تصاوير الإمام علي: الفن الإسلامي في بلاد الفرس والترك
عندما أقرَّ عددٌ من فقهاء الإسلام مبدأ تحريم التصوير، كان تطبيق هذا الاجتهاد هيِّنًا على سكَّان الجزيرة الذي غرقوا في حياة بدوية غاية في البساطة جعلتهم لا يعرفون عن فنون الرسم والنحت إلا أقل القليل، كما لم يتمتَّع ماضيهم بسابق حضارة تليدة غرست أمجادها في عقولهم وقضت أجيال طويلة منهم عقودًا في التعبير عنها نحتًا وتجسيمًا.
وحينما بلغ الإسلام أقاصي الأرض ومغاربها صادفت شعوبٌ عريقة كالمصريين والفرس والأوروبيين صعوبات جمَّة في الالتزام بهذا التحريم الصارم الذي درجت عليه الأدبيات الدينية السلفية، لذا ظهرت كثيرٌ من المحاولات الحذرة التي قام بها فنانو هذه البقاع يحاولون فيها التعبير عن معتقداتهم الدينية الجديدة بفنونهم الطقسية القديمة.
كانت أبرز هذه الأنشطة هي «التصاوير السرية» التي قام بها فنانون تُعدُّ أعدادهم على أصابع اليد الواحدة حين تجرأوا على رسم الرسول نفسه، وهي «الصور الحرام» التي لا تزال محفوظة حتى الآن في متاحف أسكتلندا وتركيا، لكن لا يُسلَّط عليها الضوء أبدًا بسبب الحساسية المطلقة التي يُكنُّها المسلمون تجاه أي تجسيد فني لشخص النبي في لوحة أو تمثال ما جعل هذه المجموعة الفنية القيمة المبعثرة في متاحف العالم لا تُذكر كثيرًا في كتب التاريخ وسط رغبة إسلامية عامة في التغاضي عن وجودها كأنها لم تكن، وحينما حاول وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة الحديث عن هذا الموضوع في كتابٍ له طُرِح عام 1987م أثار ضجة عارمة، وسُحبت طبعته الأولى من الأسواق ولم يُوزَّع بعدها أبدًا.
وفيما عدا هذه المحاولات البسيطة، شكَّل المسلمون، فيما بينهم، وعيًا جمعيًّا حرَّم الاقتراب من شخص الرسول حتى في نفوس أكثر الفنانين جموحًا وتمردًا على القواعد والمحاذير، والذين التزموا بهذا التحريم لكنهم لم يستطيعوا الامتناع عن التدنِّي قليلاً والقيام بمحاولات لرسم «سادة الإسلام» ولحظات الدين المفصلية الحاسمة في كُتب التاريخ.
وقع اختيارهم على الإمام علي بن أبي طالب ليتسابقوا على رسمه ضمن بيئتهم، وكأنما يتمنَّون نيل شرف الانتساب إليه ولو على الورق وفي الخيال؛ رسمه الإيرانيون كمحارب صنديد يرتدي زيًّا عسكريًّا فارسيًّا، والمصريون كشيخ يرتدي جلبابًا قبطيًّا يجلس في صحراء سيناء، والسوريون كفارس يرتدي سروالاً وحذاءً محليًّا.
فلماذا هو تحديدًا؟
رمزية الإمام علي
لا تكشف لنا الفقرة السابقة فقط عن المكانة الكبرى التي تمتَّع بها الإمام علي في عيون ملوك الإسلام في العصور المتأخرة من الخلافة العباسية، وإنما تنبئنا أيضًا بشيوع استخدام صور الإمام علي بن أبي طالب كأيقونة للتفاؤل والنصر في الحروب منذ القرن الثالث عشر الميلادي على الأقل، وربما يكون هناك استخدامات أقدم من ذلك لكننا لا نعرف عنها شيئًا.
وإذا رغبنا في تحليل هذه المكانة الأيقونية تحديدًا والوقوف على أسبابها فسيكون من الصعب معرفتها جميعًا لأنها تشتبك في حقول معرفية تمتزج بها علوم التاريخ مع الاجتماع مع الجغرافيا مع الدين، لكننا يُمكننا إجمالها في المكانة الدينية الكبرى التي حظي بها الإمام علي عند المسلمين، فهو ابن عم الرسول وزوج ابنته المفضلة، والذي أبدى بأسًا كبيرًا في توطيد دعائم الدعوة بمشاركته في كافة الغزوات عدا غزوة تبوك كما أنه الخليفة الرابع وأحد أربعة خُلِّد حُكمهم في التاريخ الإسلامي فيما عُرف بـ «الخلافة الراشدة».
لكن هذه المكانة وحدها لا تشفع لعلي امتلاك هذا الوضع الفريد، فكثير من الصحابة قاموا بتضحيات هائلة من أجل انتشار الدعوة وبرغم ذلك لم تُوضع صورهم على السيوف ولم تُعلق وجوههم على جدران المنازل، وفيهم قادة عسكريون لا يشق لهم غبار كخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص.
حدث الفارق مع هذا الاحتفاء العلوي اقترانه بعوامل إضافية، منها مثلًا الآلة الإعلامية الشيعية الجبَّارة التي داومت على مدى عقود في تفخيم شخص الإمام علي وإلحاق أكبر قدرٍ من المعجزات به ونسب كل الأفضال الممكنة لشخصه بشكلٍ كاد يُلامس في عظمته مكانة النبي نفسه صاحب الدعوة ومُؤسِّسها.
وبالطبع فإن ثوب المظلومية الذي تم وضعه على شخصية علي في الأدبيات التاريخية كفارسٍ مغوار و«وصي للرسول» كان أحق بالحكم من بعده لولا مبايعة عُمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ما أدى إلى تأخر حق علي في الخلافة سنواتٍ طويلة ولم تأتِ إليه إلا في عصرٍ مُمزق تسوده الفتن، فلم يهنأ بوراثة دولة الرسول، وقضى فترة حُكمه في حروبٍ تكاد لا تنتهي حتى مات، ومن بعده أعمل كلٌّ من الأمويين والعباسيين في ورثته سيوف التنكيل وأشبعوا الأراضي من دمائهم بعدما أراقوها أنهارًا.
وأخيرًا فإن نجاح هذه الدعاوى الشيعية في تطوير آلياتها من مجرد دعاوى معارضة للقُدرة على اقتناص عددٍ من الرقاع الجغرافية في بدن الدولة السنية المترامية، أقاموا فيها دولهم، كالأدارسة في المغرب، والفاطميين في مصر، والبويهيين في العراق وأجزاءٍ من فارس، والحمدانيين في سوريا وغيرها.
كان أحد أهم أهداف حُكام هذه الدول هو ترسيخ المكانة العلوية، أساس وجودهم في الحكم، في عقول شعوبهم ولو عن طريق «أسطرة» شخصية الإمام علي بتدعيمها بكل ما تخيَّله أصحاب هذه الأراضي من صفات ومواقف يمرُّ بها أي رجل يستحق لقب «البطل»، وهو ما أسهم في تحويل سيرة الإمام من مجرد صحابي جليل ورُكن وطيد للإسلام إلى بطل شعبي يقتل التنانين بيدٍ واحدة ويُستغاث بِاسمه في الظلمات فيُلبِّي، أمر شبيه بحديث المصريين عن أدهم الشرقاوي والعرب عن عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي.
وهكذا، امتزجت الثقافات الشعبية مع المرويات الدينية، ربما لأول مرة في التاريخ الإسلامي، لتُنتج لنا أساطير لا تنتهي عن بطولات الإمام علي ومعجزاته التي لا تتوقف، والتي كانت الواحدة منها أكثر من مثالية لتحظى برسم أبدي يُخلِّد هذه الملاحم للأبد ويحفظها من الضياع، وهو ما حرص بعض الفنانين المسلمين على فِعله مستفيدين من سابق التراكمات الفنية في مجال «الرسم الديني» في الثقافة المسيحية وفي حضارات فارس وتركيا ومصر.
الإمام علي.. القديس الإسلامي
يقول شاكر لعيبي في كتابه «تصاوير الإمام علي»، إن صور الإمام علي أُنتجت في بادئ ذي بدء، في الغالب، لدى الشعوب المسلمة من غير العرب التي لم تكن تجد ضيرًا من استخدام الصورة لأغراض دينية، ولأنها تملك ربما أيضًا تاريخًا مختلفًا مع فن التصوير، وهو ما لم يتوفر لدى المسلمين العرب الأكثر تشددًا بشأن تحريم التصوير.
ويؤكد، أن كثيرًا من الفنانين المسلمين تأثروا بفن الأيقونات الكنسية، واعتبروه أفضل نموذج ينبغي تقليده بسبب بساطتها وورعها ما يجعلها لائقة بشكلٍ مثالي للتعبير عن «قديس إسلامي» يستحق هذا الاحتفاء الفني، وهذا ما ظهر في الرسومات المبكرة التي عرفناها للإمام علي والتي تشابهت على نحوٍ شبه متطابق مع بعض النماذج القديمة لصور السيد المسيح.
استخدمت هذه الصور الأوليَّة للإمام نفس المفاهيم التي كانت تحتفي بشخص المسيح قديمًا، ولما كان الغرض إسلاميًّا هذه المرة فكان كل ما جرى هو إزالة صورة يسوع ووضع الإمام علي بدلاً منه مع إضفاء بعض لمحات إسلامية على المشهد، مثل استبدال الإنجيل بالقرآن والاكتفاء برفع إصبع سبابة واحدة في إشارة إلى وحدانية الخالق بدلًا من الأصابع الثلاثة التي كان يرفعها يسوع للتأكيد على عقيدة الثالوث.
ولم تكن هذه الصبغة المسيحية الوحيدة التي ظهرت فيما وصلنا من صورٍ للإمام علي، وإنما لعب النضج الفني المسيحي دورًا هامًّا في «أسطرة شخص الإمام» بعدما لم يأنف الرسامون المسلمون من نقل كافة بطولات القديسين القدامى ومنحها لعلي باعتباره «قديسهم الإسلامي».
وفي هذا الشأن لن نستطيع أن نعرف أبدًا دوافع هذا الإجراء في ظل مجهولية هوية معظم مبدعي هذه اللوحات، هل هم مسلمون شعروا بالغيرة من المسيحية فأرادوا إلحاق كل مَجدٍ ممكن برموز دينهم الجديد؟ أم هم مسيحيون أسلموا حديثًا ولم يستطيعوا التعبير عن رموز عقيدتهم الجديدة إلا كما كانوا يُعبِّرون قديمًا عن عقيدتهم القديمة؟ وهو الاتجاه الذي أميل إليه أكثر، لكن لا أستطيع الجزم به تاريخيًّا بشكلٍ قاطع لعدم توافر الأدلة.
أيضًا، في أعمالٍ فنية كثيرة، تم إظهار الإمام علي إلى جوار أسد، وهي دلالة لا تخلو من ذكاء في استدعاء مخزون استخدام الأسد في الرسومات الدينية على مدى التاريخ، فهو رمز الإمبراطورية البابلية القديمة والجديدة، وبه عبَّر فراعنة مصر عن أنفسهم في تمثال أبي الهول وأشباهه، وأخيرًا فإن الأسد يُمثِّل قيامة القديس يوحنا المعمدان ويرمز للقديس مارك، الذي أُسقطت عليه إحدى فقرات إنجيله «صوت طلع من الصحراء» (صوت طالع في البرية وفقًا للترجمة العربية)، كما يحفل تاريخ الفن بتمثيلات تصويرية كثيرة للنبي دانيال مع الأسد.
وأبرز عملين دلَّا على حجم هذا التأثر هو الرسمتين المتقاربتين زمنيًّا، واحدة للإمام علي والتي انتشرت في أفغانستان وإيران وبين رسم المستشرق الفرنسي هوارس فيرنيه للنبي دانيال.
هذا المشهد نُقل حرفيًّا في العديد من اللوحات بل ظهر بشكلٍ شبه تجاري بعدما نُسج على سجاجيد تُعلق داخل البيوت في أفغانستان، بعدما أضيفت له امرأة في الخلفية هي غالبًا فاطمة الزهراء، وبالطبع فقد فرضت طبيعة النسيج بعض صعوبات في التنفيذ أفقدت الرسَّام القُدرة على منح الرسمة الطابع الأسطوري المعتاد مع أيقونات الإمام علي وبدت بشكل كاريكاتيري بسيط.
وفي بعض المراحل المتقدمة، صار الأسد وحده رمزًا كافيًا للتعبير عن شخص الإمام علي، ولو لم يتواجد بجسده أو ملامحه داخل اللوحة.
ولم يتوقف حجم التأثر الإسلامي بالفن البيزنطي على حدِّ استعارة رمز الأسد، وإنما وصل أحيانًا إلى تقمُّص كامل للهوية المسيحية في التعبير عن الإمام علي بكل الرموز الفنية القبطية المعروفة، مثل صورة الإمام علي في متحف أصبهان، والتي يظهر فيها شخص الإمام علي محاطًا بكل المعاني الأيقونية القبطية مثل الهالة والملاكين المرفرفين والإشعاع الذي يمنح الشخصية بُعدًا ميتافيزيقيًّا وإكليل الزهور.
وما جرى على المسيح نفسه جرى على من هم أقل رتبة في الديانة لصالح الإمام علي، بعدما تمَّ اقتباس بعض اللوحات الاحتفائية الشهيرة بالقديس يوحنا المعمدان، وهي إحدى صور الإمام وهو يحمل القرآن المجيد ويرفع سبابته تأكيدًا على وحدانية الله، وفي ظهره منظر طبيعي خيالي يوحي بالعزلة في الصحراء ومن فوقه شريط كُتب فيه «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».
وهو المشهد الذي يبدو شديد الشبه بصورة قديمة للقديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى بن زكريا وفقًا للمرجعية الإسلامية)، الذي تميَّز برفع إصبعه في معظم الأعمال التي قدمها له الفن الأوروبي، وفي صورة الإمام علي لم يستطع راسمها أن يتخلى من الآثار البيزنطية في الأعمال الأصلية التي اقتبس منها هذا المشهد، فثياب الإمام علي ذات مسحة رومانية وفي ذلك شكل الصندل الذي لم يعتد العرب استخدام هذه النوعية منه.
وهنا يُعلِّق لعيبي: من خلال قراءة كتب التاريخ يتضح حجم التشابه بين سيرتي الرجلين في الزهد والتقشف والحياة اليومية الخشنة والقدرة الفائقة على الخطابة.
فهل يُمكننا أن نفهم من هذه الصور أن واضعيها اعتبرا أن الشخصين العظيمين امتدادًا لبعضهما ولكن في ديانتين مختلفتين؟
وبخلاف ذلك فإن القدر منحنا مُطابقة تاريخية بين عدد الأئمة المعصومين وبين عدد الحواريين الذين حملوا لواء المسيحية بعد يسوع، وكلا الطرفين كانوا 12 فردًا، فشكَّلت صور القديسيين المسيحيين مرجعًا مُلهمًا لأي فنان إسلامي (وبالأخص شيعي) أراد التعبير عن الأئمة الاثني عشر.
في هذه الصورة مثلًا، يجلس الأئمة الاثنا عشر في تقشف متعمد، وفقًا للترتيب الشيعي الذي يحترم التراتب الهرمي العائلي، فقمة الهرم هو الأقدم (الأقرب إلى الصورة) أما قاعدته فهو الأحدث سنًّا والأبعد في الصور، ومثلما كان الروح القدس يصل إلى الحواريين عن طريق رسم قبة وأشعة هابطة منها حتى رؤوسهم، هنا تصل الولاية الموصى بها ربانيًّا، حسب معتقدات الشيعة، إلى الأئمة الاثني عشر بالوسيلة الأيقونية نفسها تمامًا، لكن بعد استبدال القبة بمصدر ضوئي غامض في أعلى الصورة.
ونُلاحظ حجم التشابه الكبير في الملامح والأزياء بين الإمام علي وآله من الأئمة للدلالة على تشابه الأدوار والرسالة.
وكان القبس الأخير من الهدي المسيحي في سباق تبجيل الإمام علي هو استعارة إحدى مكارم القديس مارجرجس (جرجس، جرجيس، جورج)، فنحن نعرف من الأدبيات المسيحية أن تنينًا أصاب أهل بيروت، وكاد أن يلتهم ابنة الحاكم لولا أن ظهر لها القديس مارجرجس وقتله، فعمَّر الحاكم هذا المكان وأقام عليه كنيسة حملت اسمه، واستفاض الرسَّامون في التعبير عن براعته وشجاعته.
لهذا كان على العقلية الجماعية الإسلامية أن تخلق لها «بطل تنين» موازيًا للموجود في المسيحية وغيرها من الحضارات الأخرى، وهو ما تمت إضافته إلى سجل بطولات الإمام علي، فأتى ذِكر أكثر من حكاية تحدثت عن قتالٍ جمع بين الإمام والتنين تغلَّب فيه الأول على الثاني بكل بساطة، كما يحكي لنا كتاب «فتوح اليمن الكبرى» الشهير برأس الغول.
وكثيرًا ما لعب التنين دورًا أساسيًّا في تاريخ الشعوب المقاتلة، واعتبروه رمزًا للقدرة والحماية، ومُنِحت فئة قليلة من البشر شرف الاحتفاء الخرافي بسيرتهم كفرسان لا يشقُّ لهم غبار وقتلة لأعظم كائنات الأرض المخيفة.
وهي الفرصة التي لم يكن الرسامون الفُرس ليتركوها أبدًا، لأنها تُسبغ كل شروط الفروسية على الإمام علي، حتى لو تم تجسيده وهو يتخلص من حيوان لم تعرفه العرب أبدًا وهو التنين.
وهذه الصور شكَّلت تقاطعًا مهمًّا في دخول الفرس على خطِّ الاحتفاء بسيرة الإمام لأنها شكَّلت نقلة نوعية في جودة وعُمق هذه الصور، ولم تعد تقتصر على تبجيل الإمام علي بريشة مسيحية، وإنما أضيفت إلى عُلبة التبجيل فرشاة جديدة مزوَّدة بمدادٍ لا ينضب وقودها حضارة وفن ضاربان في جذور التاريخ، وهي الأمة الفارسية، التي اصطفت من كل صحابة الرسول الإمام علي ليكون بطلها الأول والأخير.
الإمام علي قاهر التنين
فكرة البطل القومي الذي يقتل تنينًا هي تقليد عريق في الثقافة الفارسية، سبق أن قُدِّم بها الأكاسرة رستم وبهرام غور وكاشتاسب في العديد من المنمنمات القديمة، وعلى ذات الشاكلة كان يجب تقديم الإمام علي البطل الجديد لـ «إيران الشيعية».
وفي هذا الشأن لم يجد الإيرانيون أي صعوبة، فلم يفعلوا شيئًا أكثر من استدعاء قصصهم الأسطورية المحفوظة في الشاهنامة، واستبدال قصص وصور لأئمة الشيعة بالتصورات والرؤى والأساليب الفنية نفسها بها، وكان كل ما تغير هو أسماء الأبطال.
مثلًا، حوَّل الشاعر الفارسي ابن حسام مغامرات الإمام علي الملحمية إلى مجموعة من القصائد، رسم لها الفنان فرهان نقاش مجموعة من المنمنمات التي أظهرت الإمام علي وهو يُجهز على التنين.
مزج الفن الإيراني بين الحقيقة والأسطورة ليكون له الفضل الرائد في تقديم الصورة التي نعرفها الآن للإمام علي، وفيما بعد لعب الفنانون الإيرانيون والأتراك ما يُشبه لعبة «هات وخُد» في التبادل الحضاري لهذه الفئة تحديدًا من الرسومات، فبعد أن غرس الفرس البذرة احتضنها الأتراك ونثروها بين جنبات كتبهم.
ويضيف لعيبي: ندين بالفضل في الوصول للشكل الحالي للإمام علي مرسومًا إلى المنمنمات التركية التي اعتنت بتقديم الإمام في بورتريهات نصفية جسَّدته في مواقف عدة، تارة جالسًا بين الخلفاء الراشدين، وهي لوحة محفوظة حاليًّا في متحف اللوفر، وتارة أخرى حزينًا لحظة وفاة النبي، وفيها جميعًا تم الحفاظ على السمت الذي عرفناه لاحقًا في كل صور الإمام كالعمامة الخضراء واللحية السوداء والنظرة القوية المعبِّرة والملامح العربية الصرفة.
في البداية كان هناك حرص على تقديم الإمام علي ملحقًا بشخصية النبي، وذلك بالطبع من منطلق الخلفية العقائدية الشيعية التي سعت بكل الوسائل إلى إثبات أن علي كان الأحق بخلافة الرسول وليس أبا بكر وعمر، وهو ما جاهد الفنان الشيعي لإثباته عبر رسومات افتراضية تؤكد حق علي المسلوب.
هذا المعنى نراه بوضوح في كتاب «جامع التواريخ» لرشيد الدين فضل الله، الذي حوى العديد من المنمنمات شيعية الغرض، نرى في واحدةٍ منها الرسول وهو يرفع يده نحو علي ويشير إلى علي بن أبي طالب وهو يرفع سيفه. وأخرى تظهر النبي وعليًّا ومن فوقهما يرفرف الملاك جبريل تأييدًا لاختياره وليًّا للنبي وفقًا للمعتقدات الشيعية
وهو ذات النهج الذي حافظ عليه رسام علوي تركي متأخر حينما قرر استحضار مشهد للنبي خلال خطابته في مسجد المدينة، فحجب وجه النبي وميَّزه بهالة ذهبية، كان الوحيد من ضمن الحضور الذي نال ذات الهالة هو الإمام عليًّا وولديه اللذين جلسا في ركنٍ قصي.
فيما بعد تطورت بعض هذه المشاهد لتشمل العائلة النبوية بأيقوناتها الرئيسية الثلاثة؛ النبي وعلي وفاطمة، وطبعًا لا نغفل هنا التناسي الشيعي المتعمد لشخصية عائشة زوجة النبي المفضلة أو صديقيه المقربين أبي بكر وعثمان غير المفضلين كثيرًا في الهوى الإسلامي الفارسي.
وفي بعض المشاهد الأخرى، تم تجسيد ملاك يحمل القرآن وهو يُظلِّل العائلة النبوية بأسرها؛ النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة، وفي هذه الأعمال نقابل مجددًا تجليًا مسيحيًّا آخر في هذا النوع النادر من الفن الإسلامي، بعد إعادة صياغة العائلة المسيحية المقدسة بثالوثها الشهير، وتقديم العائلة الإسلامية المقدسة بشكل ثلاثي أيضًا شمل الرسول وعليًّا وفاطمة، وفي بعض الرسومات تجاسر أصحابها وانتهكوا كل قواعد التحريم الكلاسيكية في الفنون الإسلامية وعبَّروا عن وجه الرسول بتفاصيل دقيقة وهو ما تحفظنا على نشره في هذا المقال احترامًا لمقام النبوة.
وفيما بعد يُمكن لمس تطور في رؤية الفنانين للإمام علي بتقديمه منفصلًا عن شخص الرسول كقيمة مطلقة في حد ذاته دون حاجة إلى التمسح في جوار النبي لاكتساب قيمة، ولهذا كان الحرص على تقديم الخليفة الرابع بشكلٍ منفصل كبطل شعبي يمتلك من مقومات التفوق أكثر من مجرد كونه ابن عم الرسول فهو بالغ القوة والحكمة، مثل هذه المنمنمة التي تُظهره وهو يمتطي جواده ويحمل سيفه يحارب أعداءه في صحراء جرداء، بينما قتلاه تحت سنابك جواده، وبالرغم من عدم تخلي الرسام عن اللحية العربية فإن بقية ملامح الوجه كانت إيرانية تمامًا.
ولهذه المنمنمة أشباه كثيرة في كتاب «خاوران نامه»، الذي تم تأليفه في إقليم البنجاب خلال القرن السابع عشر الميلادي، وكل تصاويره اعتنت بتقديم شخصية الإمام كمحارب خرافي، بعدما أسقطت عليه كل خصال محاربي البنجاب بشكل وجوههم وألبستهم الحربية.
تبدو مكانة علي في هذه الأعمال الفنية قد بلغت ذروتها، فحجم شخص الإمام علي لا يختلف كثيرًا عن شخص النبي، وهو ما يعكس المكانة الرفيعة التي ألحقها به الرسام الذي أخرج هذه القطعة الفنية إلى النور، وفي الصورة الأخرى كان هو الوحيد الذي استبق الرسول خلال فتح مكة دلالة على تمتعه بمكانة استثنائية جعلته مع النبي ضمن الطليعة المؤمنة الأولى التي دخلت إلى الكعبة قبل أي أحد، وهو المعنى المُشابه الذي تم تقديمه على أحد جدران مساجد أصبهان بعدما تم رسم مشهد قتالي جمع بين النبي والإمام، ظهر فيه الأخير مرتديًا زيًّا حربيًّا إيرانيًّا بالكامل.
ميدالية الإمام علي
في العام 1643م، قام الرحالة الفرنسي جين شاردان Jean Chardain بزيارة إلى بلاد فارس، وخلال تجوله في أحد أسواق أصفهان شاهد لوحة معروضة للإمام علي، ما يُؤكد أن «صور الإمام» أخذت في هذا الزمن الطابق الأيقوني الطقسي التي يتداولها الناس فيما بينهم داخل البيوت والمحال، ما يعني أن رحلةً طويلة قطعها الإيرانيون مع محاولات رسم الإمام علي حتى وصلوا إلى هذه المرحلة.
فبعد أن وصل فن المنمنمات الإسلامية إلى ذروته تطورت اجتهادات الرسَّامين إلى التخلي عن كل هذه المُحسنات البصرية، وكأن رسامي هذا العصر يعترفون بشكلٍ غير مباشر أن شخص الإمام لم يعد بحاجة إليها، وإنما بات الناس هم مَن بحاجة إليه، ولذلك تم التركيز على تقديم صورته على شكل بورتريه portrait أكثر انتشرت في المعاقل الشيعية الأساسية كالعراق ولبنان وإيران والهند من أجل استخدامها لأغراضٍ طقسية.
وهكذا جرى تحوُّل تام على كيفية تقديم صورة الإمام علي من مشاهد تصويرية حركية إلى صور ذات دلالات واقعية تعتني بالملامح والتفاصيل أكثر بكثير من المشهد المجمل، ومن أجل التركيز على البورتريه وحده، تم اقتطاع شكل الإمام علي القديم في المنمنمات والاكتفاء به وحده وتزويده بكل العناصر التي تمنحه ما يكفي من مهابة.
وفي هذا المجال تحديدًا بذل الأتراك والفرس جهودًا كبيرة بعدما نجح فنانون تُرك علويون في تكوين شكلٍ نهائي للإمام وملامح وجهه التفصيلية، التقط الإيرانيون هذه الصورة وأعادوا صياغتها مجددًا وأضافوا عليها المزيد من التحسينات والتطويرات تمنحها أشكالاً أكثر واقعية.
وهو الشكل الأيقوني الذي بتنا نعرفه الآن، ويتداوله المسلمون (أغلبهم من الشيعة) فيما بينهم، ويعلِّقونه داخل منازلهم وخارجها، بل يصنعون منه أيقونات تبرُّك لميداليات مفاتيح أو زينة لسقف السيارة لجلب الشجاعة والحظ السعيد.