بيتسو موسيماني: كل الأطراف تخسر في الحرب إلا الثرثار
مرحبًا، هل تتذكر «شراغيش» أسامة أنور عكاشة في رائعته «النوة»؟ إذا كانت الإجابة نعم، فبالتأكيد تتذكر تلك القصة الملحمية لـ «سوكا» وأخواتها -أو الشراغيش- كما كان يُطلق عليهم.
وإن كانت إجابتك لا، فنحن لسنا بصدد الحديث عنهم، ولا عن رمزية عكاشة في قصته، لكننا سنكتفي بإطلاعك أن تلك التسمية تعود لأحد أنواع الأسماك البحرية التي تتميز بجودة طعمها، ولكن لها طابع خاص، فيُعرف عنها الدهاء، وهجومها الشرس على كل من يحاول أن يقترب من مساحتها الخاصة.
بطل قصتنا يشبه هؤلاء الشراغيش إلى حد كبير، ويُدعى بيتسو موسيماني.
في البدء كان الشك
إن كنت من متابعي كرة القدم المحلية، فبالتأكيد شاهدت الجدل الأخير الذي دار حول الجنوب أفريقي بيتسو موسيماني مدرب النادي الأهلي المصري السابق، بعد سيل التصريحات التي صدرت منه أو عنه في الفترة الأخيرة، وإن كنت في حيرة من أمرك بشأن الرجل؛ فسنقول لك مبدئيًا إنك محق تمامًا في حيرتك تلك.
ففي غضون شهر واحد، صرَّح بيتسو عن كل شيء، بداية من تغزله في حكم نهائي دوري أبطال أفريقيا قبيل اللقاء، إلى تصريحاته ضد الاتحاد الأفريقي وتحميله لهم خسارة الأهلي النهائي الأفريقي، ومنها إلى تصريحاته الأخيرة عن الأهلي قبيل رحيله، والتي أشعلت فتيل الخلاف عليه من جديد، بالإضافة إلى الخلاف في وجهة النظر الفنية حوله، ليستمر حوله مسلسل الجدل الذي طاله منذ أن وطأت قدماه أرض الأهلي.
لكن وقبل أن تطلق حكمك النهائي، ندعوك في جولة عبر آلة الزمن، حتى يمكننا ويمكنك وضع الأمور في سياقها السليم، ولك في النهاية مطلق الحرية في اتخاذ قرارك.
ديجافو: قنابل بيتسو في جنوب أفريقيا
نهاية عام 2012، تولى موسيماني مهمة تدريب فريق صن داونز الجنوب أفريقي، بعد تجربة لم تكن ناجحة، كان فيها على رأس القيادة الفنية لمنتخب جنوب أفريقيا.
وأثناء موسم متخبط للفريق الجنوب أفريقي، استطاع أن ينقذ النادي في موسمه الأول من الهبوط، ثم حقق لقب الدوري في الموسم التالي، وهو ما فاق توقعات ملاك النادي، الذين وثقوا فيه، واقتنعوا برؤيته، ووعدوه بتوفير كل الضمانات التي تُمكنه من استمرار النجاح، ليعدهم بيتسو بغزو القارة بأكملها وليس الدوري المحلي فقط.
اعتمد موسيماني في تحقيق هدفه على غرس ثقافة تطلبه الدائم للفوز في عقلية اللاعبين، وهي مستمدة من طموحه الشخصي كما يقول دائمًا، ويمكن لمعظم اللاعبين الذين عملوا مع موسيماني خلال فترة تواجده في بلاد البافانا بافانا أن يشهدوا على ذلك. فيقولون عادة إنه مدرب صعب العمل معه، إنه يفوز اليوم ويريد الفوز غدًا.
وقد ساعد ذلك صنداونز للذهاب لأبعد ما تمنوا، حيث حقق الفريق تحت قيادته 5 بطولات دوري محلى، بالإضافة إلى لقب دوري أبطال أفريقيا لأول مرة في تاريخ النادى على حساب الزمالك 2016، وتأهل بهم إلى كأس العالم للأندية ثم قادهم للقب السوبر الأفريقي 2017.
كان لبيتسو سلاح آخر في طريقه لتحقيق تلك الإنجازات وهو تصريحاته. فم بيتسو موسيماني كما يصفونه في جنوب أفريقيا هو سلاح فتاك. القنابل التي يسقطها من فمه كان لها تأثير مدمر على منافسيه، وأحيانًا على نفسه.
ولكن في ذلك تكمن المشكلة. نجاح موسيماني، وليس فقط فمه، جعله شخصية مستقطبة بين مشجعي كرة القدم في جنوب إفريقيا.
فإذا لم يكن بيتسو ناجحًا، كان سيتم إقصاؤه من المشهد الكروي بسبب فمه وتصريحاته. لكن وبالرغم من حقيقة نجاحه فإن تحدثه عن رأيه أثار ضغينة الكثيرين هناك.
لكننا أمام حقيقة، بيتسو يتحدث عن رغبته الدائمة في الفوز؛ لأنه ببساطة يفوز، يتحدث عن رأيه بكامل حريته، وينتقد من يُريد؛ لأنه يملك ما يشفع له قول ذلك، يتحدث حتى عن أحقيته في الإدلاء بتصريحاته تلك؛ لأنه أوتي علم كرة القدم من منبعه في أوروبا وأمريكا الجنوبية-على حد وصفه- وبالتأكيد يعرف ما لا يعرفه شعب نيلسون مانديلا عنها.
فمهما تلفظ فهناك دائمًا من يقول إنه أفضل مدرب في تاريخ البلاد، دعه يقول ما يشاء.
أعلم أنه قد ازدادت حيرتك، لكن دعنا نكمل.
فريق يريد الفوز ومدرب لا يعترف بالخسارة
في نهاية سبتمبر/ أيلول 2020، رحل السويسري رينيه فايلر عن تدريب الأهلي، وترك الفريق في مرحلة حرجة قبل نصف نهائي دوري أبطال أفريقيا أمام فريق الوداد المغربي، ما يعني تقلص حظوظ الفريق في حصد البطولة الباحث عنها الأهلي منذ عام 2013.
كان لا بد من إيجاد حل مثالي وسريع. يجب على مجلس الإدارة البحث عن مدرب خبير بخبايا الكرة الأفريقية، وفي نفس الوقت يعرف حجم وقيمة تدريبه لأهم فرق القارة، والإجابة كانت بيتسو موسيماني بلا شك، لمَ لا؟ وهو المدرب الحاصل على دوري أبطال أفريقيا عام 2016 أمام الزمالك، وأحسن مدرب في أفريقيا لنفس العام، بالإضافة إلى خماسية تاريخية كان قد تلاقاها الأهلي أمام صن داونز تحت قيادته في دوري أبطال أفريقيا موسم 2018، 2019.
بداية تاريخية جعلت الرجل يشعر وكأنه في الجنة، بطولة أفريقية ربما هي الأغلى في تاريخ النادي على حساب الغريم الأزلي نادي الزمالك عام 2020، وطدت علاقة بيتسو بالفريق والجماهير، وهو ما جعله يتجه للعبته المفضلة، التصريحات.
جاءت تصريحات موسيماني في البداية أكثر رزانة مما كان عليه في جنوب أفريقيا، بل بدت مثالية أحيانًا، الرجل لا يتحدث عن الفوز والخسارة، بل يُعرب عن سعادته البالغة بالتجربة، ويقدر ثِقلها، وامتنانه للقدر عن وضعها في طريقه. يتحدث بيتسو بمنتهى الصدق، لكنه يعلم أنه لا يمكنه التلفظ بغير ذلك في هذا التوقيت.
آتت هذه التصريحات أُكلها مع الجماهير، ففي غضون شهور قليلة أصبح موسيماني معشوق جماهير الأهلي، حتى ولو اختلف البعض فنيًا عليه، فالرجل أعاد مجد الأهلي الضائع إفريقيًا، لعب بيتسو على هذا الوتر بكل براعة، فلقطة مثل رقصه في فرح حمدي فتحي، ظلت محل حديث وإعجاب الناس لأيام على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما كان يعلم أنه سيتحقق، وأكدت تصرفاته على أنه كان الخيار الأمثل للأهلي بعد سنوات التيه.
كسر حاجز الصمت
حقق الأهلي رفقة موسيماني في عامين ونصف خمسة ألقاب، منها لقبين دوري أبطال أفريقيا، وبرونزيتي كأس العالم للأندية، وبالرغم من خسارة الدوري المحلي موسم 2020-2021 لصالح الزمالك، فإن الجمهور تغاضى عن ذلك بسبب انشغال الفريق في بطولة دوري الأبطال.
بدأ الموسم الجديد بقَسم موسيماني على أن الأهلي سيكون أفضل في الدوري المصري هذه المرة بعدما فهم طبيعته، بدأ الأهلي الموسم المحلي بقوة، وحقق الفوز في ست مباريات متتالية منها الفوز بخمسة أهداف على الزمالك وأربعة أهداف أمام الإسماعيلي وسموحة وتعادل بعدها أمام فيوتشر، ثم ترنحت النتائج بعد مشاركة الأهلي في كأس العالم للأندية، ما أثار انتقادات الجماهير، فلم يجد بيتسو أمامه سوى ما يبرع فيه، نعم، تصريحاته عن كل شيء، وضد كل شيء.
هنا كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وجد بيتسو نفسه مرة أخرى محل نقد الجميع، الجمهور ساخط عليه.
وجد الإعلام الفرصة أخيرًا لتبرير نقدهم له، بالإضافة إلى استدعاء الإدارة له بشكل علني، حتى يُهدئ ثورة كل هؤلاء، لكن بيتسو لا يقبل بلعب دور كبش الفداء.
انتقد بيتسو كل شيء، بدايةً من لاعبين بأعينهم كعدم تسجيل حسام حسن للأهداف، إلى تحميل اللاعبين تذبذب النتائج بسبب إضاعتهم للفرص، إلى تصريحاته الأخيرة علنًا عن نقده للأهلي الذي يُريد الفوز دائمًا، وعن مدى صعوبة بيئة العمل في الأهلي، إلى نقده تأثير الجماهير والسوشيال ميديا على قرارات الإدارة.
هل فهمت الحكاية الآن؟ بيتسو يفوز إذن الأمور على ما يرام، سيصرح عن الفوز إذا كان هو الفائز، وفي حالة حدوث عكس ذلك، سيحكي لك عن جوارديولا الذي لا يفوز بدوري الأبطال، أو كلوب الذي فاز ببطولة واحدة من ضمن أربعة وصل فيها للنهائي.
سينتقد تأثير السوشيال ميديا، ويكون أول اللاجئين لتويتر لبروزة إنجازاته، أو شكوى همومه، من المؤكد أن أسئلة الصحفيين في معظم الوقت تكون لا علاقة لها بفنيات المباراة، وهدفها استفزاز المدرب للحصول على تصريح يشعل المنصات، لكن بيتسو هو بيتسو، نحن فقط لم نتطلع على كامل أسراره،الجمهور كان يهتف له قبل هذه الزوبعة بشهر واحد فقط، وإن سألته حينها عن رأيه فيهم سيقول لك إنهم أفضل جمهور في العالم، لكن ما إن تهاجمه سيُهاجمك بكل بساطة، فهو كما نعرف لا يخسر، ولا يكون سببًا في الخسارة.
هل انتهت قصتنا الآن؟ وصلنا إلى الفصل الأخير، نستسمحك أن تبقى معنا قليلاً.
فيلسوف لم تُقرأ كتبه في القاهرة
تحدث الفيلسوف الألماني «هيجل» في دراسته فلسفة التاريخ عن القارة السمراء باعتبارها فقط أرضًا للموارد، واعتبار سكانها درجة أقل من البشر، وهو ما يحمل بيستو على عاتقه إثبات عدم صحته، حتى ولو لم يقرأ ما كتبه هيجل.
بيتسو ينظر لنفسه على أنه أكثر من مجرد مدرب، بل رسول يحمل فلسفة خاصة في الحياة، و رسالة تحسين صورة شعبه، وأبناء قارته، ضد ما زرعته الإمبريالية في عقول العالم عن الأفارقة.
بيتسو في الأهلي، لأنه حلم بغزو الشمال الأفريقي في مخططاته. بيستو يتحدث كثيرًا، لأنه كان كذلك دائمًا.
وإن سألتنا الآن عن نيته القادمة، فسنقول لك، فإنه كما تحدث عن تدريبه للأهلي قبيل مجيئه للنادي، فإنه تحدث كذلك عن تدريب الفرق العربية في السعودية وقطر، ورغبته في التتويج بكأس أمم أفريقيا، ونثق أنه سيكون هناك يومًا ما، وسيتحدث عن كل شيء، ويهاجم من يُهاجمه، ويترك الجميع في حيرة من أمرهم، ويرحل.
انتهينا الآن، نأمل أن تكون قد زالت حيرتك.