الشعب يريد «الأمل»
كان هذا هو شعار المعارضة التشيلية خلال الاستفتاء على تمديد حكم الجنرال أوجوستو بينوشيه، أحد أسوأ الحُكام في العصر الحديث، وذلك خلال الاستفتاء الذي أجراه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988 بعد 14 عاماً من الاستبداد، شهدت خلاله البلاد كل أنواع الفجور السياسي، من قتل وقمع واعتقالات واختفاء قسري، نالت عشرات الآلاف من الناس، وأراد بينوشيه لهذا الاستفتاء أن يكون مسحوق تجميل يخفي به وجهه الدموي أمام العالم، لكنه تحول إلى رأس الحربة التي قطعت رأس هذا الكابوس، وأنهت عصرًا من الطغيان، وانتصر الأمل أخيرًا على قوى الظلام.
وسط غيمة من اليأس وفقدان أمل الغالبية من الناس في استفتاء سيُجريه الجنرال بنفسه على تمديد حكمه العسكري 8 سنوات أخرى، لم يروا فيه سوى مسرحية هزلية، خرجت حملة دعائية إبداعية وعبقرية تقول للناس «الأمل موجود والسعادة قادمة»، رأى ذلك الفريق أن هذا الاستفتاء قد يُحقق ما أخفقت فيه وسائل أخرى كثيرة على مدى سنوات طوال، رأوا أن التغيير السلمي وإن كان بطيئًا قد يُنجز ما عجز عنه العنف الذي لم يُثمر سوى مزيد من الظلام، وأن العسكر الذين يُجيدون استخدام الفوضى والعنف في تثبيت أركان حكمهم يمكن الانتصار عليهم داخل الصناديق.
وخلال 27 يوماً فقط، هي فترة الحملة الدعائية للاستفتاء، قامت المعارضة ببث الأمل في نفوس الشعب، وإقناعهم بأنه قادر على تبديد الظلام، واستخدمت وسائل غاية في البساطة والإبداع، فانطلقوا يتحركون بين الناس ويقنعونهم بقدرتهم على قول «لا» لتمديد الطغيان، واختيار وطن أجمل ومستقبل أسعد، فأقنعوهم بداية بالتسجيل في قوائم الناخبين، ثم الذهاب للجان الاقتراع واختيار السعادة المستحقة التي صوروها في إعلان بسيط تضمنته الحملة التلفزيونية التي ارتكزت على أغنية مُبهجة تدعو الناس للتفاؤل وإقناعهم بوجود الأمل وقدوم السعادة.
وجاء يوم الاستفتاء المُنتظر، لتخرج الجماهير من بيوتها للجان الاقتراع، وتأتي النتيجة التي لم تُذهل الديكتاتور وحاشيته فحسب، وإنما أدهشت العالم أجمع، وأعطت الشعوب درسًا في التغيير وانتصار الإبداع والذكاء على العنف والاستبداد، ففازت حملة “لا” لتمديد حكم الديكتاتور، وانتهى عصر الظلام العسكري في تشيلي، وبدأت أولى خطوات التحرك نحو الديمقراطية والحرية والعدل، التي أدركت المعارضة أنها لن تأتي بين يوم وليلة، وإنما بالإصرار والعزيمة والعقل والصبر، حيث استطاعت بعد ذلك – على الرغم من موانع الدولة العميقة القوية – الكشف عن جرائم الديكتاتور وأموال الشعب التي نُزحت للخارج، وإنهاء حياته تحت الإقامة الجبرية مُحتفظاً بمكانه في التاريخ كأحد أسوأ المجرمين في العصر الحديث.
الشعب يبحث عن أمل
بعد خلع الطاغية مبارك كانت أرواح المصريين تطوف في سماء الأمل، كانوا يرون مستقبلًا أفضل لهم ولأبنائهم على بعد خطوة، كانوا يتطلعون لأن ينالهم قسط من خير وطنهم الذي كانت تقتسمه العصابة الحاكمة، وظل هذا الأمل جزءًا من حياتهم اليومية، مُنتظرين مصانع جديدة تفتح بيوتهم، ومدارس أفضل لأبنائهم وخدمة صحية آدمية، واستمر ذلك الأمل سنوات وسنوات يخفت شيئًا فشيئًا، انشغلنا عنه جميعًا برؤى ضيقة، بعضنا ظل أسير لحظة معينة ويوم معين من عمر الثورة لا يُريد أن يتخطاه، والبعض الآخر انشغل بمصالح ضيقة شخصية أو حزبية أو أيديولوجية، وأخذت الفُرقة تتسع أكثر وأكثر، ونبتعد جميعًا عن أمل الناس وطموحهم وأحلامهم وحقوقهم أكثر وأكثر، حتى غرقنا جميعًا في شتاء عسكري قارس، تجمدت فيه السياسة وضاعت فيه الحقوق، وأغرق الفقر والطغيان جموع الناس، حتى صار اليأس هو شعار المرحلة وراية الاستسلام للأمر الواقع وانتظار المجهول.
بالطبع تقع المسئولية الكبرى لما صارت إليه مصر من فقر مدقع وغلاء مميت وطغيان وحشي على عاتق كل من تولى منصب أو شارك في الحكم، لكن الجزء الآخر من الحقيقة هو أن النُخب السياسية والقيادات الشبابية لم تكن على قدر الحلم، ولم تستطع أن تخلق تفاهمًا بينها وأن تُنظم نفسها في إطار أوسع من أيديولوجياتها الضيقة، وأن تبني حصنًا دافئًا للشعب يلجأ إليه من جليد الحُكم الظالم، بل صارت رؤيتهم للمشهد أكثر ضيقًا، وخيالهم وإبداعهم أقل مما يجب، فراح أغلبهم يُجاري الناس في يأسهم وينتظر معهم كارثة قد تُفكك الجليد، غير مستوعبين أن تلك الكارثة لن يدفع ثمنها سوى الناس أيضًا، ولن تُثمر سوى مزيد من الظلام والبرودة، ولن تستقر في النهاية إلا لمزيد من قوة البطش والطغيان.
إن دور النُخب ليس مُجاراة الناس في يأسهم والتوقف عند وصف مآسيهم، وإنما دورهم الحقيقي يكمن في قدرتهم على بث الأمل وخلق طُرق إبداعية ورؤية واقعية للخروج من الهوة السحيقة التي وقع فيها الجميع، كما أن النُخب الحقيقية ليست تلك التي تستطيع أن تتحرك في الأوضاع الطبيعية المُستقرة، وإنما تتجلى عظمتها في الإبداع وقت الأزمات والتحرك خلال أوقات الشدة ووسط المخاطر، دورها أن تشُق ليل اليأس بنور الأمل، وأن تصيغ هذا الأمل في رؤية واقعية حقيقية مدروسة، وخطة مُحكمة عاقلة، يمكنها أن تُقنع الشعب بها ليسير خلفه في ذلك الليل الكئيب.
لقد مر العديد من دول العالم بتجارب مؤلمة كالتي تمر مصر بها الآن، وهو ما يجب أن يكون مفتاحًا لحل اللغز وفك شفرة الخروج من الظلام، حيث يكون دور النُخبة في استغلال أقل الفُرص للتغلب على الألم، وعدم التقليل من أهمية أي فرصة مهما كانت، وأن تُحارب الإحباط واليأس، وأن تدرك قدرتنا على هزيمة معسكر الاستبداد، والسير على خُطى من سبقونا في التخلص من كابوس الحكم العسكري، باستغلال أقل الفرص وعدم الاستسلام لعبارات الإحباط والتثبيط، فهم حولوا المسرحيات الهزلية – كما وصفها الكثيرون – إلى واقع مُدهش، واستطاعوا إقناع الناس بالأمل وإخراجهم من بيوتهم للدفاع عنه.
هذا ما تحتاجه مصر الآن، أن تنفض النُخبة من فوق عاتقها غبار اليأس، وأن تضع رؤية شاملة تُدرك ما وصل إليه الواقع الأليم وكيفية الخروج منه تدريجيًا وسط أمواج الاستبداد والطغيان القوية، وتبُث في الناس روح الأمل في التغيير، وبدلًا من انتظار خروج الناس للشوارع في حركات عشوائية لن ينتج عنها إلا مزيد من الاستبداد، فليقنعوهم بالتحرك نحو التغيير، وبدلًا من انتظارهم ليأتوا من الأقاليم والمحافظات ليتظاهروا في العاصمة، فليدفعوهم للخروج فقط حتى لجانهم الانتخابية لاختيار مستقبل أفضل والدفاع عنه.
أما أولئك الذين توقفت بهم عجلة الزمن عند 28 يناير 2011، وتملكتهم حالة من النوستالجيا لا تصُب إلا في مصلحة النظام الحاكم، فليلهبوا حماسهم للتحرك وسط الناس بنفس حماسهم للتظاهر والهتاف، وتوضيح مفهوم الثورة عندهم، والتفريق بين الغاية من الثورة ووسائلها، وأن لكل وقت وسيلته، حيث تكمن القوة الحقيقية في إبداع وسائل تليق بوقتها، وأن التغيير الذي لم يأتِ به السير في مسيرات طويلة في الشوارع، يمكنك أن يأتي بمراقبة الصناديق الانتخابية التي تحوي حلم التغيير.
إلى كل اللائمين على الشعب بالسكون والسكوت والرضا بالواقع المذل المُهين، إن الشعوب لا تصنع التغيير بكاملها، وإنما يقودها إليه نُخبٌ ذكية ومبدعة ووطنية ومُخلصة، تستطيع خلق رؤية لذلك التغيير وفرز قيادات تحمل مشعله، وإقناع الناس بالأمل القادم معه لكسب ثقتهم ودفعهم للخروج والدفاع عنه.
الشعب يُريد الأمل.