الوطنية أداة الاستبداد
انتماء الفرد لوطنه والقيام بالواجبات التي يفرضها عليه وجوده ضمن جماعة تقدم له حقوقاً وضمانات لحياة أفضل .. هذا هو المعنى السريع المبادرة عند ذكر كلمات: «وطن»، «وطنية»، «مواطنة». و هو ليس مرادنا هنا. الحركات الوطنية التي جاءت في إطار سعي تحرري من القوى الاستعمارية، وبذلت الدماء في سبيل تحرير الأوطان أيضاً ليست هي مقصودنا؛ وإنما المقصود هنا هو «الخطاب»[1] القائم على استنزاف هذا المصطلح «الوطن»، وتحويل «الوطنية» إلى خطاب زائف، يعبر عن أزمة هوياتية، ويؤدي دور الأيديولوجيا التبريرية للأنظمة السياسية السلطوية.
ونعني بـ«الخطاب الوطني» تحديداً تلك المشاريع والأطروحات التي قامت على استخدام مصطلح «وطن»، كغطاء للمشاريع القٌطرية، المناقضة لأي مشروع وحدوي، عابر للحدود، و بالأخص في السياق العربي، إلى أن صارت معارضة لأي تحرك يتعلق بشأن خارجي، خارج حدود «الوطن»، معتبرةً إياه انصرفاً عن «الهم الوطني» و تبديداً لمقدرات «الوطن».
وإذا كانت الكولونيالية ثم الإمبريالية هما السياق الذي دفع لبروز الأيديولوجيات والمشاريع القومية، فإن صعود التيار القومي عقب مرحلة الإستقلال، في النصف الثاني من القرن الماضي، كان هو الدافع لصعود هذه المشاريع الوطنية الانعزالية، كتيار مضاد، للنزعات القومية، ذات الطابع الأممي والوحدوي. وكان أبرز من بدأ هذا المسلك وسنّه بورقيبة في تونس الخضراء، والحسين في شرق الأردن، ثم تبعتهم وسارت على نهجم مصر السادات.
وكأي كلمة وأي مصطلح يتم تكراره إلى حد الابتذال، إلى أن يفقد معناه ويصبح ضبابياً، ليس له مدلول محدد. هذا هو ما صنعه هذا الخطاب بكلمات: الوطن، والمواطنة؛ بحيث لم تغدُ أكثر من شعارات زائفة؛ فهي في حقيقتها تغطية لمآرب أخرى: مآرب السلطة والهيمنة، التي تمارسها النخبة الحاكمة على سائر المجموع. ففي حين أن الدولة في جوهرها [2]، هي كيان بيوقراطي، يشغله مجموعة من الأشخاص المتسلطين على أرض وشعب، حيث يتخذ هذا الكيان –كغطاء له– عَلَماً، ونشيداً «وطنياً»، وعيداً «وطنياً»، وحدوداً جغرافية، يأتي الخطاب الوطني ليُكسب هذا الكيان طابعاً سحرياً متعالياً؛ بحيث يسبغ هالة سحرية على هذه «الأغطية»، فتغدو رموزاً مقدسة، فتصبح –مثلاً– رسمة الدولة، التي لا تعدو كونها سواتر ترابية، في مفازة منقطعة، تلفحها الشمس والرياح، حدوداً طبيعية راسخة منذ الخليقة. وهل يحتاج من هم في السلطة لأكثر من هذه الهالات ليغدو حكمهم وسلطتهم شأناً طبيعياً، غير قابل للمساءلة؟
وهو زائف أيضاً؛ لأنه كثيراً ما يكون التمسك بـ«الوطن» هو في حقيقته تمسك بمصالح مكتسبة. ولذا، نجد أصحاب المصالح المتحققة من النظام القائم، هم أكثر المتمسكين بـ«الوطن»، ويبدو هذا بشكل جليّ في الدول التي تحوي تناقضات إثنية (عرقية) داخلها، حيث تميل الإثنية المتمتعة بالحصة الأكبر من السلطة والامتيازات إلى مثل هذا الخطاب، ولذلك من الطبيعي أن تجد «الوطنية» في أدنى مستوياتها عند الأغلبية الشيعية في البحرين، أو الأقلية الشيعية في السعودية، أو في دولة كالأردن، حيث تتركز هذه المشاعر «الوطنية» عند المكوّن الشرق أردني، الأكثر تنفذاً في الحكم والسلطة، في حين تختفي وتنحسر هذه المشاعر الوطنية الجياشة عند اللاجئ الفلسطيني [3]. وبهذا، يمكن اعتبار هذا الخطاب بمثابة تغطية رمزية (بتعبير بورديو [4]) لحالة الاكتفاء المادي التي يعيشها البعض على حساب الآخرين. ومجمل القول: أن الخطاب الوطني –عدا عن كونه خطاباً زائفاً– هو: خطاب هيمنة (بتعبير غرامشي [5])، وكذبة سلطوية، يطلقها أو يروجها أصحاب السلطة حتى يغطوا على واقع هيمنتهم على سائر الجموع ويكسبوه صفةً شرعية.
ونأتي الآن على بيان أهم المزاعم التي يتأسس عليها هذا الخطاب الوطني، وفي طليعتها: مزاعم الهوية؛ والتي تتمثل بالحديث عن شخصية وذات جماعية (نحن)، مقابل آخر (هم)؛ حيث يُقسم العالم إلى «نحن» و«هم»، ثم يتم التحصن وراء حصن الـ«نحن»، وهو «الوطن»، وكل من لم يدخل معنا فهو من الخارج، معادِ، يسعى لهدم الحصن! وهكذا يفترض هذا المنطق الهوياتي لهذا الخطاب، ضرورة وجود آخر منافس، وإن لم يكن، يتم اختلاقه، بحيث يبدو هذا الآخر –غالباً– في صورة دول محيطة تتحيّن الفرصة للانقضاض.
وباسم هذه الذات الجماعية يسحق الأفراد، وتهدر حقوقهم وشخصيتهم ووجدانهم وسائر تفاصيل حياتهم. كل شيء يصبح من أجل الوطن، وباسم الوطن، وباسم المصلحة العُليا للوطن، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الوطن. كل ذلك من أجل أكذوبة، تصنعها السلطة والنظام السياسي القائم، للحفاظ على نفوذها، وتغطية هيمنتها وتبريرها، ثم تطلق عليها اسم: «الوطن».
أما ثاني المزاعم المؤسسة للخطاب الوطني، فهو «المزاعم المكانية». فالخطاب الوطني مسكون بهاجس أرض ما، ذات تراب «وطني» مقدس، يسكن عليها شعب ما منذ الأزل؛ حيث تختلق أوهام الوجود لهذا الشعب في هذا المكان منذ القِدَمْ، و بنفس النقاء العرقي، وما تتطلبه هذه الأوهام من قفز وقص ولصق، كما يقفز مثلاً أصحاب الخطاب الوطني المصري عن ألف وأربعمائة عام من التاريخ العربي الإسلامي، ويعودا آلاف السنين، ليقولوا بالهوية الفرعونية، وبأنهم، هم، أحفاد الفراعنة، وسلالتهم الباقية (وكذلك فعل الانعزاليون اللبنانيون مع الفينيق، والأردنيون مع الأنباط، والتونسيون مع قرطاجة، إلخ..). وعند هذا الزعم تحديداً، المتعلق بالمكان، يظهر قصور الأطروحة الوطنية بجلاء؛ إذ أنه عبر التاريخ، لا يوجد شيء اسمه: هذه الأرض، بهذه الحدود، منفصلة عمّا سواها، وتتميز بالميزات دون سواها من الأرض؛ وهي مخصصة لهذا الشعب دون غيره؛ وإنما هي شعوب تحلّ محل أخرى، أو تختلط بها، وأنظمة حكم تقوم مقام اخرى. وإنما هي ظروف سياسية تتعلق بموازين القوى وتوزيعها، في زمن معين، تسمح لجماعة معينة بالسيطرة على أرض، ليشيدوا حكمهم عليها، ثم ليقوموا بعد ذلك باختلاق سردية وصنع خطاب لتبرير وجودهم في السلطة و حكمهم لهذه الأرض، و هذه السردية وهذا الخطاب هو «الوطن» و«الوطنية».
وأما ثالث المزاعم، فهو الزمانية؛ حيث يعمد الخطاب الوطني إلى اختلاق تاريخ مقدس للوطن بحيث يتم انتقاء الأحداث التي تنسجم والرواية المثالية المزعومة عن تاريخ هذه الدولة القائمة بحدودها الحالية، واستبعاد وإنكار أي حدث أو واقعة قد تحدث خدشاً لهذه البلورة الناصعة؛ بحيث تبدو وكأنها قد كانت دائماً الجزيرة السعيدة في المحيط المظلم. وفي اختصار التاريخ في هذه السردية المختلقة غايات عدة، أهمها: بيان علو مكانة القوم ورفعة شأنهم في الزمان الماضي، بحيث يبدو الحاضر كحالة من الاستمرار لحالة متجاوزة للزمان ضاربة في الماضي البعيد. ويتم بعد ذلك استخدام المناهج الدراسية كوسيلة لبث هذه الرواية، تحت مسمى «بث الوعي الوطني»، وتحت مادة «التربية الوطنية»، التي تخلق الشعور الوطني عند الأفراد. وللمفارقة، تجد أصحاب هذا الخطاب يتندرون من القوميين في بثهم لـ «الوعي القومي»، معتبرينه ضربا من «الشمولية» في الحكم، التي تصل حتى التدخل في تشكيل وعي الأفراد، ثم تجدهم، بعد تندرهم هذا، يذهبون لممارسة نفس ما سخروا منه.
هذه أبرز المزاعم، وهي قائمة على مماهاة مستبطنة بين الوطن (بحدوده السياسية القائمة) والنظام الحاكم في اللحظة الراهنة. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تجد كثيراً من أنظمة الاستبداد العربية قد ارتبطت بأحزاب حملت اسم «الوطني». والعجيب أنك تجد من الوطنيين، وبعد الانتهاء من إرساء سرديتهم، من يذهب للتفريق بين «الوطن» والنظام الحاكم، ويصورون نضالهم بأنه إصلاح لمؤسسات الوطن وتخليصها من الفساد الذي ألحقه بها رجال النظام الأشرار، أو للدقة: بعضهم. وغفلوا –مثلاً – أن الدولة نفسها (أو الوطن على حد تعبيرهم) خاضعة وتابعة لقرارات وبرامج تُملى عليها من الخارج، فلا بد لهؤلاء من التوجه إذاً إلى مقاومة تلك المؤسسات والجهات الخارجية، إن صدقوا في غيرتهم على «الأوطان».
وكأي صاحب دعوى، تجد الوطنيين سريعي الجزع والنفور عند التعرض لأوطانهم بما لم يعتادوا سماعه. وهذا ما يستدعي منا الإشارة إلى تحليل سيكولوجي موجز؛ فمثل هذا الخطاب يقوم على حاجة الفرد للانتماء إلى قطيع أكبر يوفر له الملاذ و الحماية، وعلى الرغبة في توحيد الذات الفردية بالذات الجماعية بحيث يصبح «الوطن» هو «أنا»، وربما في كثير من الأحيان، «أنا» هو «الوطن» والآخرون هم أعداء الوطن، ويقوم على التوق إلى التعالي وتجاوز حدود الزمان والمكان من خلال الارتباط والتماهي بكيان أسمى: «الوطن».
جملة القول: أن تكريس مفاهيم الوطنية والمواطنة، تصب قصداً أو عن غير قصد في سبيل هدر حقوق الإنسان العادي، وفي سبيل تطبيع وشرعنة الأنظمة السلطوية القائمة وإكسابها طابعاً متعالياً، غير قابل للحساب و المساءلة.
[1] سنتعامل هنا مع «الوطنية» باعتبارها خطاباً؛ حيث نعتبرها كذلك باعتبار أنها طريقة لبناء المعاني، التي تؤثر في أفعالنا ومفهومنا عن أنفسنا وعن العالم من حولنا؛ فـ«الوطنية» لا تشكل أفقا لخطاب سياسي وحسب، بل إنها تتعلق بحياتنا اليومية وطريقة إدراكنا للواقع المحيط بنا وأسلوب تفسيره.[2] يمكن تخصيص هذا الوصف بالدول المستبدة، وإن كان البعض يرى الدول «الديموقراطية» لا تختلف عن ذلك، كما يرى رايت ميلز في نظريته عن حكم المجمع الصناعي العسكري لأمريكا الديموقراطية.[3] الذي يحظى بمواطنة من درجة ثانية؛ حيث يمنع الفلسطيني من دخول المؤسسات الأمنية والعسكرية، وحيث تكرس قوانين انتخابية تمنعه من تحقيق مشاركة حقيقية في الحياة السياسية. وتأكيداً على نفس الفكرة، يمكن استثناء بعض الفلسطينيين المتصالحين مع الخطاب الوطني، من المترفين، المتحققة مصالحهم.[4] أو «ثقافية»، بالاصطلاح الأنثروبولوجي، المقابل لما هو «طبيعي».[5] هو خطاب هيمنة؛ لأنه يميل إلى تطبيع نفسه، وإخفاء آثار البناء والتركيب كلها، وجعل مزاعمه وقيمه تبدو بديهية ومنطقية ومعقولة. وهذا هو جوهر الهيمنة (بحسب غرامشي)، وليس مجرد الاستغلال والاضطهاد.