عن الدواء والسوق وأخلاق المهنة: ملاحظات مندوب أدوية
نهاية عام 2015، وبمثالية مفرطة، رفضت وظيفة قدّمها لي والدي في شركة قطاع خاص كان مديرًا بها، وذلك لرفضي المبدئي لفكرة «الواسطة»، وقررت أن أشق طريقي مع أغلب أبناء جيلي وخريجي دفعتي بكلية العلوم. كان ذلك في وقتٍ من شبه المستحيل فيه أن يعمل جيولوجي في وظائف البترول، أو كيميائي في وظيفة تعود عليه براتب جيّد، وهكذا الفيزيائي ودارس العلوم البيولوجية… إلى آخره من التخصصات التي لم يكن من السهل أن تتوظف بها، أو تتحصل من خلالها على راتبٍ مُجزٍ.
في نفس الوقت، كان هناك مجال ما زال به عديد من فرص العمل، حيث اجتذب خريجي كلية العلوم بمختلف تخصصاتهم، بالإضافة لخريجي كليات طب الأسنان والطب البيطري والصيدلة، وهو سوق الأدوية، ووظيفة مندوب الأدوية. وبعد ثلاث مقابلات للعمل، تم قبولي بإحدى الشركات التي تعمل في مجال مستحضرات التجميل والبشرة.
على مدار خمس سنوات في هذا المجال، أقوم، بجانب عملي، بتدوين الملاحظات عن أخلاقيات المهنة وطبيعة عمل السوق الخاصة؛ علاوة على طبيعة عمل المندوب تحت بند المستهدف «التارجت» (Target)، وهي كلمة مألوفة عند غالبية العاملين الشباب في شتى المجالات، حيث يطالَبون بجلب عشرات ومئات الآلاف من الجنيهات مقابل راتب لا يتجاوز بضعة آلاف. كنت كذلك أدون الملاحظات عن تضخم مجال مستحضرات التجميل داخل سوق الأدوية الكبير، وكيفية سيطرة منتجات العناية بالبشرة على عقول وأجساد النساء. وأخيرًا، كانت الملاحظات عن المخاطر التي يلقاها مندوب الأدوية طوال عمله، والتي تضاعفت وتفاقمت بعد جائحة كورونا.
عن أخلاقيات المهنة والبدايات غير المتوقعة
في أحد الفنادق الفاخرة بالقاهرة، تم عقد تدريب العمل (Training) على مدار يومين. يحدثنا أحد المدراء عن معلومات ومكونات المنتج الذي سنعمل عليه (Medical Background)، بالإضافة لبعض المهارات اللازمة لعرض المنتج وبيعه (Selling Skills).
كانت أول جملة كُتبت بخط عريض وواضح باللغة الإنجليزية هي: «You are the product, how to show it؟» (أنت المنتَج، فكيف ستعرضه؟) رغم قراءتي ومعرفتي بماركس الذي لطالما صبّ جامّ غضبه على المجتمع الرأسمالي، لكونه يعمل على تسليع كل شيء، لم أتوقع أن يكون أول ما يقابلني في سوق العمل هو أن أقبل كوني مُنتَجًا لا أكثر. عند ذلك يصبح «الاغتراب» هو الشكل الأصيل للعمل، حيث تُمحى ذاتك وشخصيتك ويتحدد وجودك بالمُنتَج الذي تمثله، لا تلتمس سوى تحقيق رقم البيع المطلوب (Target Achievement) ورضا المدراء الذين دومًا يرددون ويذكرون المندوب بأنه «مجرد رقم»، ويعتبرون ذلك التأكيد جزءًا من مهام عملهم.
كانت تلك هي أولى مراحل اكتساب أخلاق المهنة. والمهنة (من المهانة) هي التوصيف الأمثل للعمل في المجتمع الرأسمالي، وتختلف عن الصنعة أو الحرفة التي تمثل العمل في مجتمعات ما قبل الرأسمالية. تلك الأخلاق ليست خاصة بكل مندوب وبأفعاله المستقلة، بل هي الثمرة التي على كل مندوب أن يطمح لها ويعمل على اكتسابها دومًا لتثبيت مكانته وضمان وظيفته، كالتملّق والانتهازية والوصولية والوشاية بالغير، وصولًا للرشوة والمحسوبية (الرشوة من ميسّرات وضرورات تجارة الدواء)، كآليات متنوعة لعرض المُنتَج وتزكيته في مرحلة البيع.
وعلى غرار البداية غير المتوقعة في يومي التدريب، كانت بداية العمل في أول زيارة لي لأحد أطباء الجلدية، حيث وجدت بعيادته سبعة مندوبين مقابل ثلاث حالات للكشف فقط. كانت التساؤلات تملؤني أمام ذلك الموقف: كيف يكون عدد المندوبين أكثر من عدد حالات الكشف؟! (هذا موقف سيتكرر كثيرًا) كيف يمكن بيع منتجات في ظل عرضٍ يتم تغذيته باستمرار وطلب ينحدر في أغلب الأوقات؟ ما الذي سيجعل الطبيب يكتب منتجي دون باقي المنتجات المنافسة التي من الممكن أن تكون أرخص أو أغلى؟ وعلى أي أساس يقرر أغلب الأطباء كتابة دواء ما؟ لجودته؟ يجوز؛ لأنه أرخص وأكفأ؟ وارد؛ أم لأن هناك منفعة خاصة تعود على الطبيب؟
وبينما ننتظر دورنا في الدخول، قالت مُساعدة الطبيب: «سأحاول أن أدخلكم جميعًا بعد خروج حالة الكشف». كان دوري هو الخامس في الدخول، وبعدما دخل المندوب الأول، فالثاني، ثم الثالث، رأيت بعيني ما ذكره ماركس في كتابه «رأس المال» عن العامل الذي لا يملك شيئًا ويصبح تسليعه متداخلاً ومتراكبًا مع تسليع بضاعته، فيتماهى تمامًا الفرد مع السلعة، «لتتواجه منتجات الأعمال الفردية القائمة بذاتها والمستقلة عن بعضها بوصفها سِلعًا».
يدٌ خفيّة وفساد مُعلن
يمثل تحقيق الرقم المستهدف (Target) كل شيء عند مندوب الأدوية. وكثيرة هي الأعمال الخدمية والتسويقية التي تعتمد نفس طريقة العمل. وبالنظر إلى سوق الأدوية علي سبيل المثال: عدد المنتجات التي تحتوي على المادة الفعالة باراسيتامول،سنجد ما لا يقل عن 20 منتجًا، ومادة البريجابلين الشهيرة التي تم إدراجها مؤخرًا في جداول المخدرات لها ما لا يقل عن 30 منتجًا في السوق. السؤال هنا: ما الذي يجعل الطبيب يكتب في روشتة علاجه المنتج x دون باقي المنتجات من نفس المادة الفعالة؟
هنا تظهر يد العم سميث الخفيّة التي تمدها الشركات للأطباء والصيادلة وكل من له القدرة على وصف هذا المنتج. تظهر إمكانات الشركات في قدرتها الحقيقية على ابتزاز الفاعلين في السوق والتأثير عليهم، وهي التي تتنوع بين شيك بمبلغ ما، شاشة تليفزيون، تجهيزات مكتبية وطبية، دعوة في مطعم فاخر، نسبة محددة من إجمالي فاتورة بيع، سفر لمؤتمر شامل الإقامة والفندق، ثلاث ليالٍ في الساحل الشمالي… إلى آخره من أشكال المِنح والعطايا الممكنة التي تعكس قدرة وإمكانات كل شركة على حدة.
تعكس تلك الأشكال وقاحة مفهوم «السوق الحر» الذي لا يعبأ بما يُسمّى «السعة السوقية» (Market Capacity)، ليصبح ما تقدمه الشركات للسوق تحت اسم «منتج جديد» هو فقط اسم جديد. فحين تكون السعة السوقية في منطقة ما، للمادة الفعالة بريجابلين، هي مثلا: 5000 علبة، فهذا العدد من متوسط أعداد العلب تتقاسمه المنتجات. وبقدر ما تستطيع كل شركة تقديمه من أشكال الإغراءات سابقة الذكر، بقدر ما تقتطع حصتها من السعة السوقية. وكل منتج جديد يضاف للسوق ويحمل نفس المادة الفعالة فإنه يقتطع من السعة السوقية الأصلية، ويقتطع من نصيب وحصة المنتجات الفعلية الموجودة.
هذا الشكل من الإنتاج يعكس الفكرة الجوهرية للإنتاج الرأسمالي، حيث «فوضى الإنتاج»، فالإنتاج لا يتوقف ليقدّم كمًّا هائلًا من البضاعة الراكدة، ثم كميات من المرتجعات والمنتجات منتهية الصلاحية، في ظل احتياج ملموس لمنتجات وأدوية أخري كثيرًا ما يردد الصيدلي عنها مقولة: «الدواء ناقص»، حيث الإنتاج بشكل رئيسي للأرباح، لا للاحتياج الضروري، في ظل مجال حساس ومرتبط بصحة الأفراد.
داخل تلك العملية الإنتاجية، يأتي الدور السحري للمندوب، حيث يعمل على ربط مصدر الإنتاج (الشركة) بفروع التوزيع والبيع (المخازن والصيدليات)، والترويج والدعاية والإغراء المتكرر عند واصف الدواء (الطبيب). وفي رقبة هذا المندوب طوق ملازم له يُسمّى «تحقيق رقم البيع المستهدف» (Target Achievement). ليظهر سوق الدواء بالنهاية باعتباره استثمارًا في سلامة وصحة الجسد.
ولكن ماذا عن الاستثمار في جمال الجسد؟
الاستثمار في الجمال
تقضي النساء فى المتوسط 42 دقيقة للتزيّن يوميًا، بينما يحتاج الرجال إلى 10-12 دقيقة فقط لنفس الغرض، وهذا لا يجعل من المرأة فقط ضحية للهوس بشكلها الخارجي لكي تبقى في طليعة الجميلات، بل ضحية أيضًا لـ «مجتمع الفُرجة»، وضحية سطوة منتجات العناية بالبشرة (Skin Care Products)، وضحية التقييم الذكوري للجمال والرغبة.
تطرح الكاتبة الأمريكية ناعومي وولف في كتابها «خرافة الجمال» فكرة أن مفهوم الجمال يُستخدَم ضد المرأة بالأساس. يظهر ذلك شكل مادي ملموس في رواج صناعة التجميل عالميًا، ورواج الإعلانات التليفزيونية التي تظهر فيها أكثر النجمات أناقة وجمالًا، وكثرة المجموعات والصفحات علي مواقع التواصل الاجتماعي التي تجتذب الفتيات والمراهقات، وتحوّل الصيدليات لساحات عرض خاصة بمستحضرات التجميل للشركات والماركات العالمية، وعمل خصومات وعروض على تلك المستحضرات، وتعدد مراكز التجميل (Beauty Centers)، والمحلات المختصة لبيع مستحضرات التجميل.
كل هذا خلق شكلًا جديدًا من تسليع المرأة. فالمرأة التي استباحوا جسدها في الماضي وجعلوه وقفًا لإشباع شهوة الرجل، أصبح جسدها اليوم منطقة مُدرّة للمال. المرأة في ذاتها أصبحت موضوعًا للتقييم أمام نفسها وأمام غيرها من رفيقاتها ومريديها من الذكور.
فتجد العديد من الشركات القائمة بالأساس على الترويج للمنتجات التجميلية (Cosmoceutical) التي تروّج لعديد من المنتجات المختصة لكل منطقة في جسد المرأة، حيث: مرطب الشفاه، غسول للوجه، شامبو للشعر، غسول للجسم، غسول مهبلي، كريم لتفتيح الأماكن الحساسة، مزيل للعرق، منتجات حبّ الشباب، كريم لتشقق الحلمات، كريم لتشقق الكعبين، كريم الترطيب العام، كريم لإزالة الشعر الزائد، كريم مقوّي للأظافر… إلخ. كمّ رهيب من منتجات تستهدف كل منطقة في جسد المرأة.
وتحت تأثير قوى رأس المال ووسائل الإعلام، زادت الضغوط عليها لتتقيدها بمعايير غير واقعية للجمال ، فأصبحت أسيرة لقيود أخرى ابتكرها النظام الرأسمالي الذي يهمين عليه الرجل، تمثلت في قيود صارمة للجمال. أصبحت الجراحة التجميلية هي التخصص الأسرع نموًا. وتقدمت السينما الإباحية (البورنوجرافيا) على السينما الأخرى بأفلامها العادية والتسجيلية. فمعايير الجمال الهوليوودي خلقت مفهومًا جديدًا تمثّل في شكل معين من لون الشعر وتناسق الشفاه وحجم الثديين وانحناءات الخصر، ومميزات خاصة يروّجون لها دومًا من خلال فتيات الإعلانات والدعايا التي تراها المرأة بعين الحسرة ويراها الرجل بعين الرغبة والتطلع.
وعلى الرغم من أن المرأة قد وصلت إلى كراسي الحكم والسلطة خلال القرن الحالي، وعلى الرغم مما حازته المرأة من الحقوق المالية والسياسية والقانونية الناتجة عن كفاح الحركة النسوية، فما زال شعورها تجاه جسدها يجعلها أسوأ مما كانت عليه الجدّات السابقات قبل التحرر. ما زال الاغتراب يجثم على المرأة وصورتها ومناطق جسدها. ما زال تعريف المرأة لا يتجاوز الوضاعة والانحطاط والتسليع البرجوازي. حتى حقيقة أن النساء تقضين 42 دقيقة للتزيّن يوميًا، هي حقيقة برجوازية واستغلالية بالأساس، لأنها رصدت النساء اللاتي يستطعن اقتناء المستحضرات وزيارة طبيب الجلدية والتجميل دومًا، بينما هناك عشرات الملايين من النساء العاملات، وجيوش من النساء عاملات المنازل وصاحبات الأعمال الخدمية اللاتي من الممكن أن يحظين بـ42 دقيقة فقط طوال حياتهن.
بالنهاية ففي ظل ظروف غير مستقرة بالمرة، من كثافة أصبحت أقل بالعيادات، وبالتالي صرف أقل للروشتات، وبالتالي انحدار متواصل لطلب المنتج عند الصيدلي، وضغوطات أكثر لتحقيق رقم البيع (Target)، بلا مراعاة لتقلبات السوق وظروفه خصوصًا بعد فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا، حيث انخفاض ملحوظ في القدرات الشرائية والاستهلاك العام، لتسير الحياة ناحية الأسوأ والأصعب وغير المتوقع، بمضاعفة الضغوطات ومخاطر الفصل التعسفي من وظيفتك، وزيادة احتمالية الإصابة بفيروس كورونا مع الارتياد اليومي للمستشفيات والعيادات الخاصة والصيدليات وزحام المواصلات اليومي. وعلى الجانب الآخر، هناك الراتب الشهري الثابت الذي تم تحميله بأعباء شراء الكمّامات وأدوات التطهير.
تنتمي تجارة الدواء، بخلاف صناعته، إلى «الاقتصاد الخدمي». وهذا النوع من الاقتصاد يشكل ما يقرب من 60% من إجمالي الناتج المحلي، خاصة في الدول النامية التي تعتمد على تقديم الخدمات كوسيلة لدعم اقتصادها. وقد وصلت صناعة الخدمات لأكثر من ثلاثة أخماس الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويوظف هذا المجال أكثر من ثلث القوى العاملة في جميع أنحاء العالم.
وفي وقت الأزمات الاقتصادية كالتي نعيشها اليوم، يكون العاملون بالوظائف الخدمية والتسويقية المختلفة التي تندرج تحت مسمى «الاقتصاد الخدمي» هم الأكثر عرضة لخطر التسريح والبطالة؛ لأن الاقتصاد الخدمي بالأساس اقتصاد أكثر تعلقًا بوفرة الطلب الذي ينحسر في الأزمات، وبالتالي يندرج توصيفه تحت بند «العمل غير الضروري». وثانيًا، لأن الاقتصاد الخدمي ينمو كطفيلي على اقتصاد الضرورة، وتوقف أو تعطّل اقتصاد الضرورة من إنتاج صناعي وزراعي واحتياجات الضرورة المعيشية يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد الخدمي. وثالثًا، أن تركيز حركة المال والإنتاج والاحتياجات في وقت الأزمات سيتحوّل ناحية الضروري فقط، وبالتالي ستتراجع «معدلات الاستهلاك» من البضائع والمنتجات التي يعتمد الاقتصاد الخدمي أن يقتات من ورائها.
نصل في النهاية لملايين العاملين حول العالم في الاقتصاد الخدمي الذين سيقعون ضحايا مرتين، المرة الأولى كضحايا للنظام الطبيعي للرأسمالية الذي يعمل على خلق وظائف هامشية وغير ضرورية، لتسكين ملايين الخريجين وحاملي الشهادات وأصحاب الحظوظ من العاطلين، مثل ما حدث معي لكوني حاصلاً على درجة البكالوريوس في العلوم الكيميائية والجيولوجية، وأعمل مندوبًا لمستحضرات التجميل، والمرة الثانية كضحايا للأزمات الرأسمالية نفسها التي ستتركنا وحيدين بلا راتب ولا تأمين ولا ضمان على حياتنا.