الإنسان ليس وحده من يبحث عن «الإيفوريا»
يلجأ البعض إلى تعاطي المواد المخدرة أو شرب الكحوليات، حاملين في جعبتهم الكثير من الأسباب والتبريرات لذلك الفعل، مثل الهروب من الضغط النفسي أو تجربة شيء جديد يُشعرهم بالإيفوريا «euphoria» أو النشوة والاستماع.
ولنفهم تأثير المادة المخدرة أو الكحول، هب أنك أكلت أو شربت شيئاً تحبه، أو استمعت لموسيقى تطرَب إليها، هنا يُفرز الجسم مواد مخدرة طبيعية مثل الإندورفين بكميات مناسبة تُسبِّب لك المتعة العادية المصاحبة للفعل الذي قمت به، ولكن في حالة تعاطي المواد المخدرة، يفرز الجسم كميات هائلة أضعاف ما يُفرزه في الطبيعي من مثيرات للخلايا العصبية، مُسبباً حالة من النشوة واللذة.
استخدم القدماء بعض المواد المخدرة أو الخمور في عدة أغراض حسنة النية، مثل تخفيف الآلام أثناء الجراحات أو أثناء الاحتضار، ولكن ذلك لم يمنع آثارها الجانبية من أن تضر بأجهزة الجسم مثل الجهاز العصبي؛ مما دعا الأديان لتحريمها، وبالرغم من ذلك، فلا يوجد بيننا أحد لم يرَ ولو إنساناً واحداً على الأقل يتعاطى المخدرات أو يشرب الخمر، ولكن كم منَّا يعلم أن كائنات أخرى غيرنا تتفوق علينا في ذلك المسعى؟!
الأمانيت الطائر
ينطلق بابا نويل بعربته الخشبية ذات الزلاجات المحملة عن آخرها بهدايا العام الجديد، يتقدمها زوجين من حيوانات الرنة المشهورة التي تشبه الغزلان، يحاول بابا نويل أن يصل إلى كل طفل قبل دقات الثانية عشرة في آخر أيام العام ليعطيه هديته التي تمناها. تنطلق العربة وتتطاير طبقات الجليد من حول الزلاجات، يصيح بابا نويل مُشجعاً حيوانات الرنة على الإسراع، ولكن حيوانات الرنة تلاحظ فجأة على جانب الطريق ذلك الفطر ذا القبعة الحمراء المزينة بحبيبات بيضاء مرتكزاً على ساق بيضاء اللون، فتبطئ من سرعتها ولا تعبأ بصياح بابا نويل، وتبدأ في التهام ذلك الفطر في متعة.
ذلك الفطر هو الأمانيت الطائر أو عيش الغراب الذبابي، الذي يشتهر باسم ذباب الغارقيون واسمه العلمي Amanita muscaria، والذي يسبب الهلوسة، ويدفع حيوانات الرنة إلى الجري بلا هدف مُصدرة أصواتاً غريبة وأدمغتهم ترتعش.
وبخلاف أسطورة بابا نويل الشهيرة، فما ذكرته عن سلوك حيوانات الرنة هو أمر حقيقي، فتلجأ الرنة التي تعيش في المناطق القطبية والشبه قطبية من أسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية لالتهام ذلك الفطر السام بالنسبة لنا نحن البشر، ولكنه يُسبِّب لها الهلوسة، فيتصرفون بتلك الطريقة العجيبة.
الخشخاش والتيترودوتوكسين
ننتقل من صقيع المناطق القطبية إلى دفء جزيرة تسمانيا جنوب شرق القارة الأسترالية، والتي تعد من أكبر منتجي العالم للخشخاش المزروع بشكل قانوني لأغراض دوائية؛ إذ يُنتِجون تقريباً 50% من المواد الخام للمورفين والأدوية المخدرة الأخرى، فترى حيوانات الكنغر تتناول نبتة الخشخاش من الحقول، ثم بعد فترة يتحركون في شكل دوائر حتى يفقدوا الوعي.
ثم نذهب إلى المحيط لنرى ما لاحظته عالمة الأحياء المائية «ليزا شتاينر» من تصرف غريب من الدلافين، إذ وجدت أن مجموعة منهم تتلاعب بسمكة الينفوخ والتي تلجأ لنفخ جسدها وإفراز سم التيترودوتوكسين -الذي يعد من أخطر أنواع السموم على وجه الأرض- كآلية دفاع عن نفسها ضد المفترسات، ولكن من الواضح أن للدلافين رأياً آخر؛ إذ إنها تتقاذف ذلك الينفوخ المسكين بين بعضها البعض متناولة كمية بسيطة للغاية من التيترودوتوكسين تشعرها بالخدر وتغمرها بإحساس ممتع.
رب ضارة نافعة
اجتاح فيروس كورونا العالم، والبشر خائفون حَذِرون، الإصابات تتزايد، والبشر يتناقصون، أوراق علمية تصدر بالمئات أسبوعياً، تضارب في بروتوكولات العلاج، ومنظمة الصحة العالمية تُحذِّر من التهاون في التعامل مع الفيروس وتدعو الجميع للمكوث قدر المستطاع في المنزل أو التباعد الاجتماعي على أقل تقدير عند النزول من البيوت، ولكن عصابة من الفيلة تتكون من 14 فيلاً كان لها رأي آخر؛ فبالطبع توجيهات منظمة الصحة العالمية غير ملزمة بالنسبة لهم، إذ استغل الـ 14 فيلاً الحجر الصحي في دولة الصين وتسللوا إلى مزرعة للبحث عن طعام إلا أنهم وجدوا نبيذ الذرة أمامهم، فشربوا حوالي 30 لتراً من النبيذ، ليجد بعد ذلك المزارعون الأفيال في حديقة شاي قريبة وهم فاقدون الوعي نتيجة حالة السكر ويبدو على وجوههم السعادة والرضا.
ونجد عاشقاً آخر للنبيذ وهو حيوان الزبابة؛ إذ يستهلك حيوان الزبابة -حيوان يشبه الفأر- ما يُقدَّر بـ 10 إلى 12 كوباً من النبيذ يومياً على شكل رحيق مُخمَّر من زهور النخيل، ويفيد هذا الأمر في عملية انتشار لقاح النخيل.
ولكن ما هو قادم أكثر غرابة، فقد تتساءل كيف لا يتضرر حيوان الزبابة صغير الحجم بمثل تلك الكمية الهائلة من النبيذ الذي يشربه بشكل يومي! فمن الممكن أن يُصاب بمضاعفات نتيجة حالة السكر التي تصيبه يومياً، ولكن المدهش أنه يحول كمية كبيرة من النبيذ إلى مركب كيميائي يدخل في عملية نمو الشعر، مؤدياً إلى قلة تركيز نسبة الكحول في الدم؛ فلا تحدث أي آثار ضارة مما شربه من نبيذ.
شبكات العناكب
لكل مخدر تأثير مختلف عن الآخر، فمثلاً في العناكب التي تندرج تحت مملكة الحيوانات، أجرى باحثون من وكالة ناسا عام 1995 تجربة لاحظوا فيها أن مهارات العناكب لغزل شباكهم لاصطياد فرائسهم تتأثر عند تعرضهم للأدوية المخدرة، فتنتج أشكالاً مختلفة من الشبكات؛ حيث عرض الباحثون العناكب لمجموعة من المواد الكيميائية مثل الكافيين، والماريجوانا، والبينزيدرين -نوع من أنواع الأمفيتامينات- فوجدوا تشوهاً في أشكال الشبكات المنسوجة، ويختلف شكل الشبكة باختلاف نوع المادة الكيميائية التي تعرضت لها العناكب، فالمواد الأكثر سمية تؤدي إلى تشوه أكبر في شكل الشبكة.
تجربة مثيرة
قضى «رونالد سيجيل» -الطبيب النفسي بقسم الطب النفسي وعلوم السلوك الحيوي بجامعة كاليفورنيا- جزءاً كبيراً من حياته يدرس تأثير المواد المخدرة على الحيوانات. اعتقد سيجيل أن دراسته لسلوك الحيوانات تحت تأثير المخدرات سوف تُساهم في علاج حالات الإدمان عند البشر.
يعتقد كذلك أن سعي الإنسان نحو الثمالة والنشوة هو احتياج غريزي متأصل بداخلنا، بل يعتبر الاحتياج الرابع للبقاء بعد الجوع والعطش والجنس، وأن الهدف من وراء هذا الدافع هو رغبة الإنسان في تجربة شعور مختلف عن الطبيعي، وأن البعض قد يُلبِّي ذلك الاحتياج عن طريق السفر وممارسة الرياضة والهوايات والتجارب المثيرة مثل القفز بالباراشوت، ولكن البعض الآخر يلجأ إلى المواد المخدرة.
أجرى سيجيل تجربة مثيرة على مجموعة من ثلاثة قرود ريسوس؛ لاحظ خلالها أن عند وضعهم منفردين داخل غرفة مظلمة موحشة لعدة أيام، يتجه القرود إلى استنشاق مادة ثنائي مثيل التربتامين DMT -مادة مهلوسة- ولكنهم يرفضون استنشاقها عند وضعهم في ظروف معملية طبيعية، واستنتج أن عند منع الإضاءة والصحبة والحافز، لجأت القرود إلى تعاطي المخدر، قائلاً:
أسباب نعلمها
على عكس الذكر البشري الذي قد يلجأ إلى شرب الخمر لينسى علاقة رومانسية فاشلة، فإن ذكر الفراشة يلجأ لشرب الخمر لتعزيز فرص تزاوجه مع الأنثى؛ إذ إن الخمر يُقوِّي من الحوامل المنوية التي يُهديها لأنثاه أثناء التزاوج، تلك الحوامل تحتوي في داخلها على الأمشاج الخاصة بالذكر بجانب بروتينات ودهون ومعادن تتغذى عليها الأنثى، كما تحتوي أيضاً على مواد كيميائية قادرة على إبعاد المفترسات.
هناك من يلجأ كذلك إلى الخمر مُضطراً مثل ذبابة الفاكهة سوداء البطن Drosophila melanogaster والتي تشرب الخمر لتقتل صغار الدبابير في بطونهم. القصة تبدأ عندما تقابل ذبابة فاكهة سيئة الحظ دبورة طفيلية على وشك وضع بيضها، فتحقن بيضها داخل بطن الذبابة؛ فيتوفر للبيض مكان آمن للنمو، حتى يفقس البيض وتخرج صغار الدبابير تتغذى على الذبابة المسكينة من الداخل إلى الخارج حتى تموت.
وجد دكتور «نيل ميلان» من جامعة إيموري أن ذبابة الفاكهة سوداء البطن تميل إلى اختيار وجبات تحتوي على كحوليات أكثر عندما تحتوي بطونها على صغار الدبابير والتي لا تستطيع النمو في تلك البيئة، فالكحول هنا يعتبر آلية دفاع عن النفس بالنسبة للذبابة في مواجهة ذلك الخطر الذي يلتهمها من الداخل.
افتراضية القرد الثمل
الحقيقة أن هناك افتراضاً لتفسير لماذا يميل الإنسان إلى شرب الخمور وضعه عالم الأحياء «روبرت دودلي» من جامعة كاليفورنيا عام 2000 تحت اسم «افتراضية القرد الثمل»، اقترح دودلي أن انجذاب الإنسان نحو الإيثانول -الإسم الكيميائي للكحول- يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، عندما اعتمد الإنسان الفاكهة الناضجة أو المخمرة كمصدر للغذاء، والتخمير هو عملية طبيعية ناتجة عن التمثيل الغذائي للخميرة على جزيئات السكر، عملية التخمير تنتج عنها رائحة مميزة دلت الإنسان على مكان الطعام.
هذه الرائحة تجذب كذلك الحيوانات غير الإنسان لمصادر الطعام، مما يمدهم بالطاقة اللازمة لاستمرار بقائهم على قيد الحياة، فرائحة الكحوليات أصبحت مقترنة بعملية البقاء بالنسبة للبشر وغير البشر.
الخاتمة
قد تميل بعض الحيوانات لتعاطي مواد مخدرة أو شرب كحوليات مصدرها الطبيعة التي تحيط بهم، ولكن يبقى السبب الحقيقي لذلك الفعل معروفاً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا تفسير له، وتبقى التخمينات المقنعة بالنسبة إلينا نحن البشر، فقد يكون السبب هو التخلص من آلام بالجسم، أو علاج مرض ما، أو مواجهة طفيليات، أو الاستمتاع والشعور بحالة النشوة واللذة، أياً كان السبب فهو سبب من اعتقادنا نحن وليس بالضرورة الحقيقة، فإننا نميل باستمرار لإعطاء دوافع السلوك البشري لسلوك غير البشر.