أفلام بول توماس أندرسون: رجال بحاجة للرقة
جاء ذلك الاقتباس على لسان بطل فيلم المرشد Stalker للروسي الشهير أندري تاركوفسكي، وهو اقتباس متأثر بالفلسفة الطاوية الصينية، يحتفي تاركوفسكي بالرقة والضعف، بالانفتاح على تقبل الهشاشة التي ترتبط بشكل مباشر بالحياة، والتي بفقدانها يحضر الموت، يقلل من أهمية القسوة والصلابة التي عادة ما يتغنى بها الرجال، ويعلي بدلًا من ذلك من قيمة اللين، الرقة والعطف، هو يقصد في الإنسان بشكل عام، لكن لطالما ارتبطت قيمة القوة بالرجال عبر الأزمنة.
في نهايات التسعينيات من القرن الماضي بزغ على الساحة الهوليوودية صوت إخراجي متميز، اشتهر بعد فيلمه الثاني ليالي البوجي Boogie Nights، جذب بول توماس أندرسون الأنظار بسبب جرأة طرحه وأسلوبه البصري الثاقب وقدرته الهائلة على إدارة الممثلين، لا يملك ذلك المخرج أي رابط موضوعي أو شكلي مع تاركوفسكي، لكن حدث أن معظم أبطال أفلامه من الرجال الذين يعانون ويتصارعون مع صلابتهم وجانبهم الرقيق، الرغبة في السيطرة والتحكم الكامل هي ما يحدد رجولتهم، وينتهي الأمر ببعضهم في وحدة تامة، بينما تنقذ الرقة البعض الآخر.
ما يجعل الرجل رجلًا
في مصادفة مضحكة ومثيرة للاهتمام تستخدم الترجمات العربية للأفلام لفظ رجولة أو ذكورة لوصف الأعضاء التناسلية للرجال، وفي شخصيتين في فيلمين متتابعين لأندرسون يختزل الرجل منهم كيانه كله في ذلك، تلك هي رجولته التي يحتمي بها، يحترمها ويعتدي على الآخرين بسببها، هي فخره وإنجازه الوحيد.
في فيلم ليالي البوجي 1997، يمثل ذلك الحبكة الرئيسية للفيلم، رحلة صعود وسقوط إيدي أدامز (مارك والبرج) نجم أفلام إباحية يمثل جسده رأس ماله وتعريفه لذاته، وبعدما يتورط في دوامات من إدمان المخدرات وفقدان الاتجاه، يفترض أن يؤدي به ذلك إلى تغيير طريقته في الحياة والنظر للأشياء، في أي فيلم آخر، لكن في فيلم لبول توماس أندرسون يقف البطل أمام المرآة في المشهد الأخير متأملًا في قدرات جسده الاستثنائية معلنًا أنه النجم الأوحد.
في ديناميكية مشابهة يعمل فرانك ماكي (توم كروز) في فيلم ماجنوليا Magnolia 1999 كمدرب أشبه بمدربي التنمية البشرية، لكنه متخصص في العلاقات، ويوجِّه منهجه للرجال فقط، يناديهم باحترام أعضائهم التناسلية (يتم ترجمتها في الغالب احترم رجولتك وهو المقصد بشكل عام)، ويحطم النساء بالحصول عليهن عن طريق الخداع، فرانك مهووس برجولته ووسامته وقدرته على التحكم في عقول تابعيه، في محاضراته يصرخ قائلًا إنه هو من يقول لا، من يقول نعم، ومن يقول تعالي إليَّ، يملك هو السطوة الكاملة على جسده وأجساد النساء وطبيعة العلاقة ومدتها، بل إمكانية تحويل أي علاقة صداقة إلى علاقة جنسية.
يعطينا أندرسون نظرة على ماضي فرانك وكيف أصبح الرجل الذي هو عليه بسبب طفولته وعلاقته بأبيه وأمه، الغريب في تلك الشخصية أنها صبت كرهها على النساء وطورت هوسًا بالذكورة رغم معاناتها بسبب الأب، لا يحصل فرانك على الخلاص، لا نعلم إذا ما تغير أو وجد طريقًا آخر، ففيلم ماجنوليا على عكس معظم أفلام أندرسون التي يمكن وصفها بدراسة الشخصية يتناول مجموعة شخصيات متعددة ومختلفة منفصلة، لكنها متداخلة تتنوع خلفياتها الاجتماعية وحيواتها الخاصة، في ماجنوليا يعطينا أندرسون أمثلة متعددة عن فكرته فيما يخص الحب والوحدة والرجولة، شخصيات هشة وشخصيات مهووسة بالتحكم، وتصل دراساته بالشخصيات المهووسة في أفلام أخرى إلى رغبة حقيقية في الوصول للألوهية.
رجال وآلهة
يدور فيلم ستكون هناك دماء There will be blood 2007 حول شخصية دانييل بلينفيو (دانييل داي لويس)، رجل وحيد يسعى إلى السيطرة والكسب من النفط في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، العائق الوحيد الذي يقابله في مسيرته التي لا تتوقف هو رغبته في الحفر تحت أرض تملكها أسرة لها ابن «إيلاي سانداي» – يلعب دوره بول دانو – يعتبر نفسه نبيًّا إنجيليًّا مخلصًا، مسئول عن كنيسة لكنه يديرها وكأنها مسرح لأعمال طرد الأرواح والظهورات الروحانية، يصر إيلاي على أن يرضخ بلينفيو لكنيسته وأن يشترك في استعراضاته، كلاهما يسعى للسيطرة الكاملة، أحدهما بالمال كمجاز أوسع للرأسمالية، والآخر عن طريق السلطة الدينية.
يفقد إيلاي سانداي أعصابه حين يشعر أن سلطته شبه الإلهية تتزعزع، وعندما يتمكن دانييل من استغلال كل النفط القابع تحت أرض أسرة إيلاي وما حولها يصرخ في وجه القس الصغير بأنه هو الظهور الثالث للمسيح، دانييل هو الإله الآن لأنه قادر بقدرة كلية أن يأخذ ما يريده وما يعتبره له، مثلما اعتبر فرانك أجساد النساء ملكه يرى دانييل أن كل ما يرغب فيه من أموال ملكه أيضًا، وأن ذلك يعطيه الحرية المطلقة.
في اللحظات القليلة التي يمكن فيها رؤية عاطفة ما صادرة من دانييل بلينفيو يتم وأدها في التو، يدفنها هو بنفسه، لا يسمح بأن تصبح مشاعره تجاه ابنه المتبنى حقيقية، فهو يملك ما هو أهم، أن يجمع المال الكافي ليستقل تمامًا بحياته بعيدًا عن البشر الذين لا يشعر تجاههم بأي شيء عدا الكراهية، يتم التلميح لصعوبة طفولته وتعرضه للأذى من والده، مثل التيمة الرئيسية في فيلم ماجنوليا، وبالفعل يجمع دانييل ثروة عملاقة تمكنه من العيش وحيدًا مريرًا في قصر ضخم، يفقد حتى رغبته في عقد الصفقات وجمع الأموال، وتبقى لديه فقط الرغبة في الانغماس في بقايا السيطرة والسلطة وكشف كذب ادعاءات الآخرين بأشياء مثل الإيمان أو الحب.
أخذ أندرسون فترة راحة لمدة خمس سنوات بعد ستكون هناك دماء، والذي يعتبره الكثيرون تحفته الأبرز، لكنه عاد عام 2012 بفيلم السيد The Master، والذي يمكن اعتباره تحفة أخرى، يدور فيلم السيد حول ديناميكيات علاقة معقدة بين لانكستر دود، يقوم بدوره الراحل فيليب سيمور هوفمان، رجل في خضم صناعة ما يشبه دين جديد، يعرِّض مريديه لما يشبه التنويم ليسافروا عبر الأزمنة السابقة ويتتبعوا أرواحهم المتناسخة، يعترض فريدي كويل (واكين فينيكس) السكِّير المدمن على الجنس طريقه في أحد الأيام، فريدي خارج لتوه من الحرب العالمية الثانية كضابط بحرية ويعاني من أعراض ما بعد الصدمة، تنشأ بينهما علاقة يصعب تفسيرها، صداقة عميقة وعلاقة تشبه العبد والسيد تتغير باستمرار وتتحول وتنقلب.
يلقب لانكستر نفسه بالسيد، ومثل إيلاي سانداي يفقد أعصابه تمامًا حينما يتم التشكيك في مصداقيته، لا تعتمد فلسفته على الدين المسيحي بشكل رئيسي، لكنه يحاول صناعة منهج جديد، ويكوِّن شبكة من الأتباع تعطيه سلطة مماثلة للسلطة الدينية، ويمارسها بشكل خاص على فريدي، يعتبره رفيقه الملاصق له وفأر تجاربه، يحاول أن يغيره ويحوله من مدمن إلى شخص فعال في المجتمع، وفي المقابل يتبنى فريدي دور العبد بشكل كامل، لكن يتقاطع ذلك مع دوره كصديق، يدافع فريدي عن أفكار سيده، حتى عندما يتشكك هو نفسه في صحتها، يمارس عنفه ورجولته الفائرة المتبقية من حرب مضت على كل من يتلفظ بالسوء عن سيده.
لكن وعلى عكس الوحدة التي ينتهي إليها كل من دانييل بلينفيو وفرانك ماكي فإن فريدي ولانكستر يطوران مشاعر وعاطفة حقيقية بعضهما تجاه بعض، وحتى عندما يفترقان تترك تلك العاطفة رواسبها، فسرها البعض بأنها حب، فريدي عنيف ويعبر عن مشاعره باستخدام العنف الجسدي المباشر، يغيب عقله بالكحول لفترات طويلة ليتناسى حياته، وقع في الحب مرة مع فتاة صغيرة السن ولم يستطع الالتزام بعهود تجاهها، تنكسر ملامحه المتجهمة فقط عندما يتعرض للرقة والرفق من ذكريات حبه المفقود أو من عطف لانكستر تجاهه، وكذلك لانكستر الذي يفقد وقاره المعتاد حين يقابل صديقه فيضمه ويتدحرج معه على الأرض مثل الأطفال، ويبكي شاديًا أغنية رومانسية في آخر لقاء بينهما، وتمثل تلك اللحظات العابرة تحررًا لحظيًّا لتلك الشخصيات من دوامات العنف والتحكم.
أنا واقع في الحب، أنا مريض
في حبكة ماجنوليا المتعددة والمتقاطعة توجد قصص تناقض عنف فرانك وذكورته المسممة، تتمثل في شخصية دوني الذي اشتهر في طفولته بالذكاء الشديد لفوزه المتكرر في برنامج مسابقات للأطفال يختبر المعلومات، وعندما أصبح بالغًا فقد شهرته وأمواله ونبذ أهله لاستغلالهم له، وعاش وحدة مؤلمة بسبب قصة حب غير متبادلة مع فتى البار الذي يتردد عليه، وهي وحدة تزيد كثافتها بسبب ميوله غير الغيرية، يسعى دوني لكسب المال لكي يجري عملية تقويم لأسنانه مماثل للذي يضعه فتى البار، فقط ليلفت نظره، تمثل تلك اللفتة الحزينة والرقيقة في الوقت نفسه جانبًا آخر من شخصيات أندرسون، شخصيات تسعى إلى الخلاص من الوحدة وتسعى إلى إيجاد المعنى عن طريق الانغماس في العاطفة والرقة وإظهار جانب هش يمكن اتهامه بسهولة بأنه ليس رجوليًّا كفاية، لكن دوني لم يخشَ أن يصرخ في وسط الحانة أنه واقع في الحب، وأنه مريض بذلك، وأن يعرِّف نفسه بأن اسمه دوني سميث ولديه الكثير من الحب ليعطيه.
شخصية أخرى تملك هشاشة غير متوقعة هي شخصية جيم الشرطي النبيل الذي يؤمن أن وظيفته تتمثل في المسامحة وإنقاذ حيوات الآخرين، خفيض الصوت ومهذب لا يحتمل الألفاظ النابية، بل تحدث له مواقف تجعل زملاءه من رجال الشرطة يسخرون من سذاجته، تأتي جيم مكالمة ليلية بإزعاج حادث في إحدى العمارات السكنية، وحينما تفتح له كلاوديا الباب يقع في حبها من أول نظرة، لا يلاحظ توترها الظاهر وتشنجاتها المتكررة نتيجة تعاطيها لأنواع من المخدرات، بل يملك رغبة هائلة لإنقاذها، نعلم على مدى أحداث الفيلم أن كلاوديا مثل فرانك عاشت طفولتها مع أب مسيء جعل من حياتها البالغة جحيمًا، تحاول مرارًا أن تخبر جيم أنها ليست مثله، وأنه إذا علم حقيقتها فلن يرغب في الاقتراب منها، يترك الفيلم الذي يتسم بالقتامة بشكل عام فسحة من الأمل في علاقة جيم وكلاوديا وإمكانية التعافي واختبار الرقة المتبادلة، يترك العديد من القصص مفتوحة، لكنه يختم قصة كلاوديا بابتسامة نادرة تسبب بها جيم الذي نحَّى قيم القسوة الرجولية جانبًا واختار قيمًا أخرى لا تجعل منه رجلًا أقل بأي شكل.
يدخل باري شجارًا غير متكافئ مع أعضاء شركة جنس تليفوني تمكنوا من خداعه واستغلال وحدته في سحب أمواله، يقف أمام رئيسهم ويقول له بجدية مخيفة: «أنا أملك حبًّا يجعلني أقوى من أي شيء تتخيله»، باري (آدم ساندلر) هو الشخصية الرئيسية في فيلم حب ثمل Punch Drunk Love الذي صنعه أندرسون عام 2002، وهو على عكس أفلامه التي سبقته ولحقته يحكي حكاية صغيرة وبسيطة مثل قصة قبل النوم، مفادها أن الحب موجود ويمكنه إنقاذك، يعيش باري حالة مستعصية من الوحدة، يملك سبع أخوات يسخرن من نوبات غضبه المتكررة ومن عدم قدرته على تكوين العلاقات، يقابل باري لينا التي تعامله كشخص طبيعي، بل شخص مرغوب فيه، لا تعامله بشفقة أو سخرية، تملك تجاهه إعجابًا صادقًا، تجده وسيمًا ورقيقًا، يقع باري في حبها هو الآخر ويقدم على أشياء خارج نطاق راحته، يسافر فجأة ليقابلها أو يقف في وجه عصابة شوارع، يعطيه الحب والتقبل قوة شبه خارقة، تقل نوبات غضبه ويستعيد ثقته بنفسه من جديد، وتصبح حياته مزيجًا بين الصلابة الرجولية المستحدثة والرقة البالغة التي تعطيه الشجاعة الكافية ليستخدم الحب كسلاح في وجه العنف.
بالحديث عن الحب والمرض أو المرض بالحب فإن بول توماس أندرسون يأخذ ذلك الاقتباس بشكل حرفي في فيلمه الأخير الخيط الوهمي Phantom Thread 2017، مثل عادته يتناول أندرسون شخصية رجولية بالدراسة، يعود مرة أخرى للعمل مع دانييل داي لويس في شخصية رينولدز وودكوك مصمم الأزياء المرموق الذي يكتنز النساء مثل الأثواب، يغيِّرهن كل عدة أيام، يبحث عن واحدة بمقاسات محددة يمكنها أن تكون ملهمته و«مانيكانه»، يجب أن تتناول الفطور معه بهدوء لكي لا تعكر صفو تركيزه وعبقريته، لكن يتغير ذلك بعدما تدخل ألما حياته، فهي مهاجرة أوروبية لا تملك هدوء الفتيات الإنجليزيات اللاتي اعتادهن، صاخبة وحرة وترغب هي في السيطرة والتحكم وكسر دائرة سيطرته، تفعل ألما ذلك عن طريق كسر صلابة رينولدز بإمراضه، وحينما يعلم بمخططها يرضخ له، يتركها تنتصر ويتخلى عن التحكم لكي يحظى بأيام قليلة من الهشاشة والتعرض للعاطفة والاهتمام واختبار الحب دون أن يكون هو الطرف الأقوى.
يهدي بول توماس أندرسون أفلامه لزوجته مايا رودولف وأولاده، فهو مستقر منذ سنوات في زواج محب وحياة أسرية حميمية، لكن في سينماه ميل لتصوير الإفراط، شخصيات متطرفة تعبر عن مشاعرها بالصراخ والتخريب، تسعى إلى القوة وامتلاك السلطة المطلقة، لكن من حين إلى آخر يسمح للرقة أن تكسر دائرة العنف.