كتاب «فلسفة علم الاقتصاد»: هل كان علماء الاقتصاد على خطأ؟
يستهل الاقتصادي الكبير د. جلال أمين مقدمة كتابه بسؤال سيُلازمنا طويلاً في هذا الكتاب وهو: هل وجدت لعلماء الاقتصاد طيلة القرنين الفائتين تحيزات مسبقة أثّرت على صياغتهم لقوانين الاقتصاد، والتي نبني عليها نظرياتنا الاقتصادية حتى اليوم؟
يقول الكاتب إن الاقتصاديين –شأنهم شأن العامة- يتأثرون بمغالطات منطقية كثيرة تؤثر على صلاحية نظرياتهم للتطبيق على المدى البعيد. فالاقتصاديون كثيرًا ما توجد لديهم أفكار مسبقة يمكن أن توصف بالتحيزات أو الأهواء، وكثيرًا ما تكون لديهم أيديولوجيات تدفعهم دفعًا إلى صياغة تنظيرات من الممكن أن تؤدي إلى ضرر كبير في حالة تبنيها من قِبل الساسة والزعماء.
يمتلئ التاريخ بالكثير من الأنظمة السياسية التي تلقفت نظرية اقتصادية معينة، وسرعان ما بنت عليها أيديولوجيتها ومبررات وجودها. يتضح ذلك بمقارنة تنظيرات السوق الحر للاقتصادي الشهير «آدم سميث» وتنظيرات الاقتصادي الألماني الأشهر «كارل ماركس» حول ضرورة تقاسم ملكية أدوات الإنتاج. فكلتا النظريتين استخدمتها أوروبا والولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي وحلفائه من جهة أخرى، لتحقيق هيمنة عالمية على السوق الدولي. فمن يملك ناصية الاقتصاد، يحق له أن يقود شعوب العالم.
يقول الكاتب إن تنظيرات السوق الحر وشيوعية أدوات الإنتاج لم تخل من التحيزات المسبقة والأهواء الشخصية. وكثيرًا ما امتزجت بواقع سياسي لم يتكرر مثله في التاريخ، تحاربت فيه العديد من القوى للسيطرة على مقدرات الشعوب ووسائل الإنتاج. لذا من المُستهَجن أن نتبنى نفس هذه النظريات الآن -وهو ما يحدث على نطاق واسع- في عالم اختلف بشكل جذري عن العالم الذي صيغت فيه هذه التنظيرات.
هل الأنانية هي المحرك الرئيسي للسلوك الاقتصادي؟
عندما تُطالع التعريفات الأساسية التي صاغها علماء الاقتصاد عبر التاريخ، ستجد أنهم يُعرّفون علم الاقتصاد بصفته العلم الذي يستطيع به الإنسان أن يدير موارده المحدودة لتحصيل أكبر منفعة له. فالإنسان –وفقًا لتعريفاتهم- لا يحفِّز سلوكه الاقتصادي إلا مصلحته الشخصية، ولا يدفع عملية تبادل السلع والخدمات في السوق إلا ترتُب منفعة مباشرة لكلا الطرفين.
يجادل الاقتصاديون أن الأنانية الاقتصادية ستُحقق في النهاية الرفاهية للمجتمع بأكمله. فالثري على سبيل المثال إذا ما أنفق ماله على ملذاته الخاصة التي لا تستهدف إلا إشباع احتياجاته، سيخلق في سبيل ذلك فرص عمل لأشخاص آخرين. لذا إذا ما قيّدنا حرية الأثرياء بفرض ضرائب أكبر عليهم –على سبيل المثال- سيؤدي ذلك في النهاية إلى تحفظهم على تعيين موظفين جدد.
في الواقع من الممكن أن يكون هذا صحيحًا. فنحن قد وُلدنا ونحن لدينا استعداد فطري للتصرف على النحو الذي يضمن لنا البقاء، وإذا ما تعرّض الفرد إلى موقف تتعارض مصلحته الشخصية فيه مع مصلحة غيره، فغالبًا ما يختار مصلحته. لكن كثيرًا ما يغفل –أو نقول يتغافل- الاقتصاديون عن المُحرِّكات الخفية الأخرى التي تُحرِّك سلوكياتنا الاقتصادية بعيدًا عن الأنانية والفردية. ماذا عن التبرعات والمساعدات الاجتماعية التي يختار العديد من الأشخاص (العقلانيون) القيام بها؟ فهي وفقًا لتعريفات الاقتصاديين قرار اقتصادي غير حكيم ولا يجلب منفعة مباشرة على صاحبه.
يقول الكاتب إن الاقتصاديين قد مالوا أكثر وأكثر إلى صياغة تعميمات وقوانين يبدو الإنسان فيها وكأنه أشبه بالآلة، التي تتخذ نفس القرار في كل مرة مهما اختلفت الظروف أو البيئة المحيطة. ووفقًا لرؤيتهم سيظل نظام السوق يعمل إلى الأبد دون أن يُصاب بالعطل للحظة. فالمستثمر/الرأسمالي سيظل يبحث عن تعظيم أرباحه، والمستهلك سيظل يبحث عن أكبر منفعة في مقابل أقل سعر، والباحثين عن عمل سيظل بإمكانهم العثور على عمل طالما ظل نظام السوق بخير.
هذه النظرة الميكانيكية التي بلغت ذروتها عندما صاغ اقتصادي القرن السابع عشر الأول «آدم سميث» مصطلح «اليد الخفية» في كتابه «ثروات الأمم» متأثرًا بالثورة الصناعية واكتشافات «نيوتن» الجديدة التي اعتبرت الكون كآلة واحدة عملاقة تسير بدقة الساعة.
هل الفقراء مسئولون عن فقرهم؟
بعد 22 عامًا من صدور كتاب «ثروات الأمم»، ظهر كتاب «مقال عن مبدأ السكان» لـ «روبرت مالتوس»، الاقتصادي الذي يعتبر واحدًا من أكبر المُنظرين الاقتصاديين عبر التاريخ. خلّف هذا الكتاب ضجة هائلة وتبناه العديد من الاقتصاديين لوضع نظرياتهم المتعلقة بالأجور والربح والنمو الاقتصادي، كما تبناه عالم الأحياء «تشارلز داروين» في وضع نظريته عن «الانتخاب الطبيعي»، فيما رفضه اقتصاديون آخرون مثل «كارل ماركس» قائلين إن الكتاب «سبة في جبين الإنسانية».
يرى «مالتوس» في كتابه أن معدل تكاثر الشعوب يتضاعف كل جيل، حيث إنه يسير بمتوالية هندسية، بينما لا يتضاعف إنتاج المواد الغذائية بنفس المتوالية. لذلك ستأتي مرحلة من الزمن لا يتمكن فيها الأفراد من الحصول على حاجاتهم الغذائية ويتعرضون لمجاعة حتمية.
لعلك شممت الآن الرائحة الخبيثة لهذا التنظير ودعني أخبرك أنك لست وحيدًا، فقد تم انتقاد هذه النظرة الاقتصادية من قبل الكثيرين لأنها ارتبطت بفكرة (اليوجينيا)، والتي تعني تطهير المجتمع من الفقراء والضعفاء الذين سيكون مصيرهم الموت في كل الأحوال، ووضع قواعد مُسبقة لتكاثر بشري أفضل.
يقول الكاتب إن تنظيرات «مالتوس» أصابها العديد من التحيزات والأفكار المسبقة، مثل التفاؤل والتشاؤم، فقد تكون السنوات التي ظهر فيها الكتاب قد شهدت زيادة غير مسبوقة في النمو السكاني، ولكن هذا لا يمنع ظهور العديد من تقنيات الزراعة الحديثة التي أمّنت الاحتياجات الغذائية لجميع الأفراد ومنعت المجاعات التي اعتقد «مالتوس» إنها ستحدث لا محالة.
التحيّز الآخر الذي نحن بصدده، هو العصر الذي دوَّن فيه «مالتوس» تنظيراته الاقتصادية. حيث كانت الثورة الفرنسية هي المُسيطرة على الأفق وكان يسود الخوف لدى دوائر من المثقفين والسياسيين الإنجليز أن تمتد نيران الثورة إلى بلادهم.
إذن نستطيع أن نتفهّم دوافع «مالتوس» في مناوئة أي حديث عن إمكانية الإصلاح الاقتصادي، أو على الأقل عدم جدوى الاعتقاد بإمكان حدوث تغيير جذري في المجتمع. فما جدوى الحديث عن سياسات اقتصادية تنقذ الفقراء إن كان من المُقدَّر لهم أن يموتوا نتيجة لمجاعات محتومة؟
لذلك سرعان ما اعتمدت حكومات كثيرة على تنظيرات «مالتوس» للتنصل من مسئولياتها والفشل المستمر لقراراتها الاقتصادية، بإلقاء اللوم على أسباب خارجة عن إرادتها مثل النمو السكاني.
أما التحيز الثالث الذي اعترى تنظيرات «مالتوس»، كان تحيزًا طبقيًا. فكتاب «مالتوس» ظهر في عصر الثورة الصناعية في إنجلترا وكان لزامًا أن يروِّج لمصالح طبقة الرأسماليين وتقديم تفسيرات جديدة لفقر الشعوب مختلفة عن التفسيرات الحقيقة لفقرهم، والتي من بينها تعرضهم للاستغلال.
فطبقًا لتنظيرات «مالتوس»، ليس هناك فائدة تُرجى على المدى الطويل من دفع أجور أعلى للطبقة العاملة، لأن هذا سوف يُحفِّز سلسلة من الأحداث تبدأ بارتفاع نسبة مواليدهم، ومن ثَمَّ تآكل قدرة الدولة على توفير المواد الغذائية التي تتماشى مع هذه المعدلات، وفي النهاية النتيجة معروفة.
لماذا هناك فقراء في العالم؟
بقدر ما يبدو لك الجواب بديهيًا، إلا أن علماء الاقتصاد قد احتاروا في الكيفية التي يحدث بها الفقر.
فقد تصوّر الاقتصاديون أن الاقتصاد سيظل دومًا قابلاً للنمو المستدام، وسيبقى العرض والطلب متوازنين عاجلاً أم آجلاً، ليخلقان دوافع قوية في استمرار عملية الإنتاج والاستهلاك، ومن ثَمَّ خلق وظائف على طول الطريق. لذلك أسقط في أيدي الاقتصاديين عندما رأوا الهوة بين الأغنياء والفقراء تتسع حتى أصبح أقل من 10% من سكان العالم يكسبون أكثر من الـ 90% الباقية.
يحذر الكاتب هنا من تصوير مشكلة الفقر على أنها مشكلة تنتج عن سوء توزيع الدخل القومي. فالقومية نفسها مصطلح حديث نشأ عندما نشأت الحاجة إلى دولة موحدة تحمى مصالح أفرادها وهو لم يكن الوضع من أقل من ألف عام.
فالفقر إذا ما تم تصويره كأنه نتيجة لسوء توزيع الدخل القومي سيكون الحل الخاطئ هو زيادة الدخل القومي، أو بعبارة أخرى، تقليل الأعباء الضريبية على الأغنياء لزيادة استثماراتهم في الاقتصاد القومي.
يقول الكاتب إن هذه الطريقة الملتوية في القضاء على الفقر عبر جعل الأغنياء أكثر ثراءً على أمل أن يتسرب بعض من هذه الثروة إلى الفقراء، لن تفلح أبدًا، بالعكس ستزيد الفقراء فقرًا على المدى الطويل، وذلك بدلاً من الحلول التي تفيد الفقراء بشكل مباشر مثل: خلق فرص عمل مناسبة، وسنّ قوانين تفرض حد أدنى من المرتبات بهدف توزيع الثروة بشكل عادل.
وبالمناسبة، هذه هي الطريقة التي طالما روّج لها الاقتصاديون، فهم يرفضون بشكل قاطع تدخل الدولة لتحسين دخول مواطنيها، مفضلين الركون إلى «اليد الخفية» للسوق، زاعمين أن أي تدخل في صالح الفقراء سيضر بمعدل نمو الناتج القومي.
ولكن دعنا نقطع الشوط إلى آخره، ماذا يعني أن تقل نسبة النمو من 7% إلى 3% في سبيل ما يمكن أن يتحقق إذا ما انتشلنا قطاعًا واسعًا من المواطنين من مستنقع الفقر؟ ألا يعني ذلك تخفيف التوترات الاجتماعية؟ مثل الجرائم التي يقوم بها بعض الفقراء لمجرد سد حاجاتهم من الغذاء والدواء، أو المليارات التي يدفعها الأغنياء عن طيب خاطر لحمايتهم من تأثيرات ثورات الجياع؟ ألا يعني ذلك إضافة شريحة أكبر من المواطنين إلى الاقتصاد، كانوا غير قادرين من قبل على كسب قوتهم والآن بإمكانهم إضافة استهلاك سلع وخدمات من السوق؟ ألا يعني ذلك منافع تفوق أضرار تقلص معدل النمو القومي الذي طالما نَظٌر له الاقتصاديون عبر العصور وتلقفه منهم الساسة ليقيسوا إنجازاتهم بقدرتهم على تحقيق معدل نمو قومي أكبر من جيرانهم؟
إن النظرة إلى قضية الفقر يجب أن تظل دومًا نظرة فردية، تركز على تنمية الإنسان وتوفير كافة السبل التي تضمن تحسين تعليمه ودخله، أما النظرة التي تنظر للفقر على أنه نتاج لأشياء معقدة مثل سوء توزيع الدخل القومي أو العولمة أو تنافس التجارة الدولية، فهي نظرة سقيمة تهدف إلى إخلاء مسئولية الحكومات وتمييع قضية الفقر باعتبارها قضية غير قابلة للحل.