«جيدج» الذي لم يعد كما هو
قد تكون إنسانًا عاديًا، أو هكذا تظن نفسك، أو أنك مجرد نسخة من ملايين النسخ التي حضرت إلى عالمنا وغابت دون أن يتذكرها أحد، وربما أنت كذلك فعلًا، فأنت لا تملك شيئًا مميزًا للغاية، لا موقعًا حساسًا ولا وظيفة استثنائية ولا ثروة طائلة ولا عبقرية أينشتاين الفذة. ومع ذلك، فمن الممكن بين عشية وضحاها أن تصير أنت وحياتك محط أنظار الجميع من العلماء وغيرهم بالدراسة والبحث والتنقيب عبر السنين وتظل حالة فريدة تبهر الجميع على مر القرون، حتى تلك اللحظة التي أخط فيها هذه الكلمات وربما للأبد! بل أن تفتح بابًا لا ينغلق من التساؤلات والإشكاليات العلمية في التشريح والفسيولوجيا وعلم النفس.
عن جيدج والحادثة
رئيس عمال في منتصف العقد الثالث من العمر وسيم نشيط ومندفع –صفراوي المزاج- طبقًا لعلم الـphrenology متوسط القامة من مواليد ولاية نيوهامشير الأمريكية، الابن الأكبر بين أربعة آخرين من الأشقاء، يعمل في إحدى شركات الحفر لمد السكك الحديدية في برلينغتون مدينة كانفيش ولاية فيرمونت، ذكاؤه وإصراره وقدرته على اتخاذ قرارات حكيمة متزنة جعلته في موضع القيادة على فرقة صغيرة من العمال الآخرين.
كان فينياس جيدج (Phineas Gage) يحظى بيوم عمل تقليدي، وكان ذلك يوم الثالث عشر من سبتمبر عام 1848 عصرًا، كالعادة يقوم بتمهيد الطرق لمد خط السكة الحديد، يحفر حفرة صغيرة بجانب إحدى الصخور، يملؤها بالبارود والمفرقعات ويغطيها بالرمال لتحجيم الانفجار، ثم يدكها بقضيب حديدى له نهاية مدببة كالرمح، ولكن المساعد الخاص به لم يبطن أحد المواقع جيدًا بالرمل
كان جيدج يدك البارود بالقضيب الحديدي بينما يحادث أحد رجاله فاغرًا فاه حدث انفجار عنيف أدى إلى اندفاع القضيب ذي قطر 3 سم وطول يفوق المتر بنهايته المدببة ليمر خلال فم جيدج المفتوح -حسب أغلب الأقوال- ومن ثم خلال فكه العلوي وعظام الخد الأيسر وخلف العين قبل أن يمزق الفص الجبهي الأيسر وعظام الجمجمة خارجًا، ليجدوه على بعد أكثر من 25 مترًا من مكان الحادث، حيث وجد ملطخًا بالدماء ودهون دماغه. أصاب جيدج في الحال تشنجات انتهت سريعًا ولدهشة الجميع استطاع جيدج النهوض بمعاونة أصدقائه، وكان يتكلم بصعوبة، تم نقله سريعًا إلى المنزل وتم استدعاء الطبيب المحلي للبلدة د.إدوارد ويليامز. بمجرد نزوله من الحنطور راعه منظر جيدج الجالس في كرسيه يسيل الدم من أنحاء وجهه وتظهر ثنايا دماغه من قمة الرأس، ليستقبله جيدج بابتسامة أكثر رعبا ويطلق واحدة من أغرب الجمل في تاريخ الطب وأشهرها على الإطلاق:
يقول ويليامز إنه عندما رأى جيدج في البداية لم يصدق روايته لما حدث، وظن أنه يهذي ولا يدرك ما يقول، وكان يسعل بشدة حتى إنه أثناء إحدى المرات تناثرت من جرحه أجزاء من دماغه قدرها ويليامز بأنها بحجم فنجان الشاي الصغير!
يبدو أن نبوءة جيدج كانت صادقة لدرجة أن حالته ما زالت تحت الكثير من البحث والعمل حتى الآن بعد مرور قرابة الـ200 عام، حتى إنه ليطلق عليها البعض الآن «the curious case of Phineas Gage» على غرار الفيلم الشهير.
ربما سمعت أن أحدًا ما توفي لتلوث جرح صغير عقب جراحة مما تسببت بتسمم الدم أو حتى لاختراق مسمار صغير لقدمه أدى إلى إصابته بداء التيتانوس، فتخيل مرور قضيب حديدي صدئ وزنه يفوق الـ6 كيلوغرامات وطوله يتجاوز المتر ويستخدم للحفر في التربة بكامله خلال رأسك، وأن تنهض لفورك بل أن تعيش لـ12 سنة بعد الحادثة. والأدهى أن يخترق فصك الجبهي ويدمره تمامًا ويلحق بعض الأضرار بالجهة الأخرى على الأرجح في وقت كان يعتبر فيه المخ وحدة وظيفية واحدة تعمل بقانون الكل أو اللاشيء، وأي ضرر مباشر يلحق بجزء ما منها يؤدي إلى التوقف الكامل والوفاة، ناهيك عن بعض الحروق في اليد والقدم اليسرى جراء الانفجار!
مباشرة بعد الحادث
تم استدعاء جراح محلي آخر حديث التخرج يدعى جون هارلو وبالتعاون مع ويليامز قاما بحلق رأس فينياس لكشف الجرح تمامًا، ثم بدأ هارلو بإزالة الأنسجة الممزقة وشظايا العظام الصغيرة وحاول إعادة بعض العظام إلى مكانها وإغلاق الجرح بواسطة الأشرطة اللاصقة مع إبقاء منفذ لتصريف الصديد وكذلك تعامل مع الجروح في الخد والحروق، ولاحظ أنه مستقر ويعاني فقط تشنجات دورية في أطرافه السفلية.
بعد يومين بدا جيدج محمومًا ويهذي، وتعاقبت الحمى مع فترات صحو، كان قليل الكلام، ولكنه بدأ يتحسن أكثر.
بعد عدة أيام ظهرت عليه علامات تلوث الجرح، شبه فاقد للوعي يتحدث قليلًا جدًا، فاقدًا للشهية، بدت عينه اليسرى وقد تعرضت لغزو الفطريات بازغة خارج محجرها وبدت أنسجة ميتة من المخ تظهر من قمة رأسه. خائر القوى مستسلمًا تمامًا حتى إن أصدقاءه بدأوا بالفعل التجهيزات اللازمة لجنازته، مما دفع هارلو للتدخل السريع، قام بالولوج إلى الجرح من الجبهة وأزال الفطريات والصديد، وقام بالكي الكيميائي للجرح لقتل الميكروبات ومعالجة الخُراج بمهارة فائقة لم يعرفها أطباء هذه الفترة، ويعتبر جيدج محظوظًا بشكل كبير لوجود هارلو الذي بلا شك كان له الفضل في إنقاذ حياته.
بعد حوالي 3 أسابيع كان جيدج قادرًا على المشي، وكان يعاني من حمى طفيفة حتى تحسن تمامًا، وفي 25 نوفمبر سافر إلى بيت أمه وكان ضعيفًا قليلًا، إلا أنه كان يتحسن جسديًا وعقليًا ويقوم ببعض أعمال المنزل ويطعم الخيول ويجمع المحصول، بخلاف أمه التي أخبرت الطبيب أن لديه قصورًا في ذاكرته.
التقييم المبدئي للحالة
في أبريل من العام التالي وصفه هارلو بأنه جيد تمامًا بخلاف فقدان بصر العين اليسرى وسقوط الجفن ليغطيها تماما نظرًا لإصابات الأعصاب نتيجة الحادث، ويظهر انخفاض على الجانب الأيسر من الرأس نتيجة العظام المحطمة، وإلى جانب إصابات طفيفة بعضلات الوجه لتأثر العصب الوجهي، وكان لا يعاني أي آلام بخلاف أن جيدج ادعى أنه يعاني من تغير نفسي ما لا يمكن وصفه.
لم يستطع جيدج العودة إلى عمله السابق، وعوضًا عن ذلك تلقى أجرًا ما نتيجة جولاته على مختلف مدارس الطب ليكون موضع دراسة الكثير من الأطباء المتحمسين في جامعات كثيرة كهارفارد وبوسطن.
عام 1852 سافر إلى تشيلي وعمل سائقًا لعربات تجرها الخيول، وكان جيدًا، ولكنه كان يعاني بعض التدهورات الصحية ونوبات الصرع التي استمرت حتى عام 1859، مما أرغمه على ترك عمله والعودة إلى كاليفورنيا، حيث اعتنت به أمه وأخته حتى توفي جراء نوبة صرع شديدة عام 1859.
عند وصول خبر وفاته إلى هارلو الذي فقد الاتصال به تمامًا قبل سنوات كتب إلى أهله أكثر من مرة يطلب الحصول على جمجمته للدراسة، وأخيرًا حصل عليها وحصل على القضيب المعدني الذي لم يفارق يد جيدج يومًا واحدًا بعد الحادث، وكان ذلك عام 1866 بعد مرور سنوات بحيث لم يتبق من دماغه ما هو صالح للدراسة، وحتى الآن تقبع جمجمته والقضيب الحديدي في متحف وارن التشريحي Warren Anatomical Museum بهارفارد.
ما غيره جيدج من مفاهيم الطب النفسي
أهمية حالة جيدج ترجع لكونها فتحت الباب لدراسة العلاقة بين السلوكيات والفص الجبهي من المخ، والذي لم يكن معروفًا دوره حتى ذلك الوقت، من خلال مشاهدات الأصدقاء وشهادة هارلو نفسه الكاملة بعد وفاة جيدج. فإن التغييرات السلوكية والشخصية نتيجة الحادث كانت وخيمة، حيث إن الإصابة دمرت فصه الجبهي وبعض المناطق المجاورة على أقل تقدير مؤثرة على وصلات الجهاز الحوفي limbic system العصبية مما يجعل المشاعر وردود الأفعال مضطربة وبعيدة عن السيطرة، حيث إن الفص الجبهي مسئول عن التخطيط والسيطرة على المشاعر واتخاذ القرارات المنطقية والتصرفات والسلوكيات الاجتماعية.
ومن شهادة هارلو فإن جيدج بعد الحادثة بدا وقد اختل ميزانه بين سلوكياته الاجتماعية والأفعال البدائية النابعة عن الفطرة الحيوانية للإنسان، فبدا جيدج عنيفًا، غير محترم أحيانًا، فظًا، غليظ القلب غير قادر على تمييز القيمة المالية للنقود، وفقد القدرة على التخطيط، وباتت ردود أفعاله غير متوقعة. أظهر سلوكًا به عداء اجتماعي ولكن حب وعطف تجاه الحيوانات والأطفال، حيث إنه لم يستطع الحفاظ على وظيفته واستغنت شركة الحفر عن خدماته، وكذلك لم يستمر في كثير من الوظائف واتجه إلى العزلة وشهد نفورًا ملحوظًا تجاه الجنس الآخر، أي لم يعد لديه أي أنشطة جنسية.
ومع ذلك يرى الآخرون أن قلة المصادر الموثوق فيها في حالة جيدج فتحت المجال لخيالات الكتاب والصحافيين، حيث كان جيدج بمثابة ورقة ناصعة البياض يخط فيها من يشاء كيفما شاء، وأنها نموذج لصنع الخرافات الطبية والاجتماعية من معلومات يسيرة. حيث إن سجلاته بعد الحادث في تشيلى تشير إلى أنه كان يتولى رحلات طويلة المدى في أثناء الحرب ينقل بها الزبائن والبضائع ولم تشهد ما يقال من عدوانية أو رعونة، على العكس كان يشيد به البعض لقيادة عربات تجرها ستة خيول عبر طرق غير ممهدة ولمسافاة طويلة يستلزم بعضها السهر ليلًا والحزم الكبير واليقظة.
في صورة مرسومة لجيدج عثر عليها مؤخرًا عام 2014 بدا مهندمًا وسيمًا أنيق المظهر ممسكًا بالقضيب الحديدي وعينه اليسرى مغلقة تمامًا.
أرجع علم الـphrenology الذي أسسه فرانز جول يقوم على دراسة الصفات من خلال حجم المخ وشكل ثناياه وتوزيعها والذي – أصبح من التراث حاليًا – أن جيدج أصيب في بعض المناطق المختصة بالصفات الحميدة كالكرم والخوف من الله.
للأسف لم يتسن للعلماء الاحتفاظ بدماغ جيدج، حيث إنه تحلل تمامًا قبل استعادة جمجمته، إلا أنه فتح المجال لبداية عصر الـpsychosurgery والـlabotomy وهي علوم تقوم على معالجة الاضطرابات العقلية باستئصال أجزاء من المخ قد تكون مسئولة عنها بعد أن أثبت جيدج أن الإنسان يمكنه العيش بصورة طبيعية بعد فقدان أجزاء من مخه. وشهد هذا العلم ازدهارًا كبيرًا حتى منتصف القرن العشرين بعد ظهور كثير من العقاقير المضادة للاضطرابات العقلية، والتي جنبت المرضى الآثار الجانبية العديدة غير المتوقعة من الجراحات.
أيضًا حالة جيدج طرحت تساؤلات كثيرة عند أطباء الأمراض العصبية والسلوكية وعلم الأعصاب عن قدرة المخ على الشفاء الذاتي واسترجاع القوة العقلية بعد تعرضه للإصابات البليغة مما كان مرفوضًا تمامًا قبل جيدج.
فى النهاية تظل حالة جيدج غريبة ومرجعًا أساسيًا لكل الإصابات المشابهة، ويبدو أننا لن نعرف يومًا ما يقينًا ماذا ألمَّ بجيدج، وكيف أثرت الإصابة عليه؟ ولكنه سيظل محط الدراسة والبحث للكثير من السنوات بعد الآن.
- Phineas Gage, Neuroscience’s Most Famous Patient
- Phineas Gage: Neuroscience’s Most Famous Patient
- Phineas Gage
- Phineas Gage and the effect of an iron bar through the head on personality
- Meet Your Master: Getting to Know Your Brain – Crash Course Psychology #4
- Psyc 104 Week 1 – Phineas Gage
- Lessons of the brain: the Phineas Gage case