القلم الرصاص: مشهد من تاريخ اقتصادي خفي
كل صباح، أربعة وعشرون قلم رصاص، مشحوذة ومرتبة في صندوق بحيث يتجه سنها إلى أعلى.
هكذا يمضي روتين جون شتاينبك اليومي. كان حب صاحب «عناقيد الغضب» للأقلام الرصاص عميقًا وشخصيًا للغاية. كان شحذ الأقلام الرصاص بمثابة صلاة صباحية لأبوللو طلبًا للإلهام. كان شتاينبك يكتب بالقلم الرصاص الواحد إلى أن يثلم سنه ثم يلتقط القلم التالي حتى لا ينقطع اتصال أفكاره، هذا إلى أن تفرغ الأقلام الأربعة والعشرين، حينها تبدأ عملية الشحذ الجماعي للأقلام كلها مرة أخرى. ثلاثمائة قلم رصاص استغرقتها عملية الكتابة لنقرأ رائعة شرق عدن.
لم يكن شتاينبك استثناء في ارتباطه الحميم بالقلم الرصاص، شاركه نابوكوف وترومان كابوت في الشغف، أما هنري ديفيد ثورو فقد كانت الأقلام الرصاص أكثر من مجرد أداة للكتابة. كان ثورو مهندسًا للأقلام الرصاص ومساهمًا محوريًا في تطوير تقنيتها منذ أن أصبح «الرصاص» العماد الأساسي لعمل عائلته.
التقط أي قلم رصاص وأمعن النظر فيه، غالب الظن أنه لن يثير فيك شعورًا بالثورية التقنية أو التعقيد الهندسي. ما الذي يمكن أن تمثله أسطوانة رفيعة من الرصاص/الجرافيت (سنلتفت لهذه القضية لاحقًا) محاطة بغلاف خشبي قد تحمل في نهايته ممحاة؟ هل يمكن لأداة بهذه البساطة أن تحمل في طياتها أي تاريخ مثير للاهتمام؟
للقلم الرصاص أصول قديمة معروفة من الريشة المسننة إلى قطع العاج الطويلة الرومانية وإبرة الرصاص (الحقيقي) Styluses، إلا أننا سنروي هنا مشهد من قصة القلم الرصاص ذاته، تقديرًا مستحقًا لدوره، لا في الكتابة فقط، بل وكأداة تنفيس عن الغضب والتوتر اللذين كثيرًا ما دفع ثمنهما تكسيرًا ومضغًا.
فجر القلم الرصاص
ظلت بوروديل في شمال غربي إنجلترا تمد القارة -وأمريكا الشمالية- بخامة أطلق عليها المحليون اسم «الرصاص الأسود». في القرن السادس عشر، كان مخزون ضخم من المادة السوداء التي نعرفها الآن باسم «الجرافيت – Graphite» قد اكتشف في المنطقة وظل ينبوعًا لها لعدة قرون تالية. لم يكن من المعروف كيميائيًا ماهية المادة -الكربونية- إلا أنها بدت كما لو كانت رصاصًا داكنًا. تندر الناس على الأثر الذي تتركه هذه المادة على صوف الماشية الذي ازداد اغمقاقًا من الأثر المرسوم بالرصاص. ومن هذا التشابه أتى الخلط، وسمي الجرافيت باسم الرصاص الأسود بحيث يكون الرصاص الحقيقي رصاصًا أبيض أو فاتحًا.
اكتسب «الرصاص الأسود» شهرة لفعاليته التي زادت بشكل ملحوظ بعد استفادتها من تطور هندسي آخر. في ألمانيا، تم صنع شطيرة من الرصاص والخشب. وضعت عجينة الرصاص في فراغ محفور بين قطعتين من الخشب ولصقت القطع معًا بالشمع كي يولد القلم الرصاص الأول. في بافاريا امتهنت عائلة فيبر صناعة أقلام الرصاص لتستمر في ذلك إلى يومنا هذا كأقدم مصنعي الأقلام في العالم تحت اسم فيبر-كاستيل.
تم اكتشاف الجرافيت في عدة أماكن لاحقًا مع احتفاظ إنجلترا بالتفوق النوعي والنقاوة المرتفعة. كان هذا يعني أن اندلاع الحرب بينها وبين فرنسا عام 1793 يعني حرمان فرنسا من واردات أدوات الكتابة ذات النوعية المتفوقة. كان عليهم إيجاد أي حل.
انبثق الحل من بنات أفكار رجل فنون بذهن متقد قرر أن يتجه للعلم واتسع عقله فشمل الفن والعلم معًا. فقد «نيكولا-جاك كونتيه» عينه اليسرى جراء تجربة على الهيدروجين بينما كان يعمل على تطوير المنطاد في الجيش الفرنسي دون أن ينل ذلك من اهتمامه العلمي البتة.
ولخبرته العملية في التعامل مع الرصاص الإنجليزي وإذابة المعادن والخامات، لم يكن من الغريب أن توكل إليه مهمة إيجاد طريقة لإنقاذ فرنسا من مجاعة الأقلام وقت الحرب. ولد كونتيه في الرابع من أغسطس/آب عام 1755، ومع احتفالنا بذكرى مولده هذا الشهر، نحتفل بميلاد القلم الرصاص الذي نعرفه الاّن.
تمرد فرنسي
كان كونتيه دائمًا رجل تجارب، وكان له باع في الكيمياء مكنه من اختراع المقادير المناسبة لعجينة أكثر فعالية من أفضل أنواع الجرافيت الإنجليزي الذي كانت الاحتياطات منه تنخفض باطراد مؤثرة على صناعة الأقلام في إنجلترا وألمانيا (المستورد الأساسي). قام كونتيه بتنقية الجرافيت من الشوائب وتحويله إلى مسحوق ناعم ثم عجنه مع طين الخزف (الإضافة المحورية للتصميم) والماء.
تتم قولبة العجينة وهي ما زالت رطبة في مستطيلات وتترك لتتجف لتبدأ المرحلة الفيزيائية حيث تؤخذ القوالب بعد جفافها ليتم شيها في أفران ذات حرارة عالية في وجود الفحم[1].
اعتمد هذا القلم على نفس طريقة الغلاف الخشبي الألمانية مع تعديلها ليصبح الفراغ نصف أسطوانيًا ثم اسطوانيا كاملا مع لمسات فنية على الغلاف الخارجي من تصميم كونتيه نفسه، مما أدى إلى أن تعرف أقلامه ذات التصميم الخارجي الخاص باسم «أقلام كونتيه – Crayons Conte».
لم يكن الفارق هنا محصورًا على نوعية الخط. كان الوعي بتفاصيل نشاط الكتابة آنذاك قد تنامى بحيث أصبح شكل الغلاف وموقع الرصاص داخل القلم أمورًا حيوية في تصنيعه، وأصبحت هذه التفاصيل هي المجال الحقيقي للتنافس بين مصنعي الأقلام. ولأن تصميم كونتيه كان أفضل بكثير من كل الإنتاج السابق، فقد سرت طريقته في تصنيع الأقلام كالنار في الهشيم لا في فرنسا فقط بل والنمسا وبريطانيا وألمانيا كذلك.
بين هؤلاء المصنعين كان هنري ثورو -قبل أن ينغمس في كتابه walden والذي ساهم في صناعة أفضل الأقلام في الولايات المتحدة بإضافته بعض الشمع للعجينة نفسها.
أقلام القرن العشرين
لا تختلف الأقلام الرصاص الحالية المصنوعة من خشب الأرز في تكوينها عن أقلام كونتيه وثورو كثيرًا. كانت المزية الأساسية في هذه التقنيات هي قدرتها على تغيير خواص القلم وسماته وتكلفته بواسطة تغيير نسبة مكونات العجينة بالنسبة لبعضها البعض وقد كان هذا مسئولًا عن ميلاد الصناعة بشكلها الحديث.
من ناحية أخرى، استفادت الأقلام من تطور إمكانات التصنيع على أي حال. أصبح بإمكان الماكينات صناعة خيوط رفيعة من عجينة الرصاص لأغراض الرسم أو الكتابة الخاصة، وأصبح غلق الغلاف الخشبي أكثر روتينية وسهولة، إلا أن تطورات أهم قد فرضت نفسها على القلم الرصاص. أهم هذه القفزات التقنية كانت الممحاة، والقلم الميكانيكي (القلم السنون باللغة العامية).
لم تكن فكرة استخدام المطاط لإزالة علامات الرصاص جديدة. كان جوزيف بريستلي -مكتشف الأكسجين ذاته- قد اكتشفها من قرن. ما صنعه الأمريكي هيمين ليبمان لتاريخ الكتابة كان التصميم الذي فطن لوضع قطعة مطاط بلاصق على قمة القلم. مضت أعوام إلى أن ظهر القلم الميكانيكي للمرة الأولى على يد الياباني توكوجي هاياكاوا عام 1915. أطلق هاياكاوا على شركته اسم شارب نسبة لقلمه المسنون دائما دون الحاجة إلى شحذ أو مبراة.
إذن.. هل كان للقلم الرصاص وإنتاجه أثر اقتصادي وتجاري حقيقي؟
بالفعل بدأت الأقلام كمنتج يباع في سلة محمولة على اليد، ومع هذا فإن مصنعيها الكبار الآن قد أقاموا إمبراطورية كاملة من المنتجات المحيطة بها، والتصميمات ساعدها على البقاء والازدهار رغم ما مر به العالم من تقلبات اقتصادية وتغيرات تاريخية.
هل يمكن إنكار أن شيء ببساطة القلم الرصاص قد جعل الحياة أكثر سهولة؟ هل كانت لأهم الاختراعات في العصر الحديث أن تترجم من الذهن للوجود دون «سكيتشات» رصاصية؟