بيكاسو: ما الجميل في رسومات تُسيطر عليها الأشكال الهندسيّة؟
يوافِق شهر إبريل ذكرى رحيل رائِد المدرسة التكعيبيّة بابلو بيكاسو (25 أكتوبر 1881 – 8 أبريل 1973)، واحد مِن أشهر الفنانين في تاريخ الرسم. لم يكُن بيكاسو فقط فنانًا ذائع الصّيت في حياتِه، بل هو أيضًا مؤسّس واحدة من أبرز الحركات الفنيّة في التاريخ، التكعيبيّة. أنتج بيكاسو أكثر من 20 ألف عمل فني طوال حياته، ما بين لوحات زيتية، رسومات ورقية، مطبوعات ومنحوتات وغيرها، مُناقشًا بها قضايا فكرية، سياسية واجتماعية.
ولد بيكاسو في مدينة مالقة في إسبانيا عام 1881. كان والده يعمل أستاذًا للرسم في كلية الفنون الجميلة. درس بيكاسو الفن في طفولته على يد والده، وانتقل بعد ذلك لباريس عام 1901. كانت باريس بالنسبة له بيتًا مثاليًا ليمارس فيه الرسم. في بدايته في باريس، رسمَ بيكاسو لوحات تنتمي لعدة مدارس وكان أسلوبه في الرسم يشهد تطورًا مُستمرًا. وبحلول 1907، تغيّر نمطه تمامًا وفتح فنّه الباب لرؤية مختلفة ستؤثر في مفهومنا للفنّ للأبد.
بين عامي 1907 و1914 في باريس، أسس كلٌ مِن بابلو بيكاسو والرسّام الفرنسيّ جورج براك (1882- 1963) تلك الحركة الفنيّة المعروفة بالتكعيبيّة، والتي أحدثت ثورة فنيّة وفكريّة نافذة امتدت لوقتنا هذا.
سعت التكعيبيّة إلى إعادة تعريف الإنسان والأشياء مِن حوله بعيدًا عنْ مفاهيم الجمال بمعايرها البرجوازيّة الرأسماليّة الحداثيّة؛ فصاغ الناقد الفنيّ الفرنسي لويس فوكسيلس Louis Vauxcelles مصطلع التكعيبيّة بعد رؤيته للوحة بيكاسو «آنسات أفينيون Les Demoiselles d’Avignon» والتي رسمت بأشكال هندسيّة شديدة البدائيّة. وقد استلهم بيكاسو فكرة اللوحة وطريقة رسمها مِن الفنون والأقنعة الأفريقيّة عندما زار متحف «الأثنولوجي/الأعراق» في باريس عام 1907.
ماذا تحكي التكعيبية عنا؟
لعلَّ أبرز ما حاولت التكعيبيّة تقديمه هو رؤية جديدة للأشياء مختلفة تمامًا عن تلك الرؤية الكلاسيكية. لكن كيف أصبح المكعب، المثلث، الدائرة، المخروط والأسطوانة هم الدعائم الأساسية في هياكل بناء الأشياء؟، ما الجميل في رسومات تُسيطر عليها الأشكال الهندسيّة؟، هل هذه الأنماط البصريّة المختلفة تحكي حقًا أي شيئًا عنّا؟، ما هذا الذي كان كامنًا فينا مِن الأزل؟
لقد كان القرن العشرون قرنًا من الاضطرابات الكبرى التي ألقت ظلالها ليس فقط على العلوم الطبيعيّة، الفلسفة والموسيقى بل على الرسم أيضًا. وقد تأثر الرسم كغيره بالنقلة العلمية التي شهدها القرن العشرون بسبب نظرية النسبية لأينشتاين. فقد حطمت فكرة العلاقة بين الوقت والبعد الرابع الكثير من المسلمات في الأواسط الفكرية، وهذا بالتحديد ما قوّى مِن شوكة التكعيبيّة، فكل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي (mathematical structure)، قد نرى أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن مِن خصائص الجزيئات الشحنة الكهربية والحركة، لكن حتى هذه الخصائص هي محض رياضيات. وعليه؛ فإنّ الكون أحد خصائصه الأبعاد، تلك الأبعاد التي تجعله محض بناء رياضي.
لقد ركزت التكعيبيّة على رسم الأشكال والأجسام ببعدين اثنين فقط وأحيانًا أربعة أبعاد، بعيدًا عن فضاء الأجسام ثلاثية الأبعاد بشكلها الطبيعي. كسروا من أجل ذلك الأجسام والأشياء لأشكال هندسيّة مُنتجين لوْحات ذات طابع رياضيّ. فالتكعيبيّة لا تهتم بنقل الواقع كما هو بأشكاله المعروفة المفضوحة، بلْ تفككه، تُكسّره وتشوه نظامه المفهوم لتكشف لنا في طيّات الواقع عن الكسور، التعاريج والتشوهات الكامنة فينا. فيحدُث أن ترى عين الرّسّام في شكل شُعلة ، لوحة الغيرنيكا، تُنير فضاءً مُعتمًا فتمزقه كما يُمزق النور الظّل.
تفصيلة مِن لوحة الغيرنيكا لبابلو بيكاسو