بيجاسوس: المغرب و«إسرائيل» والشراكة في التجسس
أزمة جديدة، كبيرة جدًا هذه المرة، تلك التي انفجرت يوم 18 يوليو/ تموز الجاري بعد أن نشرت مجموعة من المؤسسات الإعلامية ذات الصيت العالمي، تتزعمها جرائد واشنطن بوست الأمريكية والغارديان البريطانية ولوموند الفرنسية المنضوية تحت لواء مؤسسة Forbidden Stories للتحقيقات، تحقيقًا استقصائيًا صحفيًا حول استعمال عدد كبير من الدول من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لبرنامج بيجاسوس من أجل التجسس على خصومها السياسيين، لم تعرف اللائحة حضور أرقام مجموعة النشطاء فقط، بل ضمت أرقام عدد من المسؤولين من رؤساء وملوك ووزراء بجانب صحفيين استهدفهم البرنامج شركة NSO الإسرائيلية.
لم يكن هذا التحقيق ليمر مرور الكرام، دون أن يخلف جدلًا كبيرًا داخل الأوساط السياسية العالمية، زوبعته العنيفة وأمواجه العالية وصلت إلى قصر الإليزي بباريس، والقصر الملكي بالرباط، بعد أن زعم التحقيق استعمال المغرب للبرنامج الإسرائيلي لاستهداف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحاشيته من الوزراء والشخصيات السياسية والإعلامية المهمة في بلاده.
50 ألف رقم والكثير من الأسرار والأسماء
كشف التحقيق الذي عملت عليه 17 هيئة تحريرية في العالم تتقدمهم الواشنطن بوست، ولوموند والغارديان عن قائمة تضم 50 ألف رقم هاتف كان من ضمن الأهداف المحتملة لبرنامج بيجاسوس للتجسس الذي طورته شركة NSO الإسرائيلية.
يعتبر برنامج بيجاسوس، حسب الجارديان البريطانية، أقوى برنامج تجسس تم تطويره على الإطلاق من طرف شركة خاصة، إذ إنه بمجرد تسلله إلى هاتف الضحية، يتحول الهاتف إلى جهاز مراقبة شامل يعمل على مدار 24 ساعة، يسجل المكالمات، يحتفظ بالصور وينسخ جميع الرسائل التي يتلقاها صاحب الهاتف، لدى البرنامج القدرة أيضًا على تصوير الشخص المستهدف عبر تفعيل كاميرا هاتفه كما بإمكانه تشغيل الميكروفون لتسجيل المحادثات حتى تلك التي لا تتم عبر الهاتف بل تتم بشكل مباشر بين الضحية وأشخاص آخرين.
ضمت لائحة الضحايا المحتملين عددًا من الشخصيات السياسية رفيعة المستوى، من بينها أرقام 3 رؤساء هم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والعراقي برهم صالح وسيريل رامافوزا من جنوب إفريقيا، و10 رؤساء حكومة منهم من لا يزال يمارس مهامه الحكومية كالباكستاني عمران خان والمصري مصطفى مدبولي والمغربي سعد الدين العثماني ومنهم من تم وضع اسمه على القائمة حينما كان في الحكومة كاللبناني سعد الحريري والبلجيكي شارل ميشيل بجانب شخصيات مهمة كناصر الخليفي، مدير مؤسسة بي إن القطرية ورئيس فريق باريس سان جيرمان الفرنسي الذي قال التحقيق إنه كان هدفًا سعوديًا خلال الأزمة الخليجية الأخيرة، البلد نفسه الذي استهدف بمشاركة الإمارات العربية المتحدة سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل حسب المصادر ذاتها.
صحفيون، وزراء، ثم ماكرون
لم تكن جميع الملفات التي تطرق لها تحقيق Forbidden Stories على نفس القدر من الأهمية، ظهر للجميع أن هنالك ملفات أكثر أهمية وحساسية من أخرى، أحد هذه الملفات الحساسة جدًا، كانت تلك التي لها علاقة بالعلاقات المغربية الفرنسية.
بدأت الحكاية بالتدريج عندما بدأت وسائل الإعلام الفرنسية تتداول أخبارًا تفيد استعمال المخابرات المغربية لبرنامج بيجاسوس من أجل التجسس على عدد من الصحفيين الفرنسيين، العاملين في العديد من وسائل الإعلام المختلفة التي تمثل توجهات أيديولوجية متناقضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث ضمت اللائحة التي تناقلتها وسائل الإعلام الفرنسية بشكل موسع 180 صحفيًا من فرانس 24، وميديا بارت (موقع يساري) والقناة الفرنسية الأولى (TF1) ثم وكالة الأنباء الفرنسية (AFP)، لكن هذه اللائحة من الصحفيين لم تلبث أن توسعت وضمت 600 سياسي فرنسي، و65 مدير مؤسسة و85 مناضلاً في منظمات حقوق الإنسان المختلفة.
قررت مجموعة من هذه الوسائل التوجه لقصر العدالة بباريس لفتح تحقيق في هذه المزاعم التي تمس «حرية الصحافة الفرنسية» على حد تعبير الجهات المشتكية، لكن ألغام مشروع بيجاسوس واصلت الانفجار في كل مكان متخذة منحى آخر مع دخول القضية إلى داخل أروقة الإليزي بعد أن كشفت لوموند أن عددًا من وزراء فرنسا وعلى رأسهم إيدوارد فيليب، رئيس الحكومة الفرنسي السابق كان ضمن اللائحة المستهدفة عبر برنامج التجسس الإسرائيلي، لكن لم تكن هذه آخر المفاجآت، حيث زعمت المصادر ذاتها أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، كان من ضمن الذين وضعتهم الاستخبارات المغربية على مرصدها وهو ما دفع الأخير للخروج والتأكيد على أنه في حالة تم تأكيد هذه الادعاءات فإن العواقب ستكون حتمًا وخيمة على العلاقات بين فرنسا والمغرب.
واصلت الألغام الإخبارية في الانفجار واحدًا تلو الآخر، ذلك حينما قالت وسائل الإعلام التي عملت على التحقيق إن أرقامًا من داخل القصر الملكي منها رقم الملك وزوجته ومولاي هشام الملقب بـ «الأمير الأحمر» المقيم حاليًا بالولايات المتحدة الأمريكية وأفراد آخرين من الأسرة الملكية كانوا من ضمن المستهدفين من حملة التجسس هذه، وسائل إعلام فرنسية اعتبرت أن الملك نفسه يعتبر مستهدفًا من الداخل المغربي، وهو ما فجر أزمة كبيرة بين باريس والرباط.
المغرب ينفي أولاً، ثم يتوجه للقضاء
بعد 3 أيام من السكوت الرسمي، خرجت الحكومة المغربية لنفي جميع ما جاء في تحقيق Forbidden Stories، مؤكدة أن هذه الحملة ما هي إلا تتمة لعدد من الحملات التي تستهدف أمن المغرب داخليًا وسمعته الخارجية. وتحدى البلاغ الحكومي المغربي المؤسسات الصحفية التي عملت على التحقيق بمساندة من منظمة العفو الدولية بتقديم دليل مادي ملموس واحد على ما ادعت.
التصعيد المغربي تواصل بعد ذلك، بعد تأكيد وزير الخارجية ناصر بوريطة أن ما وصفه بـ «الحملة الخبيثة والمضللة» تخدم أجندات تستهدف المملكة معتبرًا أن هذه الاتهامات بنيت على «تخمينات صرفة»، انطلقت بعد هذه التصريحات حملة إعلامية مضادة من طرف وسائل الإعلام المغربية التي وصفت تحليلات الصحافة الفرنسية بـ «الفاشية» و«الصليبية» التي تريد النيل من المغرب لأهداف سياسية أهمها تمكن المملكة من الانعتاق من التحالفات مع دول أوروبا بعد أن تمكنت من انتزاع اعتراف الإدارة الأمريكية بمغربية الصحراء، القضية السياسية والشعبية الأهم بالنسبة للرباط.
عبد الإله بنكيران، الرئيس السابق للحكومة المغربية الذي يستعد للعودة للسياسة من بوابة انتخابات 2021، خرج هو الآخر يوم أمس السبت من خلال صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لاستنكار «استهداف» فرنسا وإعلامها للمغرب، حيث اعتبر أن أخطر ما نشره التحقيق هو التلميح إلى أن الإستخبارات المغربية تستهدف القصر الملكي، وهو ما اعتبره بنكيران جنونًا كون جميع أجهزة الدولة المغربية تدين بالولاء المطلق للملك والأسرة الملكية، حسب ما شاهد هو نفسه وعاين خلال اقترابه من القصر خلال ولايته الحكومية على رأس البلاد مضيفًا أن هذه الأجهزة تحظى بثقة كبيرة من الملك شخصيًا.
هذا التصعيد لم يقف عند ما هو إعلامي ودبلوماسي، بل اختار المغرب التصعيد قضائيًا ضد كل من منظمة العفو الدولية ومؤسسة Forbidden Stories بعد أن كلف سفيره بباريس شكيب بنموسى المحامي الفرنسي أوليفييه بارتيلي برفع دعوى لدى المحكمة الجنائية الفرنسية لمواجهة ما وصفته الحكومة المغربية «بالكذب والتضليل الإعلامي» الذي يستهدف استقرار البلاد وعلاقتها الدبلوماسية المتينة مع فرنسا.
المغرب وبعد أن دخل في وقت سابق في نزاع مع كل من ألمانيا وإسبانيا بسبب قضية الصحراء، يرى في تحركات الاتحاد الأوروبي استهدافًا له ولمصالحه وحدوده الترابية، تحركات تزايدت في الآونة الأخيرة بعد انفجار أزمة المهاجرين القاصرين المغاربة التي اندلعت غداة استقبال إسبانيا لإبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو التي تطالب بانفصال الأقاليم الصحراوية عن المملكة.
عفوًا.. برنامجكم لم يستعمل جيدًا
الشركة الإسرائيلية المصنعة للبرنامج خرجت هي الأخرى دون تأخر لنفي الاتهامات التي أصبحت تحيط بها بعد نشر التحقيق، إذ أكد حائيم غيلفاند في تصريح لقناة إسرائيل 24 أن جميع الأخبار التي تتحدث عن استهداف هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لا أساس لها من الصحة، لكن دون الحديث عن هواتف باقي الزعماء المستهدفين.
المتحدث ذاته قال في تصريحاته إن شركته قامت بفتح تحقيق لمعرفة ماذا جرى بالضبط، لأنه في حالة ما ثبتت دلائل استعمال حكومة ما لهذا البرنامج للتجسس واستهداف النشطاء والصحفيين فإن الأمر يعد بدون شك «سوء استعمال»، رافضًا في نفس الوقت ما وصفه بالحملة «الخبيثة والمغرضة» التي تتعرض لها الشركة، ما دفعها لإيقاف التعامل مع وسائل الإعلام بشكل عام.
لكن هذا التبرير ربما لم يكفِ عددًا من المنظمات الدولية، كمنظمة مراسلون بدون حدود المعنية بحرية الصحافة التي طالبت الحكومة الإسرائيلية بفرض حظر فوري على بيع برنامج بيجاسوس معتبرة أن أي جريمة تجسس تحدث في العالم تعني تورط إسرائيل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي لا يجب على تل أبيب الهروب من مسؤوليتها الجنائية والأخلاقية حسب المنظمة.