الظاهرة رونالدو دي ليما: ياليت مهاجمي العالم يعلمون
لم تمر أكثر من نصف ساعة وكانت «برشلونة» متقدمة على مضيفتها «كومبوستيلا» بنتيجة هدفين للاشيء، يجلس السير «بوبي روبسون» على مقاعد بدلاء فريقه الكتالوني في هدوء وثقة وربما بدأ إحساس بالملل يقترب منه؛ هذه الحالة الرتيبة لم تلبث أن تتحول للحظة فنية أسطورية ستتناقلها الأجيال للمشاهدة والرواية آلاف المرات.
«رونالدو» يظهر فجأة ليخطف الكرة من لاعبي وسط ملعب الخصم، البرازيلي يمر من الأول الذي فشل بإيقافه بشتى الطرق الشرعية وغير الشرعية مستخدمًا كل أطرافه، الثاني على وشك اللحاق بزميله قبل أن ينطلق مهاجم «البلوجرانا» كالسهم قاطعًا كل تلك المسافة لمنطقة الجزاء ليقرر حينها أن مراوغتين لا تكفيان أبدًا، لاعب «كومبوستيلا» الأخير لم ينجُ قبل أن تسكن الكرة مرماه.
العجوز «بوبي روبسون» يتخلى عن بعض وقاره، يقفز من الدكة غارقًا في الدهشة قبل أن يضع يديه على رأسه؛ نعم كثيرًا ما تسير الأمور على هذا النحو مع الظاهرة!
من المستحيل أن تجد أحدًا بين جمهور كرة القدم مواليد الثمنينات والتسعينات لم ينخرط بمتابعة مسيرة الظاهرة، طوفان من النوستالجيا يتخطى مجرد شراء قمصان الرقم 9 لبوسترات تزين حجرات المراهقين، وحضور يتجاوز أي لاعب بمعارك تبادل صور ألبومات مونديال 94 وحتى 2006، والأهم محاولات حثيثة لتقليد اختراق وتسديد وحتى احتفالات رونالدو؛ البرازيلي هو بطل طفولة جيلي وصاحب الفضل الأول بربط معاني المتعة والفرحة الذاتية بلعبة كرة القدم، وأخيرًا هو المظلة الجامعة لهدنات كل معارك المقارنات الحالية والسابقة والقادمة بين اللاعبين لأنك ببساطة لن تجد للظاهرة منافسًا، الكل تلاميذه. رونالدو يستحق دومًا أكثر مما هو مجرد مقال، لكن هذه الكلمات وتلك المساحة هي ما أملك!
رسالة رونالدو
ببحث سريع على جوجل عن معنى لفظة «ظاهرة» ستجد عشرات التعريفات التي تتلخص في معنى الاستثناء الكافي لشد انتباه الفاعلين والجمهور بمجال ما.
اللفظ العبقري مناسب تمامًا لـرونالدو، لا يحمل أدنى مبالغة لشاب يمكنه تسجيل ما يفوق الـ 35 هدفًا بشكل متكرر بين أندية ودوريات مختلفة، أو يمكنه المراوغة بالعمق أو أطراف الملعب بنفس القدر من القسوة، لكن الأهم الذي يندُر مع الأيام هو إحساسه كمهاجم بالمكان، يا ليت «بنزيما» يعلم!
ربما تساءلت ذات مرة لماذا لم يحاول الانغماس بعالم التدريب، أو دققت بتصريحاته فاكتشفت أنه يستخدم مصطلح «الهواية أو العادة» بدلاً من «التخصص»، وكذلك «المراوغة» بدلاً من «الاختراق» وكذلك بالتأكيد «الإحساس بالسعادة التي تدور حول اللعبة»، أكثر من محاولة تفسير أسبابها، كما أن أمر فوزه بلقبي دوري فقط في مقابل أرقام فردية إعجازية يبدو شديد الغرابة، السبب في ذلك يعود لحقيقة واحدة وهي أن كل هذا السحر لا يمكن خضوعه للحساب، للتفسير، للفهم المبني على المنطق والتكتيك؛ رونالدو برازيلي متطرف قد لا يهتم بتقسيم الملعب لمربعات ومراكز لكنه يمتلك الخيال اللازم ليحقق لأي مدرب كل شيء.
ذلك الخيال الجامح التقطته أعين أسطورة برازيلية أخرى «جارزينيو» بشوارع «بينتو روبيرو»، فأوصى بتعاقد إدارة كروزيرو مع صاحب الـ 16 عامًا الذي كان على وشك خطف أنظار العالم وتجاوز حدود إمكانيات وسائل الاحتراف حينها كان قد أنهى موسمه الأول والثاني بـ 44 هدفًا فقط بـ 47 مباراة. لم يحتج رونالدو أبدًا ليوتيوب أو مواقع اكتشاف المواهب!.
نصحه «روماريو» بمعسكرات مونديال 94 باختيار «هولندا»؛ البلد التي منحت الموهبة الاستثنائية حوافز الانطلاق ووفرت له فرصة التعرف على الأجواء الأوروبية، منذ تلك اللحظة بلور الظاهرة رسالته التي لم يصرح بها أبدًا، كانت بسيطة وواضحة لكن أجمل من أن تنحصر بتصريح ينازع صعوبات الترجمة بين لغات العالم، اختار أن يقول بأن كرة القدم لعبة لا تخضع بالضرورة دائمًا لسؤال المتعة أم النتائج، الاستعراض أم الفاعلية، الجمع بينهما قد يكون نادرًا لكن رواد ملعب «فيليبس ستاديوم» عاشوا الأمر ورأوه بأعينهم مع ابن الـ 19 عامًا الذي سجّل 54 هدفًا بـ 57 مباراة فقط مع «إيندهوفن».
الشبح يظهر
بمقطع فيديو شهير حمل خفة ظل الأفارقة المعهودة، يظهر قلبا دفاع فرنسا قبل المباراة النهائية لمونديال 98 يتناقشان حول كيفية مواجهة الظاهرة، «تورام» بدأ بمحاولة تقليد طريقة التمويه بالأقدام ليرد «دوسيه» بأنهم لن يتمكنوا أصلاً من تمييز موقع واتجاه رونالدو حينما يباغت.
الثنائي كان محظوظًا بما فيه الكفاية، رونالدو الذي سجل بأربع مباريات أظهر أداءً باهتًا بالنهائي، غابت بسمته التي صاحبته بالبطولة وفتحت نظراته الشاردة الباب أمام طوفان صحفي يتساءل عن السبب، الظاهرة نفسه أجاب حين صرّح أنه عانى ليلتها من تشنج حاد نُقِل بسببه للمستشفى.
رونالدو في تصريحه الأشهر بعد نهائي مونديال فرنسا.
رونالدو الذي بدا حينها حاملًا لأمال شعبه يري للمرة الأولي أنياب الإصابة ويناقشه الطبيب لا المدرب؛ لكن الدراما لم تبدأ بعد.
كان قد وجد طريقه قبل البطولة لكتالونيا حيث علاقة الشعب بالنادي لا تشبه إلا نفسها، برشلونة دفعت أكثر من 19 مليون في صفقة يراها العجوز روبسون هي الأهم، بل إنه تغزّل دائمًا بمهاجمه الذي سجّل معهم 47 هدفًا بـ 49 مباراة شارك فيها، حصد معهم الكؤوس المحلية بجانب السوبر بأحد المواسم التي سجّل فيها وحده ما يزيد عن ثلث أهداف الفريق، زميله حينها «جوارديولا» ذهب بعيدًا ليقول بأنهم خسروا الدوري بمبارة «إيركوليس» لأن الوحش كان غائبًا!
استعدت جنة كرة القدم لاستقبال الوحش الذي ازداد توحشًا بأول عامين حتى صنفه موقع «Goal» الشهير واحدًا من أهم 10 لاعبين بتاريخ أزرق ميلانو، فيما يفضل البعض مشاهدة مقاطع مجمعة تتخطى حاجز الساعة للمسات الظاهرة مع الإنتر، فإن آخرين يفضلون رصد الأرقام ومتابعة التصريحات. حسنًا، هذا النصف الآخر سيجد مادة مثيرة بداية من تصريح الإيطالي «مارشيلو ليبي» الذي أشار لخاطرة بناء خط ظهر آخر مخصص فقط لرقابة الرقم 10، «ألبيرتو زاكيروني» كان أكثر صراحة عندما قال بتلقائية شديدة إن كل المدافعين يخافون رونالدو، «نيستا» نفسه يعترف أن أسوء تجاربه كانت مواجهة البرازيلي بنهائي باريس 98، لكن الأكيد أن المدافع الإيطالي كان أسعد حظًا من الحارس «مارشيجياني» الذي أذاقه رونالدو حيرة التمويه؛ لقب الأفاعي لم يأت من فراغ!
لكن جنة كرة القدم كما شهدت انفجار الموهبة الاستثنائية، شهدت أصعب لحظات كرة القدم مساء 12 إبريل 2000، مدافعو «لاتسيو» أول من هرول لنداء الإسعاف فيما استبدت الصدمة بالأفاعي، صمت لا يكسره سوى صراخ البرازيلي؛ كل شيء بدا حزينًا.
كوريا واليابان، كابيلو، إيطاليا مجددًا
لطالما عزز البرازيليون شعورًا لدى المشاهد بأنهم لا يلعبون الكرة إلا للمتعة، هكذا بكل وضوح يتجلى الأمر بداية من الأداء وشكل تفاعلهم مع الخصم والجمهور وحتى في حديثهم فلن تجد «حَرِصنا» بل «لَعبنا».
رونالدو شخص غارق بتلقائية محبة اللعبة، لكن اللعبة بمعناها الفطري الذي يتبادر لذهنك لا تلك التي تتعلق بالتعقيدات أو الأموال وبالتأكيد غمار المقارنات. «لويس إنريكي» يقول بأن رونالدو لم يكن يحدثهم عن تحركه داخل الملعب بغرف ملابس الكامب نو بل يعلمهم رقصة السامبا.
«بيليه» قال عقب الإصابة إن رونالدو انتهى، شكّل هذا الجزم القاطع لدى الأغلبية نقطة التحدي التي بنى عليه الظاهرة حتمية عودته. رونالدو اعترف يوم اعتزاله بأن رائحة الموت تملأ أنفه، لذلك فقط كان لزامًا عليه أن يقاوم ذلك الموت الذي طارده بسن الـ 23، سكولاري يخضع لقلبه ويمنحه مقعدًا برحلة كوريا واليابان ليُكافأ بأفضل تتويج.
والحقيقة أن الحياة لا تنقسم أبدًا لملاحم وهزائم، لكن أحيانًا قصص معقدة بين المصير الجيد والآخر غير المتوقع، هذا تمامًا ما دار عند انتقاله للمارينجي لتكتمل صورة طالما سعى إليها «بيريز» وأحبها «ديل بوسكي».
كان لـ «كابيلو» رأي آخر، لم يتسامح أبدًا الرجل حاد الطباع مع الحقيقة التي يعرفها الكل ويتجاهلها هو؛ وهي أن الإصابة كانت كافية أصلاً لتنهي مسيرة رونالدو، بل أراده بسرعة واختراق الإنتر وتهديف برشلونة ومزيد من الجهد بالتدريبات.
الإيطالي لم يتوقف عند ذلك، بل يشير الكاتب « سِد لوي » بأنه وجه الإهانة غير مرة للظاهرة بسبب زيادة وزنه. الغريب أن الكاتب يؤكد أن أغلب لاعبي الميرينجي كانوا مؤازرين لزميلهم متفهمين سبب هبوط جهده لأن معدله التهديفي لم يكن يستدعي كل ذلك التحفظ ضده من مدربهم!
رحل الظاهرة لـميلان فعاودته الإصابة، تكرر الحزن وعاد أدراجه للبرازيل ليلتقي «لولا دي سيلفا» باحتفال شعبي وحكومي كبير.
رونالدو السمين
خلال الاحتفال بذهبية كرستيانو الرابعة، التقى «لويس فيجو» رفقة «مايكل أوين» بالظاهرة و«زيزو» لتكريم كريستيانو بالملعب. عاد أوين منزله ولم يجد فكرة أفضل من أن يكتب ساخرًا من وزن البرازيلي الزائد. «أوين» ليس استثناءً، صحفيون وكتّاب وجماهير يشيرون للظاهرة بـ «رونالدو السمين»، بالتأكيد السبب ليس لأن مسيرته كانت فارغة حتى لا يجدوا فيها سوى ملاحظة وزنه.
لكن لأن رونالدو، رغم علم الكل تألمه من سخافة تلقيبه بالسمين، يترفع عادة عن المشاكل، على العكس لا يمتلك البرازيلي أي عداوات مع أحد. البرازيلي أصلاً لا يظهر إلا مبتسمًا أو مستغرقًا بالضحك بسبب مواقفه الكوميدية، صادق وطبيعي جدًا لدرجة أنك لن تجد له تصريحًا يتباهى فيه بإنجازه أو بمقاومته لأصعب أنواع الإصابات، لم يدّعِ يومًا البطولة رغم أنه يستحقها بكل جدارة، لكل تلك الأسباب بدا للكل بأن تلقيبه بالسمين لن يتسبب في أي ضرر.
لم يفكر «أوين» بأن السمين أتى بكل روح صافية ليهنئ اللاعب الذي اكتسب اسمه بالكرة الذهبية الرابعة وزميله زيدان الذي شق مسيرته نحو التدريب، لم يتذكر أن رونالدو، بعكسه، لم يسعَ يومًا للمال، وبالتأكيد لم يخطر بباله أبدًا كل وقائع تصفيق جماهير الخصم للظاهرة إعجابًا بما قدمه، جمهور مانشستر مثلًا هتف يطالب السير أليكس فيرجسون بتوقيع رونالدو عقب تسجيله هاتريك بمرماهم في الأولد ترافولد!.
الأمر الآخر أن البرازيلي بعكس ميسي وكريستيانو وإنريكي وزيدان، لا يمتلك حصته الكافية من جمهور الفريق الواحد الذي يسعى لنصرته مهما كانت الأسباب، فهو بطل العالم مع الإنتر لكنه فضّل اللعب لـميلان، صال وجال مع البلوجرانا لكنه لم ينتظر كثيرًا وعاد ليلعب مع «فيجو» بوجهتهم الجديدة؛ لذلك تبدو السخرية من أعظم مهاجم بتاريخ اللعبة أمرًا قابلاً للمرور دون ضجيج كافٍ أو استنكار قاطع طالما أنه لا يمتلك من يمكنه الدفاع عنه بشراسة.
الغريب والكوميدي أن كثيرًا ممن يقودهم انتماؤهم بديلاً عن المنطق بمناقشة ثنائيات برشلونة ومدريد لا تأخذهم العاطفة إلا نادرًا في حالة الظاهرة، فكثيرًا ما يُسأل: ماذا لو حاول رونالدو أكثر؟، أكان بإمكانه تحقيق المزيد؟، لكن قليلاً من يلتفت إلى أن عودته ليفوز بمونديال 2002 وكونه الهداف التاريخي للبطولة هو الأمر الاستثنائي.