«شعب ورئيس»: الرؤساء ميعرفوش يكذبوا
من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وصولاً إلى الرئيس الحالي عبد الفتاح للسيسي، وقف إعلاميون في حضرة الرؤساء المصريين موقف إجلال وإكبار، ناقلين للشعب صورة الرئيس في أبهى حلة، مطوعين وسائل العصر من جماليات الصورة وأدوات المونتاج وفنون الإخراج، من خلال سيناريوهات معدة سلفًا، أُخرجت بصورة سينمائية على خلفية موسيقية شجيّة، حيث يلعب الحاكم دور البطولة منفردًا، وما دون ذلك مجرد ديكور.
يظهر الرؤساء في الفضائيات، متحدثين عن أنفسهم وقصصهم، موثقين أمجادهم وإنجازاتهم، معبرين عن طموحاتهم وأحلامهم، بينما عندما يأتي الحديث عن المشكلات ويشار بأصابع الاتهام لهم بصورة عابرة، تقفز إلى السطح مقولة «المشكلات موروثة».
إعلاميون في حضرة الرؤساء
لم يكن ظهور الرئيس عبد الفتاح السيسي في الفيلم التسجيلي «شعب ورئيس» هو الأول من نوعه، بل جاء استكمالًا لسلسلة من الأفلام والحوارات التلفزيونية، الغرض من ورائها «الدعاية» بحد وصف المعارضين.
وجاء الفيلم التسجيلي قبل انتخابات 2018، المُقرر إجراؤها بالداخل نهاية مارس/آذار الحالي، إذ أجرى الرئيس الحوار بشكل مختلف عن الحوارات السابقة، واختار المخرجة السينمائية الشابة «ساندرا نشأت» لذلك.
كان أنور السادات أول رئيس مصري يظهر في حوار تليفزيوني، حيث كان سلفه جمال عبد الناصر لا يألف الخروج للمحاورة على التلفزيون، وكان يُفضّل إلقاء الخطابات عبر أثير الإذاعة المصرية، بجانب بعض اللقاءات التي أجراها مع مذيعين أجانب.
حيث انفردت الإعلامية همت مصطفى، بتقديم برامج مباشرة للجمهور المصري فى مناسبات مختلفة أشهرها عيد ميلاد الرئيس، وكان اللقاء الأشهر بين همت والسادات في 24 ديسمبر/كانون الأول عام 1978.
واهتم السادات بتقديم نفسه للجمهور باعتباره مواطنًا من الشعب، مبتعدًا قدر الإمكان عن الأحاديث السياسية، وظهر بالجلباب والعباءة، في بلدته ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية، تحدث خلال اللقاء عن طريقة احتفاله بعيد ميلاده: حيث قال «سلو بلدنا ندبح بطاية أو وزاية، وتلم الأسرة على الغذاء أو العشاء بهذه المناسبة».
وخلال فترة حكم مبارك، أجرى عدة لقاءات تليفزيونية، كان أشهرها مع الإعلاميين مفيد فوزي، وعماد الدين أديب، ولعل أشهرها على الإطلاق حوار الأخير مع مبارك في 27 أبريل/نيسان 2005، حيث أجرى أديب حواراً مطولاً تحت اسم «كلمة للتاريخ»، انتظره المصريون بترقب عندما أعلنت جريدة «الأهرام» أن مبارك سيفجر مفاجأة كبرى إلى جانب العديد من المفاجآت الأخرى فى مقابلته المنتظرة.
آنذاك، تحرق الشعب المصري شوقاً للحوار، متوقعين أن تتعلق «المفاجأة» بالانتخابات الرئاسية التى كانت على وشك الانعقاد، أو أن يناقش اللقاء أوضاع الديمقراطية فى مصر، إلا أن الحديث لم يتطرق إلى أي من ذلك.
واستغرق الحوار سبع ساعات كاملة، تم عرضها على مدار ثلاثة أيام على التلفزيون المصري، لم يتطرق خلالها مبارك لأي من الأمور المعاصرة التي تخص الدولة ونظامها السياسي، وانحصر الحديث عن الحياة الشخصية للرئيس والفترة التاريخية التي عاصرها، وصوّر الحوار بطولاته في حرب أكتوبر المجيد.
في فنون الحوار
بمقارنة الحوار المطول للرئيسين حسني مبارك في الفيلم التسجيلي «كلمة للتاريخ»، وعبد الفتاح السيسي في فيلم «شعب ورئيس»، نلاحظ تفوق الأول. فرغم تباعد الفترات الزمنية بين الحوارين وما تخللها من تقدم عصر الصورة، لكن يظل عماد الدين أديب هو من قدم مساحة أكبر وأعمق عن حياة مبارك للشعب المصري.
ففي حوار «أديب»، فتح مبارك المجال لمحاوره للدخول إلى غرفة القيادة المركزية في القوات المسلحة المصرية، والغرفة السرية لعمليات القوات الجوية تحت الأرض، وأعطاه حديثًا ممتدًا، استمر بضع ساعات وأذُيع على عدة حلقات، بينما السيسي اكتفى بالظهور في مكتب وحديقة قصره، متجنبًا الخروج لأي موقع خارجي للتصوير.
وتاه الجمهور في كلا الحوارين في زحمة الأجوبة، وغياب الأسئلة الفاعلة، مع الابتعاد عن أمور أكثر حساسية في الشارع المصري كالمعارضة، وهجرة الأدمغة، وتردي الوضع الاقتصادي، ونظام الطوارئ، والخلافات العربية، ووضع مصر في الخريطة السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والإعلامية على الصعيد الإقليمي.
وظهر مبارك في الفيلم التسجيلي داخل حديقة بمرافقة ست كاميرات، مرتديًا زيًا بسيطًا دون رابطة عنق، وهو ذات المنوال الذي تكرر بحذافيره بعد 13 عامًا، حيث ظهر السيسي بملابس «كاجوال»، شملت «فيست» وقميص، وخلفيته حديقة.
وتكرر في اللقاءين نمط الأسئلة الموحية، التي تجعل الضيف يجيب إجابة يريدها السائل، ففي حين كان «السيسي» يتحدث بطريقة «الفضفضة» أثناء الحوار، كانت أسئلة «أديب» وهو إعلامي مخضرم تتجاوز في بعضها عشرين كلمة، كما كان المحاور يعيد صياغة إجابة الضيف في العديد من الإجابات.
وعلقت صحيفة «القبس» الإلكترونية، على حوار مبارك الشهير، وهو تعليق صالح للتطبيق حتى زماننا هذا، حينما قالت:
تحليل الخطاب الإعلامي لفيلم «شعب ورئيس»
أبرز محاور الفيلم التسجيلي
انقسمت المحاور البارزة التي تناولها الفيلم التسجيلي «شعب ورئيس» على النحو التالي:
احتلت الأسئلة التي تركز على الحياة الشخصية للرئيس عبد الفتاح السيسي جل الحوار بواقع 34% من إجمالي الأسئلة المطروحة، والتي فاقت المائة سؤال، شمل ذلك علاقته بأسرته وحياته الدراسية وأحلامه فترة الطفولة، وموقفه من زعماء مصر السابقين.
تلى ذلك الحديث حول إنجازت الرئيس بواقع 29% من الأسئلة، وشغل حيزًا كبيرًا من الحوار بلغ 12 دقيقة متواصلة، انتقد خلالها السيسي هجوم البعض على فترة رئاسته الأولى، معتبرًا أن على «منتقديه أن يلوموا أنفسهم من باب أولى»، لافتًا إلى أزمات متراكمة تتحملها الأنظمة السابقة من زيادة المعدل السكاني بنسب مطردة، وانحدار مستوى التعليم، كما أعلن عن عدد من البرامج سيتم تنفيذها خلال الفترة المقبلة.
في المقابل، جاء الحديث عن طريقة إدارة البلاد، وتفاصيل أحداث 30 يونيو/حزيران ضمن أقل المحاور اهتمامًا، بنحو 3% و12% على التوالي، بالرغم من أهمية التنويع من الأسئلة في ذلك الجانب لكشف تفاصيل وكواليس «أحداث يونيو» التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد مرسي.
نقاط محورية تم التركيز عليها
شمل حديث السيسي خلال الفيلم التسجيلي التركيز على عدة نقاط محورية من خلال الاستفاضة في شرحها أو تكرار نصوص محددة عدة مرات، وفي أكثر من موضع خلال الفيلم.
شدد الرئيس خلال حديثه على الجوانب الأخلاقية، فاعتبر أن أولوية اختيار مقربيه من منطلق قيمي وأخلاقي، كما أفصح أن قدوته في الحياة عمه – يُدعى «محمود»- الذي استلهم منه المعاني الأخلاقية حيث كان يتميز بالعطاء الشديد دون انتظار مقابل، بالإضافة إلى التأكيد على وصف أمه له حينما قالت: «أنت مخلص متخافش»، كما أنها كانت المعلم والمرشد عندما أوصته «متظلمش حد، متاكلش حق حد».
يمكن اعتبار التركيز على الجانب القيمي في الحديث تبريرًا لما يصفه معارضو النظام، أن «إدارة السيسي للبلاد شهدت انتهاكات جمة»، بالإضافة إلى أن مصر كانت موضع انتقاد متكرر في ملف الحريات وحقوق الإنسان من المنظمات الدولية.
وتحدث السيسي عن الشق الديني في سبعة مواضع، كرر فيها كلمة «الله» صراحةً؛ وتبين ذلك في قوله «أريد أن ألقى الله»، «التاريخ بالنسبة لي ماذا قدمت أمام الله»، «لا يهمني الشعبية لدى الناس لكن يهمني رب الناس»، وقوله «عبد الفتاح إنسان وكل اللي بعمله عند ربنا مش محتاج تقدير من حد»، وأيضًا عندما أشار إلى نشأته ركز على الجانب الديني، موضحًا أنه تربى في أحضان الأزهر والحسين، حيث تعلم الإسلام الوسطي.
وعندما تطرق للحديث عن كواليس أحداث الثالث من يوليو/تموز 2013، قال: «ممكن الناس تفسره بأي شكل، أنا بكلم ربنا بس، ربنا هو المطلع وعارف المفردات والظروف»، وبلغ به الأمر حد القول: «قبل التحرك ضمن أحداث يوليو، تحدثت مع الله في القرار المزمع اتخاذه».
وأكد السيسي على حديثه مستخدمًا عبارات (الحقيقة أن ما حدث هو – ركزوا على اللي بقوله- أكرر الكلام اللي قولته ده تاني)، وكرر كلمة «أنا مش ببالغ» ست مرات في سياقات مختلفة، وأقسم بالله مرة واحدة عندما قال «أقسم بالله اتمنيت يكون معايا تريليون دولار عشان أبني بيهم بلدي»، وحلف بالله خمس مرات عند سؤاله عن انزعاجه من انتقادات الشعب له، والإشارة إلى موقفه من التعددية الانتخابية، قائلًا: «والله العظيم أتمنى يكون فيه عشرة مرشحين للرئاسة بس مليش ذنب».
وتحدث السيسي عن المعارضين لنظامه بضمائر الغائب في أكثر من موضع، مكتفيًا بكلمة «هم»، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين أزاحهم عن الحكم، مؤكدًا أن «الجماعة شوشت على المجتمع دينهم وتبنت خطابًا بعيدًا عن وسطية الإسلام»، بالإضافة إلى أن الإخوان لم يكونوا يستمعون لأحد وعاندوا إرادة الشعب المصري، كما ذكر اسم الرئيس الأسبق محمد مرسي، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، بصورة عابرة في موضع واحد فقط.
وعن الانتقادات الموجهة إليه، نفى السيسي المسئولية عن نفسه كرئيس، في تدهور الجوانب الاقتصادية وتردي الأحوال المعيشية، معتبرًا أن ما يحدث تراكمات لأخطاء الماضي، وملقيًا باللوم على الشعب وعدم تقنين سياساته الاستهلاكية، معزيًا ضعف التعددية الانتخابية إلى عدم جهوزية الأحزاب السياسية.
المسكوت عنه في الخطاب
تجنب السيسي خلال حديثه ذكر عدد من المصطلحات المهمة التي يولي بها رؤساء البلاد اهتمامًا، فيما يتعلق بـ «الحرية والديمقراطية»، بالإضافة إلى الابتعاد عن الإشارة إلى «شئون الجيش وثورة يناير»، خاصةً وأنها أمور ملحة في الشأن الداخلي وتعكس صورة البلاد للعالم الخارجي.
وتحدث الرئيس عن أوضاع الحريات في موضع واحد فقط في خطابه، لافتًا إلى أن الجميع يتحدث كيفما شاء في مصر: «اتكلم زي ما أنت عايز لكن فكر كويس قبل أي كلمة ومترددش كلام مش فاهمه».
وفي ذات السياق، أشار بطل فيلم «شعب ورئيس» إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير مرة واحدة بصورة عابرة، مؤكدًا أنه لا يقدح فيها.
وعن الممارسة التعددية، ورد ذكر «الديمقراطية» على لسان السيسي مرة واحدة، عند الحديث عن المرشحين، نافيًا أي علاقة للسلطات الرئاسية في ذاك الشأن: «بتكلمونى في موضوع مليش ذنب فيه».
وفيما يتعلق بأمور الجيش، لم يتطرق لأي جانب سوى الحديث عن الشق الاقصادي، معتبرًا أن مشاركة القوات المسلحة في الاقتصاد أمر حيوي ولا يتعدى 3%.
لم يرد أي ذكر في حديث السيسي لـ «الدستور واحترام نصوصه، أو الرد على تقارير المنظمات الدولية بشأن أوضاع الحريات، وعدد المحبوسين في السجون وأوضاعهم، وتقييمه لأداء الحكومة والبرلمان ومجمل مؤسسات الدولة فترة رئاسته الأولى، والخلافات التي أثيرت بين الأجهزة التنفيذية والسلطة القضائية، وملفات السياسة الخارجية للدولة في عهده، بالإضافة إلى المرشح الرئاسي المنافس موسى مصطفى موسى».
أنماط أسئلة المحاور
تعددت أنماط الأسئلة المثارة لأغراض مختلفة، وبلغت العدد الأكبر مقارنة بباقي الأسئلة الاستفهامية، بواقع 58 سؤالًا له أغراض (تلميعية وإيحائية وتأكيدية وتعجبية) مقارنةً بـ 50 سؤالًا استفهاميًا.
ومن الجدير ذكره، أن المحاور وهي المخرجة ساندرا نشأت، شخصية غير إعلامية، لذا جاءت أسئلتها غير مصاغة جيدًا، وتخللها عدة مقاطعات أثناء حديث الرئيس قبل الانتهاء من إجابته كنوع من الاسترسال في الحديث بشكل أرادت به المخرجة أن يخرج بصورة ودية أكثر من كونه حوارًا مهنيًا.
وجاءت الأسئلة المطروحة بغرض «تلميعي» بنسبة 23%، والغرض من خلالها ليس الحصول على أجوبة بقدر تحسين صورة الرئيس، مثال: (هل كانت والدتك فخورة بك منذ الصغر؟ لاقيت بريق المحبة في عيون الناس بشكل جبار؟ الإخلاص يقودك أن تتخذ خطوات يمكن أن تضر بشعبيتك؟ الناس سعيدة بمعاش السيسي؟).
وجاءت الأسئلة التي تحمل صورة دلالية، ويمكن أن تتكرر على التوالي لتعطي لدى المشاهد إيحاء معينًا، بواقع 14% من إجمالي الأسئلة المطروحة، شملت التأكيد على عرض نبض الشارع دون مونتاج، وإعادة طرح السؤال أكثر من مرة مع إظهار المُحاوِر للتعجب، وذلك في دلالة على رغبة السيسي الاستماع إلى كافة الآراء وسعة صدره في تلقي الانتقادات دون انزعاج.
كما أن الأسئلة الإيحائية المتتالية أمثال (مش بتضايق أما تمشي في الشارع وتشوف زحمة؟ بتسمع انتقادات التي يوجهها الوزراء والمسئولين؟ بتحب تتواصل مع الناس؟)، جاءت لتؤكد المعنى المشار إليه من قبل.
وشمل الفيلم أسئلة تأكيدية بنسبة 9%، تتضمن تأكيد المحاور على أن الرئاسة لا تُملي على الإعلام توجهاته، وأن الرئيس يسعى لتداول السلطة، والتواصل مع الشعب، بينما جاءت الأسئلة بغرض تعجبي بواقع 6%، من قبيل: (ازاى واحد في المدرسة كان معني بشئون الدولة زيك كدة؟! ازاى مش بيضايقك خالص إنك تسمع انتقادات الناس؟!).
نقاط يجدر الإشارة إليها
الرئيس السيسي بدا هادئًا كأغلب حواراته التلفزيونية، لكنه انفعل في الفيلم «شعب ورئيس» مرتين، عند الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين، ثانيهما، عند رده على الهجوم الذي تلقاه من نبض الشارع، وهجومه على الساخطين من الشعب على الأوضاع، بالرغم من تأكيد السيسي على الاستماع لكافة الآراء وحرية الأفراد في الحديث بكل أريحية.
توقف السيسي للحظات عن الحديث في ثلاثة مواضع، وتلاشى حينها النظر إلى الكاميرا، وذلك أثناء حديثه عن حلم راوده بالوصول إلى الرئاسة، وعند سؤاله بخصوص عيوب المصريين، فأوصى الشعب بالصبر، كما صمت أيضًا للحظات قبل الحديث عن 30 يونيو/حزيران.
وردد الرئيس السيسي اسمه «عبد الفتاح» لأكثر من ثلاث مرات متفاوتة، مع التأكيد على تواضعه وسعيه من أجل الوطن وليس لمصالح شخصية، كما ذكر لفظ «مؤامرة» أربع مرات نافيًا حدوث ذلك أثناء التخطيط لعزل جماعة الإخوان من الحكم، بينما رفض التعليق عن فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، مكتفيًا بالقول إن التحديات أكبر من أي رئيس للبلاد.