برويز مشرف.. «الهارب» الذي يحلم أن تعيده لوبيات واشنطن لحكم باكستان
هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» الذي أنجزه فريق ساسة بوست لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010 و2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يُلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكل الوثائق متاحة للتصفح على الإنترنت.
في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2019، أعلنت محكمة باكستانية في إسلام آباد الحكم بإعدام الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف، الذي سبق أن قاد الجيش الباكستاني، بعد مسيرة طويلة مكللة بالنجاح داخل أروقة جيش الجمهورية، امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، وبعد الحكم بشهر أبطل حكم الإعدام بقرار من القضاء الباكستاني، مع إبقاء التهم المدان بها.
بعد خروجه من السلطة عام 2008، ابتعد مشرف عن المشهد السياسي لمدة لم تزد على عامين، حين قرر الاستعانة بعالم اللوبيات، ليبحث لنفسه عن مسار جديد في السياسة الباكستانية. في هذا التقرير ننشر تفاصيل أنشطة برويز مشرف في الولايات المتحدة، وجهود الضغط السياسي التي نفذها بهدف أن تضغط واشنطن على باكستان لتفتح الباب من جديد لمشرّف لدخول الحياة السياسية، بعد أن صدر عليه حكم بالإعدام.
برويز مشرف.. من الجيش لرئاسة باكستان إلى الإعدام
ولد برويز مشرف في العاصمة الهندية نيودلهي عام 1943، قبل استقلال شبه القارة الهندية عن الاستعمار البريطاني بثلاث سنوات فقط وقبل تأسيس باكستان. بعد الاستقلال انقسمت الهند إلى دولتي الهند وباكستان، وهذا دفع بملايين المسلمين للهجرة إلى الجمهورية الإسلامية حديثة المنشأ، ومن ضمنهم عائلة مشرَّف.
نشأ مشرف وتعلَّم في باكستان، ثم التحق بالجيش الباكستاني في عمر 18. وترقَّى مشرف وتدرج في الرتب العسكرية بشكل مستمر بسبب سجل خدمته في الجيش، ومشاركته في حروب الهند وباكستان في عامي 1965 و1971. وفي 1998 صار رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الباكستاني، أحد أهم جيوش المنطقة.
تمتع مشرف بشعبية كبيرة في صفوف ضباط الجيش الباكستاني، واستطاع حشد دعم شعبي باستعراضه المستمر لقوة الجيش الباكستاني، ومشاركاته في تجارب عسكرية لأسلحة نووية، ردًّا على الجارة العدوة الهند، التي لا تفوِّت فرصة لاستعراض قدراتها النووية.
في الصباح الباكر من يوم 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1999، اجتمع رئيس الوزراء نواز شريف بمدير المخابرات الباكستانية آنذاك، واتفق معه على إقالة مشرف وتعيينه هو بدلًا منه. ومع وصول الخبر لمشرف، الذي كان في زيارة عسكرية وقتها إلى سريلانكا، عاد مباشرةً لمدينة كراتشي في باكستان، وقواته الموالية له بانتظاره، التي سمحت له بالنزول وتجاوزت أوامر عليا بمنع طائرته من الهبوط.
وبعد ساعاتٍ قليلة، خرج مشرف في بيان أذيع في التلفزيون الرسمي الباكستاني يعلن فيه إقالة حكومة نواز شريف. نصَّب مشرف نفسه رئيسًا على باكستان في 2001، وأجرى انتخابات عامة في 2002 فاز فيها وظل في منصبه حتى 2008، وشهدت سنواته توترًا حادًّا بين المعارضة والحكومة لأسباب عدة، أهمها طريقة وصوله للحكم.
أيضًا سياسته الخارجية المثيرة للجدل: تضمنت توسيع العلاقات مع الهند، والتعاون العسكري مع أمريكا بالسماح للجيش الأمريكي باستخدام القواعد العسكرية الباكستانية في عمليات غزو أفغانستان.
أعلن مشرف استقالته من رئاسة باكستان في أغسطس (آب) 2008، بعد أزمات سياسية عديدة طوال عام 2007، أشعلها اغتيال زعيمة المعارضة، بينظير بوتو، في ديسمبر 2007، وترك مشرف البلاد إلى لندن، واستقر في النهاية في دبي. في 2019 صدر حكم بالإعدام على مشرف بالخيانة، بناءً على أربع قضايا: منها الانقلاب، وتعطيل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ.
رضا بخاري.. رجل برويز مشرف في أمريكا
بالبحث في ملفات وزارة العدل الأمريكية، وجدنا أن معظم عقود الضغط السياسي التي جرى توقيعها لصالح مشرف تحمل اسم رضا بخاري. ولا تُورد الوثائق الكثير من المعلومات عن بخاري، سوى أنه مجرد صديق وداعم ويعمل لصالح مشرف دون مقابل ودون عقد مكتوب. ولكن في مقابلة لبخاري عام 2013 مع قناة «بي بي سي» البريطانية وصفته بالمتحدث الرسمي باسم مشرف.
يذكر حساب بخاري على منصة «لينكدإن» أنه درس الطبّ في باكستان ثم هاجر للولايات المتحدة حيث تحصَّل على الماجستير في الأعمال، وعمل بعدها بعدة شركات للأدوية والمستلزمات الطبية.
ويكشف الموقع الشخصي لرضا بخاري عن طلعاته الإعلامية وبعض أنشطته في الولايات المتحدة، ويظهر الموقع عدة صور لبخاري مع شخصيات أمريكية منها صورة تجمعه مع مشرف برفقة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، والرئيس السابق باراك أوباما، والمرشحين السابقين للرئاسة، جون ماكين، وميت رومني، ووزراء الخارجية الأمريكية السابقين، هيلاري كلينتون وكوندليزا رايس، وكولن بول.
ويبدو أن علاقاته بهذه الشخصيات تأتي من عمله لصالح مشرَّف، الذي زامن حكمه لباكستان الفترة الأخيرة من رئاسة كلينتون، وطوال فترة رئاسة بوش الابن.
مشرف يحاول العودة للحكم من بوابة واشنطن
في 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، ومن العاصمة البريطانية لندن، أعلن برويز مشرف إطلاق حزبه الجديد «رابطة مسلمي عموم باكستان – All Pakistan Muslim League»، أولى محاولات مشرف للعودة للحياة السياسية الباكستانية من جديد.
ووضع مشرف نفسه في موقف المنفى الاختياري، نظرًا لستّ تهم تلاحقه عقب خروجه من الحياة السياسية. إنشاء الحزب بوابة أراد منها مشرف الترشح لانتخابات رئاسة الوزراء عام 2013، وتعزيزًا لهذه الجهود استأجر رضا بخاري شركات ضغط سياسي أمريكية لتضغط لصالح مشرف.
العقد الأول: 150 ألف دولار لشركة «Advanced Associates»
في الأول من سبتمبر (أيلول) 2011، وقع رضا بخاري عقدًا مع شركة «أدفانسد أسوشيتس – Advanced Associates»، التي يترأسها النائب الديمقراطي السابق بيل سارباليوس، وعمل على عقد اجتماعات لمشرف مع نواب وشيوخ في الكونجرس، وضغط على مجموعة نواب لكتابة رسالة تؤيد عودة مشرف للحياة السياسية في باكستان.
انتهت هذه العلاقة في مارس (آذار) 2012، وحصلت الشركة الأمريكية على مقابل قدره 150 ألف دولار أمريكي مقابل خدماتها.
وسنأتي على ذكر هذه الاجتماعات بعد قليل، ولكن للشركة اجتماعاتها على انفراد مع بعض أعضاء الكونجرس للضغط لإصدار رسالة تدعم عودة مشرف لباكستان، فاجتمعت مع: السيناتور الجمهوري المهم بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس، ومع النائب الديمقراطي دينيس كاردوزا، عضو لجنة الشؤون الخارجية بالنواب.
العقد الثاني: تأسيس فرع لحزب مشرف في واشنطن
افتتح حزب مشرف فرعًا في واشنطن، وتسجِّل وثائق وزارة العدل الأمريكية بداية النشاط في أكتوبر 2010، شهر تأسيس الحزب، واستمرت أنشطة هذا الفرع حتى نهاية أغسطس (آب) 2017.
خلال فترة نشاط الحزب في أمريكا، نسَّق القائمون عليه مجموعة من اللقاءات الإعلامية، وأقاموا العديد من الفعاليات لجمع التبرعات للحزب، ولم ينخرط الحزب في نشاط سياسي مباشر بالولايات المتحدة، ولكن القائمين عليه رافقوا مشرفًا في اجتماعات له في الكونجرس.
بخاري في خدمة مشرف
منذ 2011 وحتى 2017، نفذ رضا بخاري عددًا ضخمًا من أنشطة الضغط السياسي لصالح برويز مشرف في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يذكر العقد المسجل في وزارة العدل الأمريكية حصول بخاري على أي مستحقات مادية. وذكرَ بخاري أنه نفذ هذه الخدمات دون تنسيق مع مشرف، وأنه فعلها بسبب صداقتهما لا أكثر.
ضمت الجهات التي تواصل معها رضا بخاري للتسويق لصالح مشرف لكي يعود إلى الحياة السياسية في باكستان، أعضاء بارزين في المؤسسات الحكومية ومجلسي الشيوخ والنواب، وجهات صحفية وإعلامية، وجامعات ومراكز بحثية.
وتاليًا نتحدث عن تفاصيل هذه الأنشطة.
تواصل رفيع المستوى مع الخارجية الأمريكية
لحشد تأييد الحكومة الأمريكية لمساعي مشرف، سعى البخاري للتواصل مع عدد كبير من المسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية. وتكشف الوثائق عمله لتنسيق اجتماعات متكررة لمشرف مع هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة. واجتمع بخاري مع تيموثي ليندر كينج، مدير مكتب باكستان من وزارة الخارجية الأمريكية، وطلب منه دعوة مشرف ليعمل «خبيرًا بشأن باكستان والحرب على الإرهاب».
ورافق بخاري مشرف في لقاءات مع دبلوماسيين شغلوا منصب سفير الولايات المتحدة في دولة باكستان؛ لقاء مع فيليبس منتر، سفير الولايات المتحدة في باكستان (2010-2012)، ولقاءين مع ريتشارد أولسن، سفير الولايات المتحدة في باكستان (2012- 2015).
واجتمع الرجلان أيضًا مع مارك جروسمان، الممثل الأمريكي الخاص لأفغانستان وباكستان، في وزارة الخارجية. ومع بيتر لاوفي وتوم جرينوود، من وزارة الدفاع الأمريكية. ولبخاري تواصل مع مكتب باكستان بالخارجية، منها اتصالات مع صوفيا جوري أحمد. أخيرًا في هذا الصدد، نسَّق بخاري اجتماعًا لمشرف مع ريك بيري، حاكم ولاية تكساس السابق، الذي أصبح وزيرًا للطاقة في حكومة دونالد ترامب.
3 زيارات لمشرف إلى الكونجرس
في شهر أكتوبر عام 2011، نسق بخاري ثلاث زيارات لمشرف للكونجرس الأمريكي، اجتمع فيها مع مجموعة من الأعضاء البارزين في مجلسي الشيوخ والنواب، وتاليًا قائمة بأسمائهم ولجانهم:
- النائبة الديمقراطية الشهيرة نانسي بيلوسي، زعيمة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب آنذاك، ورئيسة المجلس الحالية، اجتمع بها مشرف مرتين.
- السيناتور الجمهوري جون ماكين، وقتها زعيم الأقلية الجمهورية في لجنة القوات المسلحة، وعضو لجان: الأمن القومي والشؤون الحكومية.
- السيناتور الجمهوري البارز ليندسي جراهام، عضو لجان: القوات المسلحة والقضائية والميزانية.
- السيناتور الديمقراطي كارل ليفين، رئيس لجنة القوات المسلحة، وعضو لجان: الأمن القومي، والشؤون الحكومية، والاستخبارات.
- النائب الجمهوري إدوارد رويس، وعضو لجان: القوات المسلحة ويرأس لجنة الخارجية، اجتمع به مشرف مرتين.
- النائب الديمقراطي آدم سميث، زعيم الأقلية في لجنة القوات المسلحة.
- السيناتور الجمهوري ريتشارد لوجر، زعيم الأقلية بلجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ آنذاك.
- السيناتور الجمهوري ساكسبي تشامبليس، عضو لجان: القوات المسلحة والاستخبارات.
- النائب الجمهوري باتريك ميهان، عضو لجان: الأمن القومي، رئيس اللجنة الفرعية عن: الأمن السيبراني، وحماية البنية التحتية، والأمن.
- السيناتور الجمهوري سكوت براون، عضو لجان: القوات المسلحة، والأمن القومي، والشؤون الحكومية.
- النائب الديمقراطي دتش ربرزبرجر، عضو لجنة: الاستخبارات (زعيم الأقلية فيها)، ولجنة القوات المسلحة.
- التائب الجمهوري مايك روجرز، عضو لجان: الأمن القومي، ويترأس لجنة فرعية أمن النقل، وعضو لجنة القوات المسلحة.
- عشاء لمشرف وعضو مجلس النواب الجمهوري مايك روجرز، عضو لجان: الأمن القومي، ويترأس لجنة فرعية أمن النقل، وعضو لجنة القوات المسلحة.
مشرَّف يخطب في هارفارد والجامعات الأمريكية
لم يكتفِ بخاري بالتواصل مع أطراف الحكومة الأمريكية، بل عمل على تقديم مشرف لمؤسسات مدنية وعلمية مهمة؛ فنسَّق لقاءات وحواريات له في جامعات مثل: جامعة ييل، وجون هوبكنز، وهارفارد، وغيرها.
وتواصل بخاري ونسق مشاركات لمشرف مع مراكز بحثية ومؤسسات مهتمة بالدراسات الديمقراطية والدولية، مثل: مركز وودرو ويلسون، ومؤسسة كارنيجي البحثية، ومجلس العلاقات الخارجية. وتواصل بخاري مع صحف ومؤسسات إعلامية مثل «سي إن إن»، و«فوكس نيوز»، وقناة «الجزيرة»، و«ذا أتلانتيك».
ويبدو أن هذه الجهود لم تُثمر بالكثير، فكما ذكرنا في بداية التقرير، حُكم على مشرف في نهاية 2019 بالإعدام غيابيًا، ثم أبطل القضاء الباكستاني حكم الإعدام مع تثبيت التهم التي أدين بها مشرّف، ولا يزال حتى اليوم خارجَ باكستان.
هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.