رواية «برجوازي صغير»: الحلقة الثامنة
القسم الثاني: «القلب الفارغ»
(5)
الشارع يمتد واسعًا، في وسطه جزيرة بها أعشاب ذابلة مُحترقة الأطراف، على جانب الطريق رأى «مصطفى» لوحة كبيرة سوداء تُعلن عن وجود منطقة عسكرية. صعد الطريق وكأنه يصعد فوق تبة. ما زال الشارع رغم عماراته العالية وسياراته المسرعة يحمل آثار الصحراء. قال في نفسه: «العمران يمتد إلى الصحراء… لمَ إذن كل هذا اليأس؟»
بدت الكلمات سطحية غير قادرة على جلب الاهتمام إلى روحه، رأى الطريق الواسع الذي يؤدي إلى مدينة السويس تمرق فيه السيارات. انحرف في شارع جانبي، حجبت العمارات العالية ضوء الشمس، وشعر بكل شيء يدخل ساحة من الضباب، حتى أفكاره.
صعد سلمًا واسعًا لعمارة كبيرة، وهو يفكر «من أين حصلت منار على شقة في تلك المنطقة؟». ورغم علاقته الطويلة بها، إلا أنه لم يسألها عن الشقة.
«يظل المرء يعيش بين أطياف جهله طوال الوقت». لاحظ النبرة الساخرة التي تردّدت بها الفكرة في خواطره، كأنما تسكنه شخصية من شخصيات رواية مُترجمة. كان الظلام كثيفًا في الطابق الثالث، فاضطر لإشعال النور، وطرق الباب. سمع الجرس يتردد في فضاء لامع، مصحوبًا بالصدى، وانتظر الحفيف الذي يرافق حركة منار.
طرق الباب مرة أخرى.
رأى جسده يهبط السلم، ثقيلًا، لا يقوى على تحمل الفراغ الذي سيمتد إلى بقية اليوم الذي خلا من منار. نظر في ساعته، كانت الرابعة. عاد ضوء النهار فجأة، وأنارت الشمس قمم العمارات الجديدة على يساره. مشى في الشارع كأنه يتحرك في فضاء لا محدود، تحيطه مساحات واسعة من ضباب وعوالم خالية من البشر. منع نفسه من أن يستقل سيارة أجرة، وقرّر أن يمشي مسافة طويلة إلى محطة المترو في الجهة الأخرى من المدينة.
سار بجوار سلك شائك مُثبَّت في قضبان طويلة من الحديد، خلفه تلال من الرمل، ظهرت في فجواتها معسكرات الجيش، عرف أنها منطقة عسكرية. كان الطريق واسعًا تعبره سيارات قليلة، وبدت المنطقة مهجورة مقارنة بوسط المدينة. وصل إلى محطة المترو، واشترى جريدة مسائية، ثم جلس على مقعد خشبي، يقرأ العناوين التي تتحدث عن موافقة مجلس الشعب على قانون يُعيد الأراضي الزراعية التي يزرعها الفلاحون منذ أربعين عامًا لملاكها القدماء. وبدا له، على نحو أكيد، أنه يعيش في عالم آخر، فتلك الأحداث تتم في أرض أخرى، لا يصله منها إلا الصدى.
أثناء رحلته بالمترو إلى وسط المدينة، فكّر في المكان الذي ذهبت إليه منار، مُتعجبًا من أنها هي التي اتصلت به وتركت الميعاد في مكتب زميل له. ينظر إلى العمارات المعتمة التي تُضاء نوافذها مع حلول الظلام. مر القطار بمنطقة شعبية. تبدو النوافذ وكأنها صُنعت باليد، لها طابع ريفي لا يهتم بالمقاسات الهندسية الصارمة. تهتز ملابس منشورة في الشرفات الصغيرة، زاهية اللون في عتمة المغرب. فكّر بشكل مفاجئ أن منار قد ذهبت إلى أختها، ثم أدرك أن ذاكرته تعبث به، لأنه تذكر بوضوح حديثها عن خلافها النهائي مع أختها.
كانت تجلس على السرير عارية الساقين ترتدي بلوزة وردية اللون والسيجارة تهتز في يدها، تُحدِّق في الأرض مُتوترة، وتهز ساقيها وهي تقول:
– قالت لي أنتِ ضائعة.
استند مصطفى على باب الغرفة واستمر ينظر إلى ارتعاش أصابعها. مدّ يده ليطفئ سيجارته في منفضة صغيرة موضوعة على التسريحة. انتبه عندما قالت:
– لسانك أكلته القطة؟
نظر إليها دون أن يجيب.
– قالت لي أنتِ فاشلة. لم تفهم أبدًا أن لي مقتنيات في متاحف الدولة وفي الخارج.
ألقت سيجارتها على الأرض وقالت:
– مقتنيات من صوري، لم تفهم ذلك على أنه حياة.
أدرك أنه طرفٌ زائد في هذا الحوار الداخلي، وشعر بتعب من طريقة منار التي كانت في الفترة الأخيرة توجه كل غضبها تجاهه؛ ومع إدراكه أن هذا نوعًا حميمًا من التقارب، وأن المرء لا يتحدث بهذا الشكل إلا مع شخص قريب منه كنفسه، إلا أنه في هذا اليوم لم يكن قادرًا على تحمل غضبها.
قال فجأة:
– أنا ماشي.
قالت صارخة عندما وصل الباب:
– لا تقطع الجوابات.
سأل نفسه لماذا كلما نزل من بيت منار يختار أن يركب المترو، ربما بسبب العزلة التي يُتيحها له مقعد بجوار النافذة، خاصةً عندما يأخذ القطار من أول الخط. الأضواء الباهرة لمحلات وسط البلد دفعته مرة أخرى إلى نفسه، إلى صدفته الداخلية. قصد محلًا صغيرًا واشترى زجاجة خمر، ثم مرّ على المقهى، فوجد «ناصر» ومجوعة من أصدقائه ما زالوا يتحدثون عن المجلة. ظلّ ينصت بنفس الطريقة التي يتأمل بها أدوار الشطرنج في المقهى في الصباح، وهو يفكر أن تشبثه بالإنصات ما هو إلا أداة لنفي تفكيره.
كانت الأفكار عن المجلة عالية النبرة، ذكّرته بأيام الجامعة عندما كانت هذه الأفكار صادقة، ورأى أنه من الغريب أن يُكرِّر الكلام نفسه، كأنه لا مجال للانتقال إلى وضع آخر.
سار مع «ناصر» في الشوارع الخالية، التي منحتها السيارات المُسرعة والأضواء اتساعًا إضافيًا. قال ناصر بعد أن لاحظ زجاجة الخمر:
– الخمر ستقتلك.
– أنت تبالغ كعادتك.
وعندما سأله عن رأيه في المجلة، قال مصطفى إنه لا يريد أن يخوض في هذا الأمر، لأنه يدرك أن عقله مكتئب. أصرّ «ناصر» على سماع رأيه، بعدما وقفا أمام مبنى إداري ضخم، يُلقي بعتمته عليهما.
فوق العمارات العالية، في الجانب الآخر من الميدان، كانت لوحات الإعلانات ما زالت مُضاءة، وبدا بذخ ضوئها غريبًا، يحمل معنى ساخرًا، ففي بدايات المساء يرد صخب أضوائها على صخب الشوارع، أمّا الآن، في منتصف الليل، فلا معنى لهذا الصخب، لأنه لا يُوجِّه رسالته لأحد.
قال مصطفى إنه لا يريد أن يتحدث مرة أخرى في هذا الأمر، فبعد تلك الأحاديث الطويلة لم يعد هناك ما يُقال. وبدى غاضبًا وهو يقول:
يتحدث مُثبتًا نظره على لوحة الإعلانات:
– لا تندهش، تمنيت فعلًا أن أكون قد قرّرت، تمنيت أن تكون لي قناعتك.
قال ناصر:
– لماذا تأخذ هذا الوضع المثالي؟
بدا لمصطفى أن «ناصر» لم ينصت لحديثه، فقال بتعب:
– ليس لدي ما أقوله. أنا مجرد صديق. ليس لدي أكثر من ذلك.
أعاد مصطفى نظره مرة ثانية تجاه أضواء الإعلانات، وفكّر في السُكْر، وفي أن الحياة المُوحشة بدأت تعطي ثمارها، نوعًا حادًا من التشتت، واستغرق في المقارنة بين أيام قديمة كان يحمل سنارته ويجلس على شاطئ البحر، خاليًا من تلك الهموم مُتصلًا بجانب جوهري من الحياة، وبين عزلته الكئيبة التي يعيشها الآن. منْ أسكنه تلك العزلة؟ حتى أيام الصحراء كانت مُحاطة بظل أسود بسبب موت أبيه.
سمع صوت ناصر بعيدًا، ما زال يشرح المبررات الغامضة لأهمية أن تصدر دورية أخرى مختلفة عمّا تصدره المؤسسات التي تعفّنت بموظفيها. كان ناصر يتحدث بصوت خافت حاد يغص بالإصرار، وعندما نظر تجاه مصطفى، وجده ما زال ينظر إلى لوحات الإعلانات الضخمة فوق المباني العالية.
قال ناصر:
– «حسين الديب» سيعود وسيساهم معنا في المجلة.
أعاده الاسم إلى نفسه. بعث في ذهنه -على نحو مفاجئ- سنوات الضياع التي تلت السجن. كان قد قضى وقتًا طويلًا مطرودًا، لا يستطيع أن يدخل البيت. يعود في الليل مُتسللًا، يدخل عرفته لينام، يقضي أيامًا كاملة في شقة «حسين»، يشربان بطريقة غريبة، في أي وقتٍ من أوقات النهار، ويدوران في شوارع المدينة، بلا عمل. لم يدخلا الجيش بسبب نشاطهما السياسي في الجامعة.
كان شيء في الحياة قد تمزق، وبدأت مجموعة من المراجعات تتم داخل التنظيمات اليسارية، ووجد «حسين» نفسه خارج الحياة مثله، بعدما تفكّكت لأسباب لا يعرفها تلك التنظيمات. لم تكن الأنشطة البديلة -مثل الجمعيات المدنية وحقوق الإنسان والتجمعات الأدبية- كافية لإرواء روح «حسين» التي لا ترضى عن المثال بديلًا، ورأى مصطفى حجم الآلام التي حملاها معًا في تلك الأيام.
في ذلك الوقت كان حسين يتكلم طول الوقت، يتناول بالنقد التفسخ الذي سرى في تلك التنظيمات، أمّا مصطفى فيبقى صامتًا، مؤمنًا بأن شيطانًا عبث به، وأورثه هذا الدمار. حاول عدة مرات أن يتحدث، لكنه كان يشعر أن الحديث غير نقي، مُحمَّل بشوائب اللغة التي لن تستطيع أن تنقل ما يشعر به. كان ما يعيشه في الداخل فوق قدرته على الفهم والتعبير، فلاذ بالصمت. كل شيء عبث، كل ذنبه أنه انساق إلى تمرد صبياني أمام إصرار أبيه على عدم استقبال أصدقائه في البيت، وظلّ يبحث عن معنى كلمة «برجوازي صغير»، لم يكن الأمر أكثر من ذلك. السجن كان صدفة؛ حظًا سيئًا، فلمَ يتشبث أبوه بطرده من الحياة؟
كانت تلك الذكريات الغامضة تصعد كبخار سريع التلاشي، ولم يجد شيئًا يقوله عندما لاحظ الصمت الذي طال بينه وبين ناصر، فسأل:
– ما الذي ذكّره بكم بعد كل تلك السنين؟
– لا أعرف، لكنه سيعود ويساهم معنا في المجلة. لن يكون لديه وقت، ولكنه سيساهم بشكل مادي.
ظل يتابع العلامات الحمراء في مؤخرة الميكروباص التي استقلها ناصر. سار بجوار مبنى قديم، جدرانه كالحة وعالية، خطوته قصيرة كأنما لن يستطيع المشي أكثر من ذلك. عند انحرافه في شارع واسع، رأى جنودًا مدججين بالسلاح يقفون فوق تندات عالية يحيطون بمبنى كبير، ربما إحدى الوزارات، يظهرون في الضوء البرتقالي الفاضح، الذي يترك ظلالهم عميقة على الجدران. سأل نفسه مثل كل ليلة: «فيم يفكرون؟ هل يفكرون في قراهم؟ أم يعدون اللحظات حتى يحين وقت انتهاء الخدمة؟».
فتح باب الشقة، وأشعل الضوء الأصفر. كل شيء في مكانه مؤتنس بوحدته. شرب كأسًا من زجاجة خمره، وفكّر في التقارير التي تراكمت دون ترجمة في مكتبه. غيّر ملابسه وأغمض عينيه مُحاوًلا النوم.
استيقظ على ضوء باهر يسكن عينيه. كانت أشعة الشمس قوية تدخل من البلكونة وتُضيء الغرفة. اندهش من وجود الضوء كأنه حلم، فقد ظن أنه لم ينم غير نصف ساعة. نظر في ساعته وعرف أنها الثامنة والنصف.
تمنى أن يقف في الشرفة، يشرب كوبًا من الشاي، يُدخِّن سيجارة، وهو ملفوف بهذا الضوء النقي. قام من فراشه وهو يفكر في اختفاء الأفكار المعتمة التي طاردته الليلة الماضية. أين ذهبت تلك الأفكار التي تجعلني مثل كهف معتم؟
كشف له تدريجيًا تفكيره على هذا النحو، الجمال الكائن في ضوء الصباح، ضوء صباحي عادي، لكنه كفيل بتبديد أفكار بدت راسخة رسوخ الجبال بالأمس.
قال في نفسه وهو يشعر بلسعات الماء البارد على جسده: «لن أشرب الخمر مرة أخرى». اعتراه الشك في قدرته على تنفيذ هذا، لكنه أدرك الصلة بين هذه الفكرة وبين ضوء الصباح، فتركها تسري في ذهنه، وقال مرة أخرى وهو يهبط السلم للعمل: «لن أشرب الخمر»، كان يُكرِّر الكلمات الثلاث ليواجه بها بقايا شكٍ، بدأ يتململ في أفكاره.