معضلة الطاعون: الحجر الصحي بين أوروبا والعالم الإسلامي
في مقدمة الترجمة العربية لكتاب «الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية» للمؤرخ الأمريكي شيلدون واتس، الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2010، يطرح د.أحمد محمود عبد الجواد أستاذ علم الطفيليات بجامعة القاهرة مترجم هذا الكتاب، تساؤلين إشكاليين في إطار المقارنة بين التاريخ الإسلامي والأوروبي، لهما قيمة تاريخية ومعرفية غير قليلة، ألا وهما:
1. لماذا لم يطبق العالم الإسلامي في العصر الوسيط إجراءات العزل الصحي ضد الطاعون مع معرفة الطب العربي بالنظرية العامة للعدوى في تلك الحقبة؟
2. لماذا ظهرت إجراءات الحجر الصحي في الشمال الإيطالي ضد الطاعون بين عامي 1374 و1450 م رغم جهل الأوروبيين بطريقة انتقال الوباء في تلك المرحلة؟
عبر الإجابة على هذين السؤالين سيظهر لنا مفارقتان تاريخيتان عميقتان، كان لهما أثر بالغ في كل من التاريخ الإسلامي والمسيحي الغربي على حد سواء.
فأين تكمن كلتا المفارقتين؟ وما هو تفسير ذلك الإشكال التاريخي المعرفي المركب؟
الجذور العربية لعلم الطب الوبائي
يعزي شيلدون واتس مؤلف كتاب «الأوبئة والتاريخ» تطبيق الإيطاليين المبكر لإجراءات الحجر الصحي ضد مرض الطاعون، إلى ما سماه بـ«الهجرة الإحيائية»، ويقصد بها هجرة العلماء المسيحيين البيزنطيين بعد فتح القسطنطينية من قبل السلطان العثماني محمد الفاتح إلى المدن الإيطالية، الأمر الذي قد لا يصمد طويلاً أمام عدة حقائق، حسب قول د. عبد الجواد، ومن تلك الحقائق:
1. تطبيق المدن الإيطالية مثل فلورنسا وميلانو إجراءات الحجر الصحي في عام 1450، أي قبل سقوط القسطنطينية بثلاث سنوات، فضلاً عن أن عزل المدن المصابة بالطاعون في إيطاليا بدأ منذ عام 1374؛ أي قبل سقوط المدينة بـ76 عامًا.
2. لم تكن بيزنطة عند سقوط القسطنطينية في أفضل أوضاعها السياسية والاقتصادية، ولم يكن معروفًا عن تلك المدينة – رغم تقدمها الحضاري – كونها مركزاً من مراكز العلوم والطب علي نحو يضاهي القاهرة أو دمشق أو مراغة أو قرطبة أو طليطلة في ذلك الوقت.
3. ظهور تلك الإجراءات بشكل فجائي، دون وقائع تاريخية محددة في أوروبا تشرح تطور نشأته.
في المقابل، ترجع النظرية العامة للعدوى وإجراءات الحجر الصحي وكيفية التعامل مع الأمراض المعدية إلى الطب العربي، ومن خلال مؤلفاته الكلاسيكية مثل كتاب «القانون» لابن سينا، وكتاب «الحاوي » بأجزائه الـ23 لأبي بكر الرازي الذي طبعت أعماله المترجمة في أوروبا نحو 40 مرة بين عامي 1498 و1866.
يحتوي كتاب الحاوي على أجزاء مخصصة للأمراض المعدية مثل الجرب والسل والجذام. وللرازي كتاب مستقل في صورة رسالة عن «الحصبة والجدري»، توالت طباعته عدة مرات في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وفي مستشفاه التي أسسها على المبدأ التجريبي قسم الرازي مرضاه إلى مجموعتين لتجنب انتشار المرض.
تحتوي المؤلفات الطبية التي ألفها العلماء الأندلسيون – مثل ابن الخطيب الأندلسي وابن الخطيمة الوزير في دولة غرناطة – على تفاصيل توضح انتقال العدوي من الشخص المريض إلى الشخص السليم عن طريق إفرازات المريض مثل البصاق وخلافه.
انتقلت كل تلك المعارف إلى أوروبا عن طريق اتصالها بالمراكز العلمية والثقافية العربية عبر ثلاثة طرق هي:
1. حواضر الأندلس التي ازدهرت علميًا وثقافيًا طوال 8 قرون في أوروبا، كغرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية، التي تتلمذ الكثير من طلاب العلم الأوروبيين على أيدي علمائها وفلاسفتها لقرون.
2. الطريق الثاني كان صقلية التي كانت في أيدي العرب لفترة من الوقت، وأسسوا فيها ولايات مسلمة ضمت جنوب إيطاليا.
3. الحروب الصليبية والتأثر الأوروبي بحواضر المشرق الكبرى، التي أسس الصليبيون إماراتهم وممالكهم مثل (مملكة الرها، بيت المقدس، إنطاكيا، طرابس) بالقرب منها، فضلاً عن كون تلك الحواضر نفسها مراكز علمية وثقافية في العصر الإسلامي.
الواقع التاريخي لنظام الدولة–المدينة في شمال إيطاليا
وبالنظر إلى تقدم الطب العربي على النحو الذي بيناه، يطرح التساؤل نفسه: لماذا لم يبدأ تطبيق الحجر الصحي في العالم الإسلامي بإجراءاته التقليدية، بينما تم تطبيق تلك الإجراءات في الشمال الإيطالي منذ عام 1450، أي قبل اكتشاف العالم والطبيب الألماني روبرت كوخ الميكروبات المسببة للأمراض بأكثر من أربعة قرون؟
رغم جهل الأطباء الأوربيين في تلك الأثناء طريقة انتشار الوباء. أمر برنارد فيسكونتي حاكم ميلانو في هذا بعزل إحدى المدن المصابة بالطاعون عام 1347 بالكامل، وأقامت المدن الإيطالية أبنية مخصصة لمرضى الأمراض المعدية في مدينة جنوا بعد طاعون 1499 -1501، كتحديد انتقال البشر من وإلى الأماكن الموبوءة، عزل المرضى في مستشفيات خاصة للأمراض المعدية، الدفن الإجباري للموتى في حفر خاصة تُغطى بالجير الحي والتخلص من متعلقاتهم الشخصية بالحرق أو الدفن وخلافه.
يكمن تفسير تلك المفارقة الأولى الخاصة بنشأة تلك الإجراءات الصحية في مدن الشمال الإيطالي تحديدًا، في فهم الواقع التاريخي لنظام الدولة-المدينة ذا الصبغة التجارية في عصر النهضة هناك، حيث سمح نوع الحكومة القائم هناك آنذاك – المعتمد بالأساس على قوة الإدارة المحلية والبلدية، ذات القدرة الكبيرة على التدخل في حياة الأفراد الخاصة – بتطبيق تلك الإجراءات القاسية، التي يتعذر تطبيقها في مجتمع كالمجتمع الإسلامي إبان العصور الوسطى، حيث الناس تسير معاشها بعيدًا عن الدولة من خلال طوائف تجارية وحرفية وأوقاف خيرية، ومؤسسات أخرى عديدة تعكس ترتيباً وتركيباً اجتماعيين من نوع مختلف.
المنهجان المثالي والتجريبي بين أوروبا والعالم الإسلامي
تظهر المفارقة الثانية عند محاولة استيعاب المنهجيتين الفلسفيتين السائدتين في أوروبا من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى في تلك المرحلة، حيث كان المنهج التجريبي الحسي الاستقرائي هو السائد بشكل أكبر لدى العلماء والأطباء المسلمين، بينما كان المنهج الأفلاطوني المحدث-المثالي هو المنهج السائد لدى الدارسين الأوروبيين.
تهتم الفلسفة المثالية بعالم الأفكار وتضعه فوق عالم المادة، الأمر الذي مكن الأوربيين من تطوير منهجية عقلية ومعرفية قادرة على التعامل مع الأشياء غير المحسوسة. وهنا تكمن المفارقة الثانية، إذ إن العقل (المسلم) الذي اكتشف نظرية العدوى دون أن يعرف السبب الناقل لها، لم يستطع تطوير منهجية متكاملة قادرة على التعامل مع شيء غير محسوس أو غير منظور، في حين ساعدت المنهجية المثالية الأوروبية التي لم تعرف نظرية العدوي على تطوير منهجية للتعامل مع سبب غير منظور كالميكروبات قبل اكتشافها معمليًا بقرون عدة.
كانت تلك القدرة الأوروبية على التعامل مع الكيانات الافتراضية، مثلما يقول د.عبد الجواد، وراء قدرة أوروبا على إقامة نظام «المؤسسة»، وسبب قوة أوروبا منذ عهد استعمار إسبانيا والبرتغال للأمريكتين، حيث استطاعت أوروبا من خلال تلك الكيانات المجردة (المؤسسات) ليس فقط السيطرة على حركة وانتشار الأعداد الكبيرة واللانهائية من الكائنات المسببة للعدوى المسببة الأوبئة، بل استطاعت أيضًا السيطرة على البشر والتحكم في الجماهير والأعداد الغفيرة من الناس، ومن ثم استطاعت ممارسة الاستعمار والإمبريالية.