كل شيء يبدو غريبًا ومعقدًا في مانشستر يونايتد، نحن أمام مشهد يعج بالتفاصيل المربكة التي تحيلنا لنتيجة واحدة؛ وهي أسوء بداية بتاريخ الشياطين الحمر في البريمييرليج.

البعض يضع اللوم على اللاعبين، والكثير يشير بأصابع الاتهام نحو إدارة «إد وودورد»، وأكثر منهم على قناعة تامة بأن «جوزيه مورينيو» هو سبب كل تلك المشاكل. وفي ظل هذا المناخ، لم تتوقف الشائعات عبر الأسابيع الأخيرة حول مصير الفريق؛ بداية من أخبار الإطاحة بالبرتغالي، وحتى أنباء عن رغبة اللاعبين في الرحيل عن مسرح الأحلام.

لكن أمرًا بعينه غطى على ما سواه، واستحوذ على المشهد تمامًا في مانشستر، وقد أفردت له الصحف والمنتديات الجماهيرية عشرات المقالات التي تحلله وتتوقع ما سينتج عنه، هذا الأمر هو الصراع المشتعل بين مورينيو و«بول بوجبا».

على مدار الموسم الماضي، شهدنا بعض المواقف التي أشارت إلى توتر العلاقة بين مورينيو ولاعبه الفرنسي؛ تارة ينتقد جوزيه اهتمام بول الزائد بشعره، وتارة يسحبه من التشكيل الأساسي، وتارة أخرى يتناقشان سويًا بحدة خلال مباراة توتنهام، لكن كل ذلك تغيّر هذا الموسم!

فقد تصاعد التوتر القابع تحت الرماد وتصدر واجهة الأحداث، بل وتحوّل لحرب علنية شرسة، وصلت ذروتها مع المشادة التي دارت بينهما خلال التدريبات، وهي المشادة التي تلت إعلان مورينيو حرمان بوجبا من شارة القيادة للأبد.

يظن الكثيرون أن بوجبا ما هو إلا ضحية لكل ما جرى، هو المجني عليه الذي عركته أفعال مورينيو البغيضة، ولولا ذلك الأخير لقاد الفرنسي كتيبة اليونايتد إلى منصات التتويج. هذه ليست الحقيقة، أو ليست الحقيقة الكاملة للدقة.

بالتأكيد بول ليس شيطانًا ليتحمل كل تعثرات فريقه السابقة، لكنه أيضًا ليس ملاكًا، هو أقرب ما يكون لنصف ملاك ونصف شيطان.


في مذكرات أليكس فيرجسون

بعد خسارة الفريق أمام برايتون، خرج بول للإعلام قائلًا بأن سبب الخسارة هو عدم امتلاك لاعبي اليونايتد الدوافع الكافية للفوز. لكنه بعد التعادل أمام ولفارهامتون كان أكثر جراءة وحدة، حيث تعرض بالنقد بشكل مباشر لأسلوب اللعب، هذه المرة أكد بأنه كان عليهم الهجوم والضغط لأنهم مانشستر يونايتد، ولأنهم يلعبون في أولدترافورد.

قد تبدو هذه التصريحات منطقية في ميزان الجمهور، لكنها ليست كذلك أبدًا في ميزان المدربين وإدارات الأندية، فالتعبير بهذا الشكل المعلن من كابتن الفريق عن تخاذل زملائه ورفض أسلوب اللعب يعني ببساطة أن مانشستر بات فريقًا مفككًا غير متماسك.

لذلك يجزم «داني ميلز» المحلل في شبكة سكاي بأن هذه التصريحات لو جاءت خلال حقبة «أليكس فيرجسون»، لعرض المدرب الإسكتلندي بوجبا للبيع صباح اليوم التالي!

بذكر فيرجسون، ينبغي تأمل قليلًا موقفه من بوجبا. فيشاع أن التخلي عن الفرنسي، عندما كان ناشئًا في صفوف مانشستر، يعد الخطأ الأكبر في مسيرة السير، لكن الأخير لا يبدو عليه الندم إطلاقًا. إذ يؤكد فيرجسون في كتابه leading بأنه طلب من بول البقاء لعام إضافي بإنجلترا ورفض عرض اليوفنتوس، لكنه أُحبِط جدًا من طريقة تعامله خصوصًا بعد دخول وكيله «مينو رايولا» على خط المفاوضات.

اصطدم رايولا بالسير صدامًا عنيفًا، وهنا انتظر فيرجسون أن يرفض بوجبا أفعال وكيله، لكنه تفاجأ به يأخذ صف مينو. وهنا كان سؤال بعينه يملأ رأس السير: إذا كان بول يدير تصرفاته بتلك العقلية وهو ما زال ناشئًا، فماذا سيكون الأمر لو أصبح من نجوم الصف الأول؟

إجابة السؤال جاءت عندما انتقد أسطورة اليونايتد «بول سكولز» غياب القائد في صفوف الفريق عقب مباراة برايتون، ليشن رايولا هجومًا مهينًا عليه قائلًا بأن سكولز يسعى للشهرة على حساب بوجبا، وإذا كان غاضبًا لهذه الدرجة فعليه طلب الاستغناء عن الفرنسي من إدارة اليونايتد. المثير كان ردة فعل بوجبا، فبينما انهال غضب جمهور مانشستر على الوكيل، آثر بول الصمت.

الشاهد هنا أن عقلية بوجبا لا تتغير. أحيانًا تتسم ردود أفعاله بعدم الاتزان، فلا يتورع عن انتقاد شخصية زملائه وأسلوب اللعب علانية، ربما يسمح لوكيله بإهانة رموز النادي، أو يتعامل مع كل وأي انتقاد بدرجة من اللا مبالاة. وفي ذلك الإطار، ليس من الصعب تصديق أن أول ما فعله بول بعد مشادته مع مورينيو هو نشر فيديو عبر حسابه على إنستجرام وهو يغني الراب!


فريق بوجبا

في إبريل/نيسان الماضي، كان «تيري هنري» يحلل مباراة اليونايتد وويست بروم بينما تعلو وجهه الدهشة. لم يكن السبب هو خسارة مانشستر على ملعبه أمام فريق يتذيل الجدول وحسب، بل أيضًا بسبب الأداء الذي ظهر عليه بوجبا وأدى إلى استبداله قبل مرور 60 دقيقة.

فقبل أسبوع واحد فقط من تلك الخسارة، تمكن بوجبا من قيادة فريقه للفوز بديربي مانشستر بعدما سجل ثنائية وحوّل التأخر بهدفين للفوز بثلاثية، لكنه عاد في المباراة التالية وانخفض أداؤه للدرجة التي دفعت هنري للتساؤل: ماذا يحدث مع بوجبا بالضبط؟ لماذا لا يؤدي مثلما فعل أمام السيتي؟

أهم ما يميز بوجبا مع الشياطين الحمر هو تذبذب المستوى، في مباراة معينة قد تجده قائدًا يتحكم في إيقاع اللعب ويؤدي بروح، وفي مباراة أخرى قد يبدو تائهًا منعدم الفاعلية والتأثير، حتى تظن أنك أمام نسختين مختلفتين من نفس اللاعب؛ أحدهما يلعب دور القائد في مانشستر، والثاني يشعر بغربة تامة عن محيطه ولا يستطيع مساعدة نفسه ناهيك عن مساعدة زملائه.

مورينيو إذن هو السبب؟ ربما، لكن لماذا قبِل بوجبا بالعمل معه من البداية؟ هل كان يظن أن جوزيه سيمنحه الحرية والمساحات في الملعب؟ أو يتحرج مثلًا من انتقاده علانية إذا أراد؟ أو ربما لا يفرض عليه أدوارًا دفاعية لأن مانشستر تكبد 90 مليون يورو في شرائه؟ مورينيو هو مورينيو، أصغر مشجع يعرف تقاليده، وقد رضي بول بالعمل معه رغم كل ما فعله البرتغالي في فترته الثانية مع تشيلسي.

التذبذب في المستوى سببه هو رغبة إدارة اليونايتد في بناء فريق حول بول بوجبا، وفي سبيل ذلك أرهقوا خزينة النادي برقم فلكي، وحمّلوا بول ضغوطًا من الصحافة والجماهير قبل أن يلعب حتى مباراته الأولى. والحقيقة أن بوجبا، رغم إمكانياته الكبيرة، هو الشخص الخطأ لتنفيذ تلك المهمة، وربما لو انتقل إلى الريال أو برشلونة أو فضّل حتى البقاء في يوفنتوس لاختلف وضعه تمامًا، لأن تلك الأندية لديها هيكل وقوام وتسعى للحصول على جودة لاعبين أفضل وليس بناء مشروع يسعى للمجد.

الغريب أن فكرة انتداب بول، مهما كانت الكلفة، لم ترافق التعاقد مع مورينيو، بل سبق وأن عرضت إدارة وودورد الأمر على «ديفيد مويس» خصوصًا بعد ترحيب بوجبا، لكن مويس رفض الفكرة، وتساءل: إن كان بوجبا يريد مغادرة يوفنتوس الذي يعيش أجواء مستقرة لأنه يشعر ببعض الملل، فما الذي يمنعه عن طلب الرحيل سريعًا من اليونايتد الذي يعيش فترة صعبة؟


لغز على العشب الأخضر

الفرنسي بول بوجبا بقميص يوفينتوس الإيطالي

من بين كل تلك الأمور التي تشغل رأس جمهور اليونايتد، فإن سؤالًا بعينه يبدو كلغز معقد لا يُعرف له إجابة واحدة، وهذا السؤال هو: لماذا لا يلعب بوجبا بنفس الأداء والفاعلية كما كان في اليوفي؟

تقودنا إحصائيات الموسم الماضي إلى ما أهو أعقد من ذلك، تخيّل مثلًا أن مانشستر يحقق معدل نقاط 2.12 بالمباراة عندما يبدأ بوجبا بالتشكيل الأساسي، ولكن عندما يغيب يرتفع المعدل لـ2.15. كما يستقبل الفريق 0.8 هدفًا في حضوره، لكن ينخفض المعدل لـ 0.54 في غيابه.

هناك أسباب نفسية ومزاجية استعرضناها سلفًا، لكن هل هي كافية لتبرير تلك الأرقام؟

بلا شك، لا. هناك أسباب فنية أخرى ساهمت بشكل مباشر في الأمر.

وأول تلك الأسباب هو ذلك الفارق بين مستوى البريمرليج والكالتشيو، وبين وضعية اليونايتد واليوفنتوس محليًا. حيث يتسم الدوري الإنجليزي بتنافسية أكبر، وبمردود بدني أعلى، كما يعج بعدد أكثر من أسماء المدربين الكبار واللاعبين في المستوى الأول. أما في إيطاليا، فيتسيد البيانكونيري العرش وحيدًا دون غريم أو حتى منافس بنفس القوة، تفوق حظوظه في الفوز بالدوري الجميع، وهذه رفاهية لا يملكها اليونايتد أبدًا.

هذه الظروف ساعدت موهبة بوجبا في البروز، ومنحته قبل ذلك مساحة أكبر للتطور وتجريبه في أكثر من مركز ودور، أما في البريمييرليج ومع اليونايتد فإن الوضع مختلف كليًا.

وثاني تلك الأسباب وأهمها هو التوظيف. فعندما تعاقد اليوفي مع بول، بدا أن المدرب «أنطونيو كونتي» يمنح الفرنسي الوافد اهتمامًا خاصًا، حيث كان يلعب برسم 3/5/2، وعند الدفع ببوجبا كان يرافقه الثنائي «أندريا بيرلو، وأرتورو فيدال»، حيث يقوم الإيطالي بدور الريجيستا أو صانع الألعاب المتأخر، فيما برع التشيلي في مركز box-to-box بفضل إمكانياته البدنية الكبيرة. هذه الثنائية قللت حجمًا هائلاً من الضغوط على بوجبا، وسمحت له بهامش هجومي كبير.

وحتى عند قيام كونتي بتعديل الرسم لـ 4/3/3، لم يفرض على بوجبا أدوارًا لا يستطيع تأديتها بفاعلية كبيرة، بل لعب الفرنسي في مركز يعرف في عالم التكتيك الإيطالي بـmezzala أو نصف جناح، حيث ينطلق الفرنسي من وسط الملعب باتجاه الجبهة اليسرى، ليتسلم الكرة بين الخطوط ويبدأ في توزيع تمريراته الساحرة للمهاجم أو للجناح المنطلق، ومن ثم يزيد بوجبا لحدود منطقة الجزاء لتقديم المساندة الهجومية والفوز بالكرات المشتتة.

الخلاصة أن كونتي كان يمتلك أسلوب لعب واضح، وقادر على استيعاب قدرات لاعبيه ومنحهم أفضل وضعية في الملعب.

أما مورينيو فيواجه مشكلة في الوصول لأفضل توظيف ممكن للاعبيه، إذ يلعب البرتغالي في الغالب برسم 4/2/3/1، ويتم الدفع ببوجبا في مركز الارتكاز المساند، وهو المركز الذي يتطلب منه قدرة كبيرة على التخلص من الضغوط، وقراءة الملعب سريعًا، بالإضافة إلى واجبات دفاعية مستمرة في الرقابة والتمركز واستخلاص الكرة، وحتى الآن لا يبدو أن هذا المركز هو الأفضل لبوجبا.