مسلسل «Peaky Blinders»: أنشودة غجرية في هجاء الحرب
تأتي الحروب الكُبرى لتُخرج من أحشاء المُجتمعات كل صور البطولة ومعها كل صور الشر والقسوة، يقول الشاعر الأمريكي «آدم كيرش» إن حروب أثينا الخاسرة خرج منها «سُقراط» المُحارب ليودع سيفه ويصير فيلسوفًا، بينما الحرب الأهلية الإنجليزية خرج منها «توماس هوبز» فيلسوفًا متوحشًا يكتب «اللفياثان» عن الدولة التنين التي قد تُضطر لأن تقتات على أفرادها لكنها لن تكون أبدًا ضعيفة أو مُفككة.
تُفكك الحروب بوحشيتها كل مفاهيمنا المُسبقة على العالم، ومن رمادها ينبعث واقع جديد، يمتد تأثير الحرب ليشمل البشر كافة، لكنها تملك أثرًا فريدًا لا يُشبه سواه على المُحارب وحده، لأنه من ضحى بنفسه ليُدمر الواقع القديم وبدمائه وتضحياته يصير هو المسئول عن الواقع الجديد. تحدث المُفارقة التراجيدية عندما يعود المُحارب من حربه ليجد واقعًا لا يُمثله، لا يُميز فيه دماؤه وتضحياته.
ولدت الواقعية الجديدة في السينما المصرية من عودة جيل الحرب لواقع لا يُشبههم مثل أبطال «عاطف الطيب» الأخلاقيين الذين بذلوا حياتهم في الحرب لكنهم عادوا لوطن جديد لا يُشبه أبدًا ما قاتلوا لأجله، بينما ولدت الثقافة المُضادة في السينما الأمريكية من عودة المقاتلين من حرب فيتنام ليجدوا التظاهرات تصفهم بالوحوش وتحرق أوسمتهم وأزيائهم العسكرية.
يدور Peaky Blinders حول الجرح التراجيدي ذاته، عودة مُحاربين بريطانيين من خنادق الحرب العالمية الأولى، مُكللين بالأوسمة الحربية ومعها الجروح النفسية العميقة، منحتهم حكومتهم أوسمة، لكنها تركتهم دون تأهيل، يجوبون الشوارع والأزقة كالمجانين، يسمعون ضجيج قنابل خيالية، ويفرون من عدو لا يصدقون أنهم هزموه بالفعل، يتحرك المُجتمع للأمام مُتخليًا عن مُحاربيه، كما تتخلى عن قشرة جافة لجرح عميق برأ أخيرًا، ولا تحتاج تلك النُدبة القبيحة لتُذكرك به، من رحم تلك اللحظة عاد «توماس شيلبي» وإخوته لبرمنغهام البريطانية، مدينتهم التي ما إن وطئوها بأقدامهم حتى خلعوا أوسمتهم وألقوها بازدراء في مجاريها الآسنة.
أن تكون غجريًا في مُجتمع مُتحضر
ما يُميز Peaky Blinders، هو جمالية الاستعارة التي غلفت شخوصه، ينتمي توماس شيلبي وأسرته للغجر، طائفة تحيا على هامش المُجتمعات المُنظمة والسرديات الكُبرى، قوامها الترحال، لا يحمل أفرادها ولاء إلا لبعضهم البعض، لهم لغتهم الخاصة التي يلجأون لها كلما تشككوا في الغرباء وأرادوا إحاطة حديثهم بسرية، وينشدون خلاصهم لدى «Black Madonna»، قديسة تُشبههم تمثل نسخة مُعدلة من ماري العذراء، بشرتها داكنة وتخلو رسمتها من الأبهة وفخامة أيقونات الكنائس الكٌبرى.
يُحيط الغجر أساطير شتى عن سبب تمسكهم بحياة بدائية مُتنقلة، جذورها أسبق من القوميات الحديثة، حياة بكر تخلو من الرايات والأعلام والأيديولوجيا، تخلو تحديدًا من كل العصبيات التي خلقت الحُروب الكبرى. أبرزها أسطورة صنعهم المسامير التي ثبتت المسيح في صليبه، أسطورة تُبرز بذكاء جوهر الغجر، أناس يبحثون عن رزقهم، حتى لو جعلهم ذلك مُتطفلين في قلب مشهد ملحمي بين جنود رومان ونبي مُخلص، لا يهمهم شيء من ملحمية هم في قلبها سوى بعض القروش، هم رحالة يبحثون عن رزق اليوم التالي، ولو كان الحديد الذي لهم دق مساميره في مُخلص البشر كافة.
يؤسس الكاتب «ستيفن نايت» للحظة الخطيئة في حياة توماس شيلبي عندما ينسلخ من غجريته ويؤمن أنه بريطاني، ينتمي لسردية خلاص وطني ويتطوع بإرادته مع إخوته للقتال في الحرب الكبرى، يموضعهم القادة في أدنى فئات المُقاتلين وأكثرها صعوبة، حفاري أنفاق، كأنهم عار يجب إخفاؤه، لا يظهرون بأناقة تحت راية العلم، بل يختبئون تحت الأرض، يحفرون تحت خطوط العدو، مثل القنادس، يموتون في صمت عندما تنهار الأنفاق فوق رؤوسهم.
في نهاية الحرب انتظر توماس وإخوته فصيلة الفرسان الأنيقة لتُنقذهم من الخنادق الفرنسية، ولما يئسوا من مجيئهم ومات حولهم الرجال جميعًا، في تلك اللحظة كفر توماس بالعلم البريطاني وبالرب الذي تخلى عنه وتلا صلاة غير موجهة لإله بالأعلى أو قوات بالأسفل إنما صلاة للشتاء القاسي الذي يُرجف جسده موقنًا بموته، لكنه لم يمت.
تلك المشهدية التي بدأت منها حكاية عصابة آل شيلبي، تُمثل الإطار السيكولوجي للحكاية بأكملها، هؤلاء المُقاتلين لم يموتوا بالجسد في خنادق فرنسا، لكن ذواتهم القديمة ماتت هُناك، يعود توماس آخر غير الحالم النبيل الذي ذهب، يعود مُعانقًا غجريته التي تحتقرها المُجتمعات المُتحضرة، مُعتبرًا أن تلك الحالة البدائية هي أصدق ما يُمثل الإنسان، رحالة بلا مُستقر، ولاؤه لعائلته ولقروشه، كل الأديان والرايات والقوميات التي اصطنعها البشر خلقت حرب كُبرى قتلت الإنسانية في قلوب الجميع، أما الغجر فيملكون مُجتمعات أبسط من ذلك، وبدائيتهم تُحصنهم بصدقها من الإيمانات الكاذبة التي تغوي البشر لقتال بعضهم في سبيل رب لا يرونه أو عرق أسمى أو ملك وتاج لا يعبأ بهم.
أن تحفر نفقًا من الجحيم للوطن
يعود توماس شيلبي للوطن ليمد الاستعارة على استقامتها، مثلما كان الحفار الأبرز في فصيلته للعالم السفلي للمعركة، يصير بعد عودته للوطن، المُخطط الأبرز للعالم السفلي لمدينته، في الحرب كانت خطة توماس هي الحفر إنشًا تلو الآخر للوصول للضفة الأخرى، وفي السلم يواصل توماس الحفر ولكن للأعلى ليخرج مع عائلته من طبقته المتدنية نحو ترق اجتماعي يتسيد به مدينته ويصير من طبقتها العليا.
خلال رحلته سوف يعقد توماس صفقات مع كل الشياطين، مع التاج البريطاني والثوار الأيرلنديين، مع البلاشفة والقساوسة، والأمريكيين، وأخيرًا مع الفاشيين، يبدأ توماس شيلبي مُراهنًا صغيرًا في سباقات الخيول وينتهي ضابطًا للإمبراطورية البريطانية ومُمثلًا للنقابات العُمالية وجاسوسًا للتاج وبوق للفاشية.
تُجسد رحلة الصعود تلك لآل شيلبي أكبر إدانة لمُجتمع ما بعد الحرب الذي قاتل توماس لأجله، فالمُجتمع الذي سمح لشباب غض بحفر أنفاق انتحارية خلف خطوط العدو دون حماية أو دعم لكونهم غجر بلا قيمة، هو ذاته الذي سمح للغجر الذين يحتقرهم بالترقي الإجتماعي في رحلة مشبوهة اعتمدت على الترهيب والرشوة والفساد بكل أشكاله، لإنهم صعدوا بالطرق الوحيدة الملتوية التي يُباركها هذا المجتمع، يرى توماس في أنفاق الحرب التي صنعها وممرات الصعود التي حفرها، الرائحة ذاتها، رائحة العفن والإدانة.
يُحقق توماس مصيره الغجري الذي تنبأت به عمته بولي، رجل رحالة يُصافح الشياطين، ويتحالف مع تيارات مُتناقضة كلًا منها يُبشر بالخلاص ويُدين ما دونه، يرتدي توماس أزيائهم ويتلفظ بشعاراتهم، لكن خلف كل ذلك يظل ولاءه للحظة النفق، رجل بلا إيمان، ترك أوسمته في المجارير، وترك الرب في الخندق، رجل لا يتلو صلاته إلا للشتاء القاسي، ولا يرى في كل حلفائه إلا شياطين يُجندوا ملايين الأبرياء في معركة بلا قيمة، يقول توماس أن الأديان والسرديات هي إجابات غبية لأسئلة أغبى.
بين المسيح وقاتليه، بين الشيوعيين والرأسماليين، بين التاج وأعداؤه سيظل الغجر يصنعوا المسامير والأسلحة للجميع، سيظلوا على هامش المشهد، يحاولوا النجاة بأنفسهم هربًا من سرديات تقتات على أصحابها.
يعد توماس شيلبي وإخوته تنويع عن تيمة المُحارب العائد لوطن لا يشبهه، لكنه مُحارب لا يعود بمُساءلة، إنما بإدانة كاملة، لا يخون توماس وطنه وحسب، بل يصنع أنفاقًا في نسيجه وبنيته يُطل عبرها مثل مارد خرج من قُمقم، في المواسم الأخيرة ترى النُخبة البريطانية وحشًا غجريًا برز بينهم، يحتقروه، يهابونه، ويسألوا جميعًا، كيف في غفلة من الزمن ظهر بينهم؟ مثلما تساءل الألمان في الحرب الكبرى كيف اهتزت الأرض أسفلهم وصنع البريطانيين أنفاقًا مُفخخة وسط خطوطهم، التشابك البديع بين مُهمة توماس النبيلة في الحرب ومُهمته المُخيفة في وطنه الأم يُعيدنا دومًا للجرح التراجيدي للمُحارب الذي صنع بتضحيته وطنًا لا يُشبهه، يختار توماس أن يعود بخبرته الوحيدة التي نالها من الحرب وبدماءه الغجرية ليصنع مشهدية ساخرة، يتسيد فيها الغجري وطن لا يعترف به، يصير في مشهد ملحمي هو المسيح لقومه، وهو حليف الرومان، هو صانع الصليب وهو الشهيد عليه. يؤمن به الجميع بينما قوته الوحيدة أنه رجل لا يؤمن، لا يخاف الموت لأنه مات سابقًا في خندق بعيد في إنتظار فرسان لن يأتوا.
حكاية ذكورية تقودها إمرأة
تُجسد شخصية «العمة بولي» في Peaky Blinders تحية خاصة لحقبة الحرب الكبرى، التي خرج فيها كل رجال أوروبا للخطوط الأمامية تاركين مُجتمعات فارغة ونُخبة ثقافية تؤمن أن المرأة مكانها المنزل وأعمال مثل الخياطة والتمريض لا أكثر، لا يحق لهن التصويت، ولا ينالون في أعمالهن سوى نصف أجور الرجال، عندما فرضت الحرب واقعًا مُخيفًا قوامه بلاد بلا رجال، خرجت النسوة ليعملن في كل مهن أزواجهم، عاملات مناجم ومصانع وموظفات بريد وسائقي شاحنات، أكثر من 4 ملايين امرأة أنقذت الإمبراطورية البريطانية من الكساد بينما الرجال على الجبهات، عندما انتهت الحرب، تم محو الدور الأنثوي كاملًا، عاد الرجال لوظائفهم طاردين النسوة للهامش، للمنازل، لتخوض تلك النساء حربًا جديدة في الداخل تجاه مجتمع ما بعد الحرب، مجتمع لا يزال يرفض حقهن في العمل أو التصويت.
تمثل شخصية «إليزابيث غراي» تحية ذكية لجيل نساء الحرب الكبرى، فهي تولت إدارة أعمال آل شيلبي كاملة بينما الرجال في الحرب، وبينما المُجتمع ونخبته خذلوا نساء بريطانيا، فالمُجتمع الغجري حمل تقديرًا كبيرًا لنسائه، فالساحرة هي رأس كل قبيلة غجرية، لحكمتها وحُكمها يخضع الرجال، يعود آل شيلبي من الحرب وتظل «بولي» قائدتهم وبوصلتهم.
في مُسلسل شديد الذكورية في صراعاته وأدواته التي تتراوح بين الشفرات الحادة المُخفاة في قبعات الرجال للبنادق والقنابل، تبرز إليزابيث غراي باعتبارها أكثر شخوص آل شيلبي ذكاء، منها يستمد توماس قوته ومن استراتيجيتها يُحرك كل إخوته مثل البيادق على رقعة شطرنج لا يرى حدودها سواها.
في مشهد بديع يؤطر «ستيفن نايت» تلك التحية، عندما يحدث إضراب نسوي في برمنغهام فتخرج بولي غراي مُصطحبة كل الشخصيات النسائية في المسلسل في تظاهرة لصالح النساء، لا يجرؤ رجال الشرطة على فضها لا لإيمانهم بشعاراتها إنما لخوفهم من سطوة آل شيلبي وملكتهم المتوجة «بولي» التي تقود التظاهرة.
ترسخ تلك المقابلة بين الغجر والمجتمع البريطاني، حالة النقمة الشديدة على مُجتمع إقتات على رجاله ونسائه في حرب لم تخلق وحشيتها أو نهايتها عظة واحدة، لم ينل المحاربون تقديرًا أو علاجًا، لم تنل النساء اعترافًا بدورهن الإنقاذي لأمة ذكورية، لم ينل الغجر أي بادرة قبول تجعلهم مُنتمين لا منبوذين.
يمثل Peaky Blinders أنشودة غجرية تُدين الحرب الكبرى ومُجتمع بين الحربين الذي لم يخلق مُصالحة إنسانية أو جندرية أو اقتصادية مع كل الظروف التي قادت للحرب العالمية الأولى لذلك كانت النهاية المنطقية لمسلسل مثل ذاك هي صعود الفاشية ووقوف توماس في تأمل مرير وموقن بقيام الحرب العالمية الثانية. لأن الظروف نفسها ما لم تتغير سوف تُعيد المصير نفسه، لم يتعلم أحد شيئًا، ما زالت الرايات والشعارات والقوميات الصارخة تحكم العالم، وما زال هناك شباب يُشبهون ذاته القديمة، حالمين، نُبلاء، سوف يتطوعون لجحيم لا يعلمون عنه شيئًا وسيموتون هناك وإن عادوا سيكونون مثله أطلالًا لنُبل قديم وكفار بحلم صار كابوسًا.
يمثل Peaky Blinders أنشودة غجرية مُعادية للحرب، وللتحضر الزائف الذي صنع مُجتمعات أكثر تعقيدًا وتطورًا، لكن في قلبها الجنون والهمجية ذاتها.
ذئب عواؤه نحيب
منح المسلسل جماهيرية عُظمى للبطل كيليان ميرفي، ولهالة الرجل الذكوري القوي غير العابئ، المُحارب الشرس الذي لا يبتسم ولا يرمش جفنه في حضرة خصومه، نجح كيليان في أداء تمثيلي عبقري في تجسيد تلك الحالة، لا باعتبارها جوهر الشخصية إنما قناعها، لا تعدو جاذبية توماس أن تكون قشرة رقيقة وهشة، تحرس رجلًا عدميًا، تمنحه عدميته قوة رجل لا يخشى الموت، وفي بعض الأحيان يتمناه، مثلما تتمنى لقاء صديق قديم يُخبرك أن الرحلة انتهت والنفق اكتمل، لا مزيد من الحفر، في أحد المشاهد يقول توماس عن نفسه إنه ليس إلهًا بعد لكنه سيظل يحفر طريقه حتى يصير واحدًا.
بينما شارة البداية هي أغنية عن رجل مؤله يظهر في العاصفة ليمنح الرجال المعنى والمُمتلكات والقبول بيد حمراء تعميدها لأتباعها هو الدم. في تواز مع وعود الحرب الكبرى التي اجتذبت الشباب بالطريقة ذاتها.
لا تنبع رغبة توماس في التأله على مجتمعه كألوهية مُصلحة أو طامعة إنما احتجاج عدمي على غياب الألوهية الحقيقية، على إله يسمح بهذا القدر من القسوة في العالم، وعلى معنى يتنكر في صور شعارات شتى لا تُخلف إلا مزيدًا من القتلى، يمثل توماس في قسوته وحضوره القوي قناع يخفي حنينًا حزينًا لعالم أكثر نبلًا لم يوجد، يُشبه ذئبًا وحشيًا يقود قطيعًا لكن لا أحد فيهم يعرف أن عواءه نحيب. ذئب مُجبر على المواصلة.
في المواسم الأخيرة عندما ينال توماس راحة ويذهب في إجازة، تُطارده هواجسه ورؤى النفق الذي ينغلق عليه وهو يحاول الحفر للأمام، يوقن توماس من مصيره، لا راحة له في هذا العالم، في لحظة الراحة سوف تنقض عليه هواجسه وشياطينه، لم تعد حالة الحفر في النفق، ذكرى من الحرب أو موقف طبقي لعائلته، بل صارت ذهنية كاملة، المُرعب فيها أن النفق هو حياته ذاتها وأن نور الضفة الأخرى لم يأت، يصير الاستمرار أبدية سيزيفية مُرعبة، لا ينتهي مُسلسل بيكي بلايندرز بموت توماس شيلبي الذي يُمثل راحة يتمناها وكسرًا للعنته الغجرية، عليه أن يواصل الحفر، أن يصافح الشياطين، وأن يُكمل ترحاله ويجد دورًا جديدًا في حرب جديدة، مثل غجري مُخلص لمصيره ولعنته.