.

عملية التخلص من هذه المخلفات تتم بطريقة واحدة لو لم يكن إعادة الاستخدام متاحًا، وهي المعالجة الحرارية المدمرة مثل؛ الاحتراق أو الانحلال الحراري الذي ينتج عنه أيضًا تلوث شبه دائم للبيئة الطبيعية. لهذا فالنفايات البلاستيكية هي مصدر خطر دائم ليس بسبب طريقة التخلص منها فحسب؛ بل أيضًا كونها تنتشر في كل مكان في اليابسة أو في المحيطات.


المخلفات البلاستيكية في المحيطات

برغم أن صناعة البلاستيك أسهمت بشكلٍ كبير في تطوير الصناعات الحديثة المتنوعة، وتسهيل حياتنا، فإن مخلفاتها تمثل شبح موت يجوب العالم خصوصًا في المحيطات. حيث يسهل إلقاء المخلفات فيها وكأنها وجدت لتصبح ملاذ النفايات الأخير!

تتلوث المحيطات بشكلٍ كبير ومباشر من المصادر البرية. هذه المصادر تمثل النفط، المخلفات بأنواعها، خزانات الصرف الصحي، المزارع، حظائر الحيوانات (المواشي) تحديدًا. يتم إلقاء آلاف الأطنان من النفايات والقمامة في المحيط بشكل يومي تقريبًا.

وفي كل عام يتم إلقاء نحو 8 ملايين طن من المخلفات البلاستيكية في المحيطات التي تحتوي على أكثر من 5.25 تريليون قطعة. تتفتت وتتكسر هذه القطع لتتحول إلى قطع صغيرة تتسبب في موت المخلوقات البحرية. وفي عام 2010 وحده؛ تراوحت حجم النفايات البلاستيكية التي ألقيت في البحار والمحيطات بين 4 و12 مليون طن متري.

أما عن الموت الدائم الذي يلاحق مخلوقات المحيطات؛ فإن أكثر من مليون كائن بحري يموت سنويًا نتيجة لاختناقه بالمخلفات البلاستيكية هذه، بالإضافة إلى الأكياس، والتعثر بالأحبال.

مقارنة بين معدلات إنتاج البلاستيك، وحجم المخلفات في المحيطات بين عام 2014 والعام 2050 مستقبلًا.

وفي تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي[1] الذي نشر عام 2016؛ أفاد بأن حجم إنتاج البلاستيك سيقفز من 311 مليون طن عام 2014، ليصل إلى نحو 1124 مليون طن بحلول عام 2050. بالتالي سيزيد حجم النفايات أو المخلفات التي ستنتج عن تلك الكمية لستصل إلى نحو 937 مليون طن. أما عن الأسماك فسيكون حجم تواجدها مقدر بنحو 895 مليون طن، مقابل كمية النفايات السابقة!

منطقة الموت

تبين لنا هذه المنطقة حجم الخطر الذي تواجهه المحيطات بشكل عام. ففي هذه المنطقة تقل نسبة الأكسجين بدرجة كبيرة مهددة حياة الكائنات فيها. وتمتد بطول شواطئ سواحل خليج المكسيك مغطية مساحة أكثر من 14001 كم مربع (8700 ميل مربع).

في دراسة بدأت في شهر أبريل/ نيسان الماضي لعلماء البحار والمحيطات في جامعة ولاية أوريغون، أظهرت نتائجها في نهاية يونيو/ تموز؛ تفيد بأن هناك «منطقة موت» قد بدأت في الظهور في منطقة «كاب بيربيتوا – Cape Perpetua» على سواحل ولاية أوريغون. في هذه المنطقة؛ بدأت مستويات الأكسجين بالإنخفاض حتى وصلت إلى 0.5 ملليلتر/ لتر واحد.

جزيرة القمامة

تتواجد قبالة سواحل شمال كاليفورنيا شمال المحيط الهادئ منطقة مليئة بالمخلفات البلاستيكية، وأنواع المخلفات كافة عدا النووية تقريبًا. تعتبر هذه المنطقة أكبر تجمع للقمامة المحيطية في العالم، لذا يطلق عليها اسم «جزيرة القمامة – Garbage island».

يفوق فيها معدل وجود المخلفات البلاستيكية مجموع الحياة البحرية بنسبة 6: 1، على مساحة تصل إلى أكثر من 1609344 كم مربع (مليون ميل مربع). اكتشفت الجزيرة عام 1997 من قبل «تشارلز موور – Charles Moore» صاحب مؤسسة «ألغاليتا للبحوث – Algalita Research»، التي أنشأها لإيجاد حل لقضية التلوث البحري.

متهمون آخرون

في دراسة نشرت في «مجلة العلوم البيئية والتكنولوجيا – The journal Environmental Science and Technology»، أشارت إلى أن أحد أهم مصادر تلوث المحيطات في العالم؛ هي 10 أنهار. يوجد 8 منها في آسيا، و2 آخرين في أفريقيا. تساهم هذه الأنهار في عمليات التلوث بنسبة تتراوح من 88 – 95%، حيث تقذف مخلفات بلاستيكية وعضوية للمحيطات يتراوح حجمها بين 410 آلاف – 4 ملايين طن سنويًا!

هل نحن بأمان؟

مقارنة بين معدلات إنتاج البلاستيك، وحجم المخلفات في المحيطات بين عام 2014 والعام 2050 مستقبلًا.

لربما التأثير الآخر غير المباشر لتلوث المحيطات هو تأثيره على البشر. فالمواد السامة التي يمتصها المحيط أو تذوب فيه، تدخل في غذاء الكائنات البحرية. بالتالي فالوجبات البحرية التي تتكون من مخلوقات تم اصطيادها من المناطق القريبة من هذه النفايات؛ تعتبر هي المنفذ الأول لنقل سموم المحيط للبشر. ونتيجة لذلك؛ يتعرض البشر لأمراض ومشاكل صحية متعددة بدءًا من السرطانات، وصولًا لتلف الجهاز المناعي.

وفي جانب الرفاهية؛ تمتلئ بعض الشواطئ السياحية بالمخلفات التي يقذفها المحيط لليابسة. وبالتأكيد لن تطيب لك الحياة أبدًا، ولن تهدأ نفسك إذا ما جلست متأملًا لأخذ قسط من الراحة بعيدًا عن تخبّط العالم على شاطئ مليء بالقاذورات، أو كنت في صحبة أحدهم في نزهة ممتعة على ذلك الشاطئ!

وأخيرًا؛ في إطار إيجاد حلول لاحتواء أزمة التلوث في المحيطات، وإنقاذ الحياة البحرية في المحيطات، يسعى العالم إلى تنظيف الأنهار الـ 10 من نفاياتها التي تقذفها فيها، وتوعية الجمهور بمخاطر إلقاء كيس أو كوب بلاستيك في أي مجرى مائي. كما أطلقت «أفاز – Avaaz»حملة تبرعات عالمية للبدء في تنظيف هذه الأنهار الـ 10 من مخلفاتها.

المراجع
  1. World Economic Forum/ January 2016 – page 14