في عام 1865، وقّع الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن الوثيقة التي بموجبها أُلغيت العبودية في أمريكا، لتطوى صفحة سوداء بائسة من تاريخ البشرية. لكن سبق إعلان التحرير ذلك كفاح مرير وجهاد مضنٍ حتى تحققت الحرية المكتسبة والمنتزعة بالقوة والدماء.


البداية السوداء

كانت فرجينيا أول مستعمرة إنجليزية استقدمت العبيد إلى أمريكا الشمالية عام 1619م، بعد وصول سفينة تحمل 20 فريقيًا، بعدها فُتحت أبواب القارة على مصراعيها لتستقبل آلاف الأفارقة المختطفين من بلادهم ليحيوا في القارة الجديدة كعبيد لأسيادهم البيض، ولتُفتح صفحة جديدة من أبشع وأشنع صفحات التاريخ الإنساني.


نقطة التحول

في عام 1833، جن جنون السيد توماس أولد، أحد ملاك مزارع العبيد في ولاية ماريلاند، كان سبب غضبته الشديدة فتى أسود في الخامسة عشرة من عمره، يسمى فريدريك دوجلاس، فقد نجح دوجلاس في تعلم القراءة والكتابة سرًا، وهو ما أغضب سيده للغاية، فالقراءة والكتابة كانت محرمة على العبيد، لما قد تزرعه في عقولهم من أفكار خطرة.

تعلم دوجلاس القراءة والكتابة أصابته بيقظة سياسية وصحوة اجتماعية جعلته ينظر لحياته نظرة مختلفة عما تربى عليه أسلافه، فلم يعد ذلك العبد الخانع الطامع في نيل رضا سيده. فتبلورت في عقله أفكار عن الحرية والمساواة، وأصبح يتطلع بجدية لتغيير ذلك الوضع.

كانت يقظة دوجلاس فردية أصابته هو فقط من خلال قراءاته وثقافته، لذا عزم الفتى على أن يحول يقظته إلى يقظة جماعية، لتصل تلك الأفكار إلى بقية العبيد، مستغلًا حالة السخط وخيبة الأمل التي يعيشونها، فكان قراره بتعليمهم القراءة والكتابة.

كان ذلك يعني حدوث نقلة نوعية في طريقة تفكير العبيد ونظرتهم للحياة، فمن خلال القراءة سيصطدم هؤلاء بأفكار كالحرية والمساواة، وسيمعنون التفكير فيها، مما سيحرك بداخلهم غرائز فطرية تميل إلى نزعة الحرية وعدم الاستعباد، وهو ما سيألبهم بالضرورة على سادتهم، أو على الأقل سيزرع بداخلهم بذرة التمرد، أو إن شئنا الدقة قلنا بذرة الفكر وإعمال العقل.

صب توماس جام غضبه على الفتى الصغير ليجعله يتراجع عن أفكاره تلك، لكن الفتى واجه كل ذلك بموقف عصياني باسل، مستعينًا بالاستنارة العقلية التي حدثت له جراء قراءاته المختلفة، مما جعله مصدر إزعاج للسيد توماس وبؤرة مستقبلية لتمرد قد يطيح بمزرعة الرجل.

في تلك اللحظة قرر توماس اللجوء إلى خطة ناجحة للغاية، طالما استخدمها هو وغيره من السادة في أمريكا، ولم تفشل قط.


الكسر وإعادة البناء

اشتهر أحد ملاك المزارع في ذلك الوقت «إدوارد كوفي» بكونه مروضًا للعبيد، كان قادرًا على كسر وتحطيم الروح المعنوية لأي عبد متمرد، وكان قادرًا بعنفه وفظاعته على تحطيم أشد الرجال صلابة.

كانت تلك هي وظيفة كوفي، يتسلم العبد من سيده ليعمل لديه بالمجان لمدة معينة، يعود بعدها العبد إلى سيده طائعًا ذليلًا بعد أن ذاق مر العذاب في جحيم كوفي.

عقد توماس مع كوفي عقدًا يعمل فيه الفتى دوجلاس لدى كوفي لمدة عام بالمجان، مقابل أن يحطم تمرده ويكسر إرادته.

طوال عدة شهور ذاق دوجلاس مرارة العيش في مزرعة كوفي، وكان عليه أن يعمل ليل نهار ليتقي شره وفظاعته، حتى أصبح الفتى محطمًا جسديًا ونفسيًا، غير راغب في القراءة والكتابة، بل حتى فضّل العزلة والانطواء على نفسه، رافضًا حتى مجرد الكلام مع رفاقه من العبيد.

السادة دائمًا يفضلون جلد أولئك الذين يسهل جلدهم، أولئك الذين يصرخون بينما الجلاد يقتطع من لحمهم.

كانت سياسة كوفي تقوم على الشدة والغلظة والعنف الرهيب وتوقيع أقصى العقوبات على أقل خطأ، ولم يكن يترك لعبيده أي متنفس أو فرصة لنقاش ما فيما بينهم، فضلًا عن تعلم القراءة أو الكتابة. كانوا طوال النهار في عمل شاق مجهد، ينتهون منه ليلًا ليفترشوا الأرض وهم لا يشعرون حتى بأجسادهم من شدة الألم، ليستيقظوا في الصباح ليعاودوا الكرة يومًا بعد يوم.

هل تلاحظ أن نظرية طاحونة أكل العيش التي طبقها السادة على العبيد في الماضي، تطبقها اليوم الديكتاتوريات على شعوبها الفقيرة؟

ذات يوم اشتد التعب على دوجلاس وخارت قواه، ولم يعد حتى قادرًا على الوقوف على قدميه، فسقط أرضًا. لكن كوفي لم يتركه، أخذ يضربه بالسياط بكل قسوة وعنف ليكمل عمله، لكن حتى مع شدة الضربات وغزارة الدماء التي تسيل من جسد الفتى لم يستطع حتى القيام.

تركه كوفي ليستعيد عافيته قليلًا ثم يعود ليكمل الجلد، لكن الفتى انتهز فرصة ذهاب الرجل وفرّ من المزرعة عائدًا إلى سيده القديم.

ارتمى دوجلاس تحت قدمي سيده توماس أولد، باكيًا منتحبًا، طالبًا منه الصفح والمغفرة، نادمًا على كل ما اقترفه، وهو يقسم أغلظ الأيمان ألا يعود إلى سابق عهده، وأن يكون عبدًا مطيعًا لسيده في كل شيء، ويرجوه ألا يعيده إلى مزرعة كوفي ثانية.

كان دوجلاس في تلك اللحظة قد بلغ أقصى درجات الانهيار البدني والنفسي، أصبح جسده خاويًا من القوة ومن أي فكر، فقط كان يبحث عن النجاة من جحيم كوفي.

رفض توماس طلب الفتى وأجبره على العودة إلى مزرعة كوفي حتى يتم باقي مدة عمله، ثم يعود بعد ذلك. عاد الفتى محطمًا يائسًا بائسًا، وفي الليل أوى إلى الإسطبل طمعًا في بضع ساعات من الراحة، لكن خبر فراره وعودته لسيده القديم كان قد وصل إلى كوفي، الذي عزم على تأديب الفتى وبشدة.


المقاومة هي الحل

في الصباح دخل السيد كوفي الإسطبل وهو ممسك بحبل غليظ ليقوم بتقييد الفتى وجلده عقابًا له على فعلته، حينها دارت في ذهن الفتى فكرة مفادها أنه لن يتحمل عملية الجلد تلك، فجسده منهار ومنهك للغاية، وسيده غاضب وبشدة، لذا ستكون هي عملية الجلد الأقسى في حياته أو ربما تكون الأخيرة.

فجأة قفزت في ذهن الفتى ذي السادسة عشرة من عمره فكرة مجنونة، وحدّث نفسه قائلًا: إلى متى سأظل أتلقى الضربات وأنا عاجز عن الرد؟ وما دام كوفي يريد قتلي فمن الأفضل أن أموت مدافعًا عن نفسي خير من الموت ذليلًا.

يقول دوجلاس في مذكراته:

قرر الفتى أن يقاوم فانقض على سيده وهو يكيل له الضربات بكل قسوة وعنف، كانت شهور الذل والعنف اللذين ذاقهما على يدي كوفي يتجسدان في هيئة ضربات ولكمات وصفعات تنهال على وجه الرجل الذي سقط أرضًا والدماء تسيل من وجهه وجسده، وهو يرمق الفتى بنظرات مدهوشة خائفة عاجزًا عن تفسير ما يحدث، وكيف تحول ذلك العبد الضعيف إلى وحش كاسر لا يبالي بشيء. لم يفهم حينها كوفي أن الموت والحياة أصبح كلاهما سيان عند الفتى دوجلاس.

انسحب السيد كوفي من القتال وعاد إلى بيته ململمًا جراحه، بينما قبع دوجلاس مكانه منتظرًا عودة سيده وتنفيذ الإعدام في الفتى الذي تجرأ وتطاول بالضرب على سيده.

لكن مرت الساعات ولم يعد السيد كوفي ولم يحدث أي شيء، وفي اليوم التالي بدأ الفتى في ممارسة عمله بشكل طبيعي ولم يتعرض له أبدًا كوفي، كان يتحاشاه ويبتعد عنه، حينها فهم دوجلاس كل شيء.

لم يكن كوفي قادرًا على قتل الفتى أو إنزال عقاب قاسٍ به لعدة أسباب؛ أولهما أنه لن يستطيع أن يخبر الناس أن أحد العبيد الصغار قد أوجعه ضربًا وأهانه في مزرعته، مما سيلحق العار به ويفقده هيبته، وقد يحذو بعض العبيد حذو دوجلاس فيتطاولون هم أيضًا عليه.

ثانيًا، لو قام كوفي بقتل الفتى فسيشيع بين ملاك العبيد أن كوفي فشل في ترويض دوجلاس وكسر إرادته، مما سيضر بسمعة الرجل ومصدر رزقه القائم على عمليات الترويض تلك. فقرر كوفي تحاشي الفتى حتى انتهاء مدة عمله وعودته لسيده القديم.


سر المعركة

حينها أصبحت الأمور جلية وواضحة عند فردريك دوجلاس وفهم سر المعركة، فالسادة دائمًا يفضلون جلد أولئك الذين يسهل جلدهم، أولئك الذين يصرخون بينما الجلاد يقتطع من لحمهم.

أما أولئك الذين يقاومون ويردون الصاع صاعين، فالسادة يخشونهم ويتحاشونهم. حينها قرر دوجلاس ألا يكون مذعنًا أبدًا، وأن يقاوم رغم كل شيء، فحتى لو كان الموت ثمنًا لمقاومته فسيكون بكرامة. بعد ذلك فر الفتى من المزرعة والتحق بالشمال وأصبح قائدًا أساسيًا في حركة تحرير العبيد.[1]


العلم والمقاومة

مع لمعان تلك الأفكار في رأسي شعرت بهدوء وبطمأنينة يجتاحان جسدي، وتلاشى الخوف بداخلي تمامًا، وحلت محله شجاعة منقطعة النظير.

يتحدث الكاتب الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي عن أهمية التعليم والثقافة في تحرير الشعوب وإثارة الثورات في العالم فيقول: «تمخض الانتشار التدريجي لمحو الأمية، ولا سيما بين صفوف بؤر التمركز المتنامية لساكني المدن، عن قلب الصحوة السياسية الفردية إلى ظاهرة جماهيرية، ومع اكتساب أناس منتمين إلى الطبقتين العليا والوسطى عادة قراءة الصحف بانتظام، فإن وعيهم السياسي نما وصار الحوار السياسي حول وضع الشؤون الوطنية والقومية من الأمور الاجتماعية المألوفة».[2]

كيف تحول ذلك العبد الضعيف إلى وحش كاسر لا يبالي بشيء؟ لم يفهم حينها كوفي أن الموت والحياة أصبح كلاهما سيان عند الفتى دوجلاس.

لذا دائمًا وأبدًا يفضل الطغاة حكم الشعوب الجاهلة؛ لأنه يسهل انقيادها لهم، وتخضع لهم بسهولة، فالجاهل ضيق الأفق محدود التفكير، سهل التحكم به، ولعل أبسط مثال على ذلك هي طريقة اختيار مجندي الأمن المركزي في مصر، حيث يتم اختيارهم من غير المتعلمين، ليسهل قيادتهم والتحكم بهم؛ ومن ثم يصبحون أداة بطش رهيبة في يد الدولة، أداة تنفذ ولا تدرك عواقب ما تفعله.

وعلى مدار التاريخ حرص الطغاة على تجهيل شعوبهم، وحتى لو سمحوا بالتعليم لاحتياجهم له، يدفعون فيه بنسبة صغيرة ضئيلة، مثل ما فعله محمد علي باشا في مصر حين أرسل البعثات العلمية في الخارج لحاجته إليها في تكوين جيشه ودولته الجديدة.

حينها طالبه ابنه إبراهيم باشا بزيادة عدد المبتعثين ونشر التعليم بشكل قوي ومؤثر، فرد عليه الباشا بقوله «إذا تعلموا سيكون مصيرنا مثل مصير ملوك أوروبا؛ لأنهم نشروا التعليم بين شعوبهم»، كان محمد علي يقصد الثورات الأوروبية التي أطاحت بعروش الملوك وأقامت لهم مقاصل الإعدام.[3]

وحتى مع انتشار التعليم بكثافة وتعميمه في مصر بعد ذلك، تم انتهاج سياسة تعليمية فاشلة، أصبح منتجها النهائي مسخًا فاشلًا يحمل شهادة تعليمية شكلية، بينما الفرد خالي الفكر غير مدرك لواقعه وأزماته، ولا يملك محتوى علميًا حقيقيًا.

لو وجد الظالم بجانب المظلوم سيفًا، ما ظلمه.
عبد الرحمن الكواكبي

هكذا يفضل الطغاة حكم هؤلاء الأذلاء الضعفاء، الذين كلما زادت قسوة سادتهم زاد ذلهم وانقيادهم، أما من يقاوم ويرد الصاع صاعين فالظلم عنه أبعد، ويخاف الطغاة من مجرد الاحتكاك بهم، لأنه حينها تكون الخسائر وخيمة.

فحتى لو كان الطرف المقاوم ضعيفًا وهزيمته محتومة يظل الطرف الآخر خائفًا من الخسائر التي سيتعرض لها حتى يصل إلى نصره، والذي سيكون مكلفًا في النهاية. وهذا ما يسمى بسياسة الردع، فكلما شعر المعتدي بأن الضحية قادر على رد الأذى بمثله كان ذلك مانعًا له عن البدء بالشر من الأساس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. روبرت جرين، 33 استراتيجية للحرب، ص 318.
  2. زبيغنيو بريجنسكي، رؤية استراتيجية.. أمريكا وأزمة السلطة العالمية، ص ص 40 – 41
  3. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص371