هل ماتت الفلسفة حقًا كما أعلن ستيفن هوكينج؟
لقد حملت الفلسفة على عاتقها منذ القِدم مهمة البحث عن الحقيقة والخوض في شتَّى مباحث المعرفة، فكانت الفلسفة هي أم العلوم وأبوها، وكان الفيلسوف مرادفًا للعالم، أي الإنسان صاحب العلم والمعرفة والحكمة. ذلك كان حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الثورة العلمية تأخذ منحى جديدًا وتتسارع وتيرة اكتشافاتها بشكلٍ غير مسبوق، بداية من نظرية داروين في علم الأحياء، مرورًا بسيجموند فرويد وتأسيسه لعلم النفس التحليلي، وصولًا إلى فيزياء أينشتاين ثم ميكانيكا الكم. فبدأت شمس الفلسفة في الأفول تدريجيًّا، وأخذت تفقد تلك العجوز هيمنتها على آليات المعرفة لصالح العلم التجريبي، ذلك الشاب الجديد الواعد الذي بات يسيطر على الساحات الأكاديمية في مختلف المجالات.
وأخيرًا، قبل سنوات، أعلن الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفين هوكينج في مُفتتح كتابه «التصميم العظيم»، بجرأة، موت الفلسفة، وقد تردد صدى تلك المقولة بكثرة على ساحات الباحثين والأكاديميين بين مؤيد ومعارض. هل ذهبت الفلسفة حقًّا إلى مثواها الأخير أم بالغ هوكينج في تقديراته؟
العلم مقابل الفلسفة
قبل أن نشرع في عرض أدوار ومهام الفلسفة في العالم المعاصر، علينا أولًا أن نكتشف هل تقف الفلسفة حقًّا وجهًا لوجه مقابل العلم، أم أن تلك العلاقة الندِّية المُصوَّرة هي نتيجة قصور في استيعاب المهام الحقيقية للعلم والفلسفة، وللحقول الخاصة بكلا المبحثين.
ينبغي علينا أن نستهل بحثنا من الموضع الذي انطلقت منه تلك الرؤية، وهو ما قيل من هوكينج في كتابه أن الفلسفة قد ماتت. إن هوكينج كان يتحدث في ذلك الموضع عن موت دور الفلسفة في تفسير الكون المادي والظواهر الطبيعية، وهو بالطبع ما لا يمكن أن نختلف بشأنه. إن العلم التجريبي من خلال التطور التقني والتكنولوجي استطاع أن يسبر أغوار الكون بفاعلية كبيرة، ويستدل على الكثير من أسراره بشكلٍ دقيق، وذلك ما كان مستحيلًا على الفلسفة في ظل أدواتها المحدودة سابقًا المتمثلة في مناهج الملاحظة البسيطة والتأمل.
إن حصر الفلسفة في ذلك المعترك هو ما يضعها ندًا أمام العلم، ولكن في الواقع الفلسفة لم تكُن يومًا مختصة بذلك الشأن المهتم بتفسير الوجود المادي بشكل حصري، إن الفلسفة تهتم بالعديد والعديد من المباحث، وسنتناول في مقالنا ذلك ما يمكن أن تقدمه الفلسفة في عصرنا الحالي في ظل التطور العلمي الكبير الذي يشهده عالمنا.
الجمال والفن
قبل أن نخوض في فلسفة الجميل، علينا أولًا أن نحاول تحديد ما هو الجميل، وما أهميته، وما علاقته بالفلسفة؟
بالطبع إذا تحدثنا عن الجميل يتحتم علينا أن نستعيد ما قاله الفيلسوف الألماني عملاق النقد إيمانويل كانط الذي ذكر في كتابه «نقد ملكة الحكم» العلاقة الشرطية بين الحكم بالجمال على شيء، وقدرة هذا الشيء على أن يلقى استحسان الناس. فهنا يضع كانط علاقة بين الفنان ومتلقي الفن، علاقة تكامُل، فالفن ليس بشيءٍ ذاتي، الفن هو في الأساس منتج مشاعي يهدف لوصف حالة ما أو منظور للعالم من خلال رؤية الفنان، ولكي نضع الفن أو الجميل في إطاره الصحيح – بحسب كانط – يتوجب عليه أن يجتاز اختبارات الذوق العام ويصل إلى استحسان الجماهير.
ولكن لماذا الفن؟
يتساءل أديب نوبل الفرنسي ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف»: هل الإنسان حقًّا يهتم بما يتوصل إليه العلم، أي بالاكتشافات الجديدة التي يتوصل إليها العلماء باستمرار بخصوص أيٍ من المباحث التي تهتم بها العلوم؟ وهنا يقصد كامو الاهتمام الذي يذهب لما بعد الفضول، فما الذي سيستفيده الإنسان حقًّا إذا عرف أن سرعة الضوء تساوي كذا أو أن كوكب زحل يتكون غلافه الجوي من تلك الغازات؟ هل سيقلل ذلك من حالة الشعور بالاغتراب التي يعيشها الإنسان على الأرض؟ هنا يجيب كامو بلا، وأنا أوافقه الرأي في ذلك بكل تأكيد.
إن الهوّة التي يشعر بها الإنسان بين ذاته وبين موضوعه، ذلك الصوت الداخلي الخافت الذي يهمس في أذننا جميعًا بأننا لا ننتمي لتلك الأرض، هو الذي يخلق ذلك الاحتياج لما هو أكثر من المادة، لما يتعالى على المادة ويتجاوز الجسد وينفذ إلى عالم المشاعر. وهذا تحديدًا ما يجعل للفن أهمية قصوى في حياة الإنسان.
والآن بعد ما أن تعرفنا على أهمية الجميل أو الفن للإنسان، يتعين علينا معرفة العلاقة بين الفن والفلسفة. هنا علينا أن نذكر الفيلسوف الألماني الشهير بنظرته السوداوية للحياة آرثر شوبنهاور الذي كان يرى أن الفلسفة والفن يتكلمان عن نفس الموضوع ولكن بلغات مختلفة، فبينما تحاول الفلسفة تفسير العالم وحل مشكلاته من خلال الكلمات المنطقية والعقلية، يحاول الفن لعب نفس الدور، ولكن باستخدام أدوات مختلفة، باستخدام ما هو أبعد من الكلمات، من خلال استحضار الصور العقلية للأفكار والحلول على هيئة لوحات أو نغمات أو كلمات شعرية رقيقة.
بينما تخاطب الفلسفة العقل في شكله المحض، يقوم الفن بمداعبة المشاعر ومحاولة خلق فجوة ينفذ من خلالها الإنسان إلى أعماق ذاته متجاوزًا ثقل الكلمات ومشقة التفكير وصلابة العقل إلى رحابة المشاعر والخيال غير المحدود. هذا ما يجعل إمكانية تحرير الإنسان ولو مؤقتًا من ضيقه واغترابه متاحة، والذهاب به إلى آفاقٍ جديدة يستطيع أن ينعم فيها بحريته، حريته التي لطالما كانت مغتصبة.
هنا يكمن دور الفلسفة في علاقتها بالفن، فالفلسفة دائمًا ما كانت من الأدوات التي ساعدت في تفسير وفهم الفن، أو في طرح ما هو جديد في الفن، وفي الدفع به للمضي قدمًا لمواكبة تطلعات البشر وتلبية احتياجاتهم النفسية. فطالما كان الإنسان كان احتياجه للفن، وطالما كان الفن احتياجًا، كانت الفلسفة حاضرة.
الجليل أو الدين
لقد كان للفلسفة دور كبير في التأثير على الدين وعلى أساليب فهمه وتفسيره، فقد تأثر فلاسفة مسيحيون ومسلمون كثيرون بالفلسفة اليونانية القديمة، وعلى رأسها أرسطو. فقد كان للمنطق الأرسطي مساحة ضخمة في الفلسفة القروسطية المسيحية والإسلامية، وقد شُيّد عليه عديد من نظريات وفلسفات اللاهوتيين المسيحيين والمتكلمين المسلمين بخصوص إثبات الصفات الإلهية والأمور العقائدية عن طريق مناهج الاستدلال العقلي.
ولم يقتصر دور الفلسفة على ذلك، فقد تطوَّر دور الفلسفة في التأثير على الدين بشكلٍ كبير في الفلسفة الحديثة، بداية من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي انتهت فلسفته إلى فصل الدين عن مناهجه الغيبية غير العقلية التي تهافتت تهافتًا كبيرًا، وأصبحت في غاية الهشاشة بعد ما جاء به الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم الذي أراد بناء منهج فلسفي يضاهي المنهج الطبيعي في صرامته مؤسس على الاستدلال التجريبي.
قام كانط ببناء فلسفة عقلية في ثلاثيته النقدية الشهيرة، وقام باستنباط الأخلاق، وهي تعد مشروعه الأساسي وجوهر فلسفته، من القانون الخلقي المثالي بمعزل عن تجلياتها العملية البرجماتية. وانتهى بحثه إلى أن الأخلاق في شكلها الكلي هي تؤسس للدين وليس العكس كما كان شائعًا، أي أن الأخلاق هي علة الدين وهي القاعدة التي يرتكز عليها جوهر الدين، وليست نتيجة للدين. وبهذا، رفع كانط الدين إلى القانون الخلقي المثالي منقذًا إياه من الأفخاخ العملية البرجماتية.
ثم جاء فريدريك هيجل الذي تصوّر الدين بوصفه أحد تجليات الروح المطلقة للعالم غير المحسوس، بالاشتراك مع الفن والفلسفة، فكان ذلك الثالوث هو ما ذهب إليه تطور الروح المطلقة، وهذه الروح هي العلاقة والتناسب بين جميع الخبرات والتجارب والأفكار الإنسانية مُعيّنة في مضمار الصيرورة وحركة التاريخ.
على إثر هيجل ظهر الألماني الآخر كارل ماركس، ذلك المادي الذي أُعجب بشدة بفلسفة هيجل الجدلية، ولكنه رفض مغالاة هيجل في التصورات المثالية، وقام بقلب مذهبه رأسًا على عقب، من مثالي إلى مادي، لا يرى في الوجود أي شيء أكثر من المادة وقوانينها، واعتبر الدين منتجًا بشريًا رديئًا يهدف فقط لتغييب الفقراء وتشتيتهم عن قضيتهم الأهم وهي الصراع ضد الطبقات البرجوازية، وقال قوله الشهير بأن «الدين أفيون الشعوب».
وعلى الرغم من دقة ماركس في تحليلاته الاقتصادية والاجتماعية، فإنه لم يكن موفقًا في رؤيته للدين، فقد تجاهل ماركس الحاجة الطبيعية الإنسانية للدين التي تنطلق من النزعة الفردية للإنسان بمعزل عن أدوار الدين في نطاق الجماعات؛ ذلك الشعور الإنساني العميق الذي يحتاج إلى ما هو أكثر من الصورة المادية للأشياء فيخلق جوهرًا مثاليًّا مقدسًا يتلبّس الصور والأجسام، وذلك ما يمكن أن نلاحظه في أنماط الطقوس والعبادات الدينية، فيجعل من المادة قيمة أعلى من قيمتها الطبيعية، قيمة مقدسة كاملة تُغذي النزعة الإنسانية التي لطالما شعرت بمحدوديتها وعدم كمالها.
من هنا، تأتي أهمية الدين بالنسبة للإنسان. فحتى لو تراجع الدين على المستوى الجمعي في المجتمعات الغربية الحديثة، فإنه ما زال حاضرًا وبقوّة على المستوى الفردي، وقد تطور الدين من مفهومه القديم الذي موضوعه الشرائع والعقائد والإلهيات إلى ما هو أكثر من ذلك، باعتباره قيمة جوهرية تعبر عن نزعة الإنسان اللا إرادية إلى تعيين ما هو مقدس بغية إشباع رغبات إنسانية حثيثة.
إن ذلك التقدم والتطور في مفهوم الدين كانت علّته الفلسفة بطبيعة الحال، وحتى لو أصبح وضع الدين في المجتمعات الغربية يبدو مقبولًا ومستقرًا بشكلٍ كبير فإن ذلك لم يحدث بعد في مجتمعاتنا الشرقية.
ومع الأخذ في الاعتبار الخصوصية المجتمعية والخصوصية الدينية بين دين الغرب المسيحي ودين الشرق الإسلامي، وأيضًا الخصوصية التاريخية، فإذا نظرنا نظرة صادقة فسنجد أن وضع الدين في الشرق إلى يومنا هذا لم يصل بعد إلى ذلك الاستقرار الذي يتوافق مع الطبيعة التاريخية والمجتمعية الآنية. فنحن ما زلنا نرى الدين في الشرق حاضرًا وبقوة على المستويين الفردي والاجتماعي، بيد أن ذلك الحضور يصنع أشكالًا من الصراعات ويخلق عديدًا من المشكلات على المستويات السياسية والاجتماعية، وحتى الدينية نفسها، ومع ذلك فإنه ليس من الضرورة أن يصل الشرق لما توصل إليه الغرب في النهاية، إن لكل مجتمع ولكل حالة خصوصيتها.
من أجل الوصول لحل يتوافق مع المعطيات الحالية للمجتمعات في ظل العولمة، فمن الأكيد أن الفلسفة ستكون حاضرة في تلك اللعبة وبقوة، فمن خلال تطور الفلسفة في حقبة ما بعد الحداثة إلى فلسفات التفكيك واللغة، أخذت النصوص تظهر بشكلٍ مختلف تمامًا عن ذي قبل، وبالطبع كان الدين هو أحد تلك النصوص التي دخلت في دائرة اهتمامات الفلسفات التفكيكية وفلسفات اللغة وعلوم الهرمنيوطيقا. وهذا ما جعل الدين يظهر بثوبٍ ربما جديد تمامًا عما اعتاده البشر.
هنا، يمكننا أن نشعر ونرى بوضوح قيمة الفلسفة التي كانت وما زالت حاضرة ومؤثرة على واحد من أهم الموضوعات التي اهتم بها البشر وكان لها دور كبير في حياتهم على الدوام. فطالما كان الدين، كانت الفلسفة.