تخطيط «الفسطاط»: أول عاصمة عربية لمصر
هكذا يصف مؤرخ القاهرة المقريزي موقع مدينة الفسطاط، العاصمة التي خططها «عمرو بن العاص» بعد دخوله بجيوش المسلمين إلى مصر عام 642 ميلادية في العام الواحد والعشرين من القرن الأول الهجري، في الوقت التي كانت الإسكندرية عاصمة مصر عند دخول عمرو بن العاص إليها، وقد أعجب بن العاص بمدينة الإسكندرية وأراد أن يتخذها مقراً للحكم، وأرسل إلى عمر بن الخطاب بما يريد، وهنا تدخل العامل السياسي الذي ظل مصاحباً لتأسيس عواصم الدول الإسلامية منذ نشأتها، حينما أرسل بن الخطاب إلى قائد جيشه متسائلاً، هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ فرد عمرو بالإيجاب، فرفض عمر مطلب عمرو بن العاص وقال إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلاً يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف. (ابن الحكم)
كانت استراتيجية عمر بن الخطاب في اختيار مواقع المدن الجديدة والأمصار استراتيجية سياسية عسكرية، فكان دائماً يفكر في سهولة الوصول إلى موقع المدينة المقامة أو المصر، ولا يمنع أي من المحددات الطبيعية بين مركز الخلافة في المدينة المنورة والمكان المنشأ حديثاً، الأمر الذي يسهل وصول الإمدادات العسكرية في حالة الطوارئ، وبذلك تحرك عمرو بن العاص من الإسكندرية متجهاً إلى موقع الفسطاط في ما بعد، وكان موقعاً استراتيجياً يحده من الشرق جبل المقطم، ومن الغرب نهر النيل، ومن الشمال جبل يشكر، ومن الجنوب بركة الحبش.
تسمية «الفسطاط»
تختلف الدراسات التاريخية في ما بينها على سبب اختيار اسم الفسطاط لهذه المدينة المقامة حديثاً، لكن تذهب الغالبية من الدراسات إلى الاتفاق بعودة هذا الاسم إلى خيمة قائد الجيش عمرو بن العاص، وأن ابن العاص حينما دخل مصر وحاصر حصن بابليون أقام فسطاطه (خيمته) شمال الحصن.
وبعدما سيطر على الحصن أراد التوجه إلى الإسكندرية للانتهاء من آخر معاركه والقضاء على القوة العسكرية التي اتخذت الإسكندرية حصناً لها، فأرسل بنزع خيمته، فوجد طيور اليمام قد عششت بها فأمر بتركها، ولما انتهى من حربه في الإسكندرية وأرسل الى ابن الخطاب باتخاذ الإسكندرية مدينة للجيش ورفض ابن الخطاب للأسباب التي ذكرناها سابقا، قال الجيش لعمرو إذن إلى أين نتجه؟ فقال إلى الفسطاط، وبدأ تخطيط المدينة الجديدة حول الفسطاط الذي استمدت منه تسميتها.
تخطيط «الفسطاط»
استمدت الفسطاط تخطيطها من تخطيط المدينة المنورة أول عاصمة للمسلمين ومركز الحكم، وقد يكون نموذج المدينة هو المخطط الارشادي الذي وضعه الخليفة عمر بن الخطاب لقادة جيشه عند إقامتهم للأمصار والمدن الجديدة بعد انتصاراتهم في حروبهم واستقرار الحكم لهم، فكانت المدن الجديدة في هذا الوقت محافظة على عناصر التصميم الأولى التي أقرتها مدينة النبي بادئ الأمر، كذلك كانت الفسطاط، فكان المسجد أول العناصر التي تم تخطيطها وتحديد مكانها في الموقع المختار.
تذهب الدراسات إلى أن مساحة الجامع بلغت في بادئ الأمر عرض ثلاثين ذراعاً وطول خمسين ما يقرب من عرض 15 متراً وطول 25، وكان هذا المسجد الجامع مقراً للاجتماعات والبت في الأمور الحياتية اليومية، وقد أطلق عدة مسميات على المسجد منها تاج الجوامع والجامع العتيق جامع عمرو بن العاص، وقد ظل هذا الجامع محافظاً على مكانه حتى اليوم مع تغير الزمان واختلاف الحكام، حتى وإن كانت تغيرت بعض عناصره مثل الجدران الخارجية وأعيد بناء جزء منها وترميم الآخر.
وكان ثاني ما تم خطه في الفسطاط دار الإمارة شرق الجامع، وعرفت وقتها بـ«الدار الكبرى»، وقد كان بينها وبين الجامع طريقا ينفصل بينهما ولم تكن ملاصقة له، وسكنها عمرو بن العاص الذي عين والياً للخليفة على مصر حتى وفاته، وقد جعل عمرو بن العاص ميداناً بين داره والمسجد.
ثم جاء اختطاط أماكن القبائل من جيش عمرو، وهو ما حدث تنافس فيه على القرب من مركز المدينة (الجامع)، فاختار ابن العاص أربعة من قادته يمثلون القبائل لمنع النزاع بينهم، فقاموا بتخطيط المدينة وأنزلوا القبائل بها. كذلك اهتم مخططو الفسطاط بالأسواق التي كانت إحدى ركائز المدينة الإسلامية، فقد اختص مركز الفسطاط بالسوق المركزي، وكذلك خططت لمجموعة من الأسواق الفرعية مفتوحة على الطرقات، وشهدت المدينة الجديدة أيضاً مكاناً مخصصاً لدفن الموتى.
توزيع القبائل
تألف جيش عمرو بن العاص مما يقرب من 116 قبيلة، من عرب الشمال وعرب الجنوب وقبائل غير عربية، وقبائل أخرى، وقد اتخذت هذه القبائل موضعها في نفس موضعها السابق في المدينة المنورة، فقد اختارت قبائل عدنان أن تختط مساكنها في شمال الفسطاط، واختارت قبائل قحطان أن تختط مساكنها جنوب الفسطاط، وقد يكون هذا حلاً تم وضعه لمنع نزاع القبائل، فعينت لهم خطط الإقامة وفقاً لأماكن إقامتهم الأولى في شبه الجزيرة العربية.
وكانت المساحة الأكبر وقت تخطيط الفسطاط لصالح قبيلة الوالي عمرو بن العاص الذين بلغ عددهم ما يقرب من ربع سكان الفسطاط في هذا الوقت، واتخذت التجمعات داخل المدينة في بدايتها بساطة التصميمات، بحيث كانت تقام المنازل وفقاً للحاجة فقط، وكان يترك حول كل تجمع أرض فضاء للامتداد المستقبلي، وبالفعل استقبلت الفسطاط عدداً كبيراً من الهجرات إليها، جعلت هذه المساحات الفضاء تضيق وتمتلئ بالمباني يفصل بنها الأزقة والدروب.
لم يكن المسجد الجامع هو الوحيد في الفسطاط، فوفقاً لتعليمات الخليفة عمر بن الخطاب للولاة أن يجعلوا لكل قبيلة مسجداً يتجمعن فيه، حتى إذا كانت وقت الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع، وبذلك شهدت الفسطاط عدداً كبيراً من المساجد الصغيرة التي عرفت باسم مساجد الصلوات الخمس، هذه المساجد التي شكلت في ما بعد إحدى السمات المهمة للقاهرة التي عرفت ببلاد الألف مئذنة، ويرجع بداية هذا إلى عام 53 من الهجرة حينما أصدر مسلمة بن مخلد أوامر للقبائل بأن تبني كل منها منارة لمسجدهم.
الظهير التنموي لمدينة الفسطاط
كان اختيار موقع مدينة الفسطاط اختياراً ذكياً يصل لدرجة العبقرية في توطين المدن والمجتمعات الجديدة، ففي الدراسات العمرانية الحديثة لا بد من توفر ظهير لاستيعاب الزيادة السكانية والامتدادات العمرانية المتوقعة عند اختيار أماكن توطين المجتمعات الحضرية الجديدة، وهذا ما فعله عمرو بن العاص قديماً عند توطينه لمدينته، فقد جعل بن العاص شمال شرقي المدينة الجديدة أرضاً صحراوية، هذه الأرض التي شهدت الامتداد العمراني الكبير للفسطاط في ما بعد، وشهدت خلق عواصم جديدة لمصر مثل العسكر والقطائع وقاهرة الفواطم وقاهرة العصر الأيوبي، فكانت الفسطاط هي الحلقة الأولي في العقد الذي انسدلت منه العواصم التاريخية لمصر.
تطور عمران الفسطاط
شهدت الفسطاط تطوراً عمرانياً كبيراً في العصر الأموي إبان حكم الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري، في العام السابع والأربعين حتى العام الثاني والستين من القرن الأول الهجري، فقام مسلمة ببناء مقياس للنيل بالروضة، وكذلك شرع في بناء دار للصناعة وأتم بناءها، ثم قام بإعادة بناء وترميم المساجد داخل المدينة، وقام بهدم جامع عمرو بن العاص وأعاد بناءه وتوسعته، وأدخل فن المآذن إلى مصر في عهد مسلمة حينما أمر ببناء منارات لجميع المساجد داخل تجمعات القبائل بالفسطاط، ثم تولي عبدالعزيز بن مروان في ما بعد ولاية مصر في العام الخامس والستين من القرن الأول الهجري، وأقام مقياساً للنيل، وزاد في توسعة جامع عمرو بن العاص، وبنى قنطرة على خليج أمير المؤمنين الذي شقه عمرو بن العاص وكان ممراً لحركة التجارة ومرور السفن.
حريق الفسطاط
تعرضت الفسطاط إلى حريق هائل، وكان هذا الحريق متعمداً في أواخر حكم الدولة الأموية، يرجع هذا إلى الأحداث السياسية التي نشبت بين الأمويين والعباسيين، وفر مروان بن محمد من الشام إلى مصر هرباً من جيوش العباسيين، وكان مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية في هذا الوقت، وبعد وصوله فراراً إلى الفسطاط وقام بحرق الجسور التي تربط بين الفسطاط وجزيرة الروضة وأشعل النيران في الفسطاط، لكن هذا الأمر لم يمنع العباسيين من إدراكه وقتلهم وأحكموا سيطرتهم على الحكم.
إذن، لقد كانت الفسطاط نموذجاً ناجحاً لتخطيط المدن من حيث اكتمال عناصر التصميم وتكاملها ومراعاتها الجوانب السياسية والعسكرية والاستراتيجية، وانعكس نجاح تخطيطها على قوتها العمرية التي جعلتها تحيا مع اختلاف العصور، وكانت مركزاً انطلقت منه حضارة واسعة الانتشار.
- تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1987.
- خالد عزب، الفسطاط، النشأة، الازدهار، الانحصار، دار الافاق العربية، القاهرة 1998.
- أحمد محمد عوف، مدينة الفسطاط وعبقرية المكان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2003.
- سامي مصطفي المصري، زينب طابع احمد، البعد الحضاري لمدينة الفسطاط في نهاية القرن العشرين، منتدي التواصل الحضاري بين أقطار العالم العربي.