لا أحد طبيعي: فلسفة الطب في ظل التنوع البشري
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
هكذا ختم جوناثان شول مقاله الذي يتحدث فيه عن أحد المفاهيم الأساسية في فلسفة الطب؛ ألا وهو مفهوم الطبيعي أو العادي. فيتحدث في البداية عن ادعاء الفسيولوجي الفرنسي كلود برنارد أن التنوع البشري يقف عائقًا أمام اليقينية الطبية، حيث إن أمكن التعامل مع المرض باعتباره مجرد انحراف كمي عن وضع «عادي/طبيعي» محدد مسبقًا، سيكون من السهل العلاج، إذ يكون الهدف هو مجرد رد الشخص أو الخلية أو العضو المريض إلى حالته الطبيعية.ويقرر شول كون هذا التصور قد سيطر على البحث البيوطبي لفترة طويلة، إذ يعمل الباحثون على دفع الخلايا أو الأعضاء إلى حالة من الانحراف كي يستطيعوا تحديد الحالة الطبيعية. إلا أن هذا التصور، فيما ينقل شول، لاقى معارضة من تصور مختلف يقضي بأنه ماذا إن لم يكن هذا الانحراف هو «طبيعي تم كسره» بل هو حالة مختلفة نوعيًا. ويشير إلى كون هذا النوع من الجدال النظري لا يلتفت إليه الباحثون الطبيون، إلا أن فلاسفة الطب مهتمون به بشدة. وتركزت مساهماتهم على كيفية كون مفهوم الطبيعية هذا مفهومًا علميًا، وما هو بالضبط؟!.قدم الفيلسوف يرجي فاشا عام 1978م تصنيفًا جيدًا لاستخدامات كلمة طبيعي، فقال، فيما ينقل عنه شول، إن كلمة طبيعي تستخدم بمعانٍ متعددة منها متكرر أ، متوسط أ، نموذجي أ، صالح أ، الأفضل أ، المثالي. ومهما كان الأمر، فإن جعل الشيء –أي شيء بدءًا من الأعين الخضراء إلى العيش باستسقاء في الرأس- غير طبيعي يستتبع نتائج مهمة، إذ أن اعتباره كذلك يعني ضرورة إعادته إلى معيار ما، إلا أن تحويله إلى مرض يعد أمرًا مثيرًا للجدل إلى حد ما. وفي القرن العشرين، قدّم الفيلسوف الفرنسي جورج كانجليم رؤية جديدة في الأمر، وأثبت أن هذه الرؤية القديمة عن الطبيعي وغير الطبيعي تفتقر إلى فهم تنوع الكائنات الحية الذي نقلته البيولوجيا التطورية. فيقول إن الكائنات البشرية تُنشئ صورًا جديدة من التكيف مع البيئة من أجل البقاء. فمهما كان الوضع الذي يحياه الفرد نادرًا أو بعيدًا عن المعتاد، يجب اعتباره طبيعيًا طالما يعمل بكفاءة وحقق البقاء. أي أن الأمر، فيما يرى شول، يرتبط كليًا بالسياق. فما يعد طبيعيًا بالنسبة لأحد الأشخاص لا يعد كذلك بالنسبة للآخر، وهذه النسبية البيئية موجودة في كل مكان. فلا البيئة وحدها يمكن إصدار حكم عليها بأنها طبيعية، ولا كذلك الفرد نفسه، بل الأمر مرتبط بالعلاقة بينهما هي التي تحدد الخط الفاصل بين التنوع الطبيعي وبين الانحراف غير الطبيعي. إلا أن هذا الفهم السياقي، بناءً على استدراك شول، ليس مطلقًا ولا عالميًا. ولا يجب أن نتوقف عن التفرقة بين الظواهر الصحية والمرضية بحجة أن الأمر يختلف من شخص لآخر، لكن يجب النظر إلى الصحة والمرض من خلال صور انتظامهما النفسية والسلوكية والهيكلية، وعلاقاتهم السببية. ولذلك، قدّم كانجليم تمييزًا بين الأنماط «الدافعة» وأخرى «مُنفّرة».فالنمط الدافع يشير إلى القدرة على التعامل مع الاضطرابات الصحية وإنتاج الأجسام المضادة للجراثيم والسموم، أما المنفر هو الذي يشير إلى الهشاشة في مواجهة ضغوط البيئة. تََسمى هذا النمط من التفكير بعد ذلك بنظرية التطبيع، فتصبح هناك مفاهيم أوضح من مفهوم الطبيعي كقوة التحمل، والمرونة والهشاشة. هذه المفاهيم الجديدة تشكل مدخلًا للدراسة يسمى ببيولوجيا النظم، والذي يتناسب تمامًا، في رأي شول، مع البيئة المتغيرة التي تحدث عنها. فالنظم الحية صلبة أو هشة بالنسبة للظروف الداخلية والخارجية. فالنظم الحية لا تنفصل أبدًا عن الوسط الذي تحيا فيه. ولهذه المفاهيم أهمية شديدة فيما يتعلق بالنظرة التي ننظر بها إلى الصحة والمرض. فهذا المدخل –نظرية التطبيع ومدخل بيولوجيا النظم- يعيد الاعتبار للمرض وينزع عنه الوصمة السيئة التي أصابته، بالإشارة إلى أن كلًا من الصحة والمرض أمران طبيعيان، ويعكسان صورتين مختلفتين للتأقلم مع الحياة.ليس من الضروري، كما يرى شول، أن نرى المرض باعتباره مفيدًا أو سببًا في بناء الشخصية أو طريقًا إلى التنوير كما ادعى البعض، لكن يجب أن يتم التعامل مع المرض والصحة باعتبارهما شيئين متشابهين ولا يتم التمييز بينهما. ويختم شول مشيرًا إلى أنه بناءً على ذلك لا يجب أن يتم التعامل مع الطب باعتباره محاولة إعادة الأشخاص «المرضى» إلى معيار سابق متفق عليه باعتباره الطبيعي، بل يجب أن يُنظر إليه أنه محاولة للتعاون مع الفرد للبحث عن طريق جديد للتعايش مع الظروف الجديدة التي يمر بها بناءً على تاريخه الشخصي وفسيولوجيا جسده الخاصة.