باتريس لومومبا: نهاية ثائر
ما بعد الخطاب
مع انتهاء خطابه الشهير- وكما نشاهد في السينما- كان لا بد أن ينزل الثائر عن المسرح ليحمله الناس على أعناقهم ويهتفوا باسمه وقد بُهت الذين ظلموا بلاده واستعبدوها، ثم تنتقل الكاميرا في شكل لقطات سريعة ترصد تغيرات عديدة وعظيمة قد أحدثتها ثورته ونضاله على الاقتصاد والحالة الاجتماعية والعلمية والعملية في بلاده، ثم تنزل كلمة «النهاية»، مُلهِمة لما بعدها.
لكن ما حدث أن الواقع لا يجاري السينما في بعض الأحيان، بل في أغلب الأحيان. الكاميرا تركت الثائر محمولاً على الأعناق وتوجّهت صوب ملك بلجيكا ورئيس وزرائه، اللذين كانا يتهامسان، وقد أدرك الملك البلجيكي أنه أمام خصم صعب ولا بد من التحرك سريعًا للتخلص منه، ولا بد أيضًا من شريك قوي وذي خبرة كبيرة في مثل تلك «العمليات القذرة»، وأي عملية تلك! فهي إجهاض حلم أمة بأكملها.
لن يكون أمامهم إلا وكالة الاستخبارات الأمريكية، وعلى رأسها «آلان دالاس»، الذي قال عن «باتريس لومومبا» إنه أخطر من كاسترو نفسه، ويجب التخلص منه سريعًا. ويبدأ الإعداد لقتل لومومبا، حيث تم وضع كثير من السيناريوهات لتلك العملية، حتى أن الرئيس الأمريكي الأسبق «دوايت أيزنهاور» اقترح وضع السم في معجون الأسنان، أو القتل على الطريقة الأفريقية (الرمي حيًا للتماسيح).
لكن يبدو أن الاستخبارات الأمريكية والبلجيكية والبريطانية قد أدركت أنه لا بد من جعل لومومبا عبرة لكل من أراد أن يحلم، فلو تم اغتياله سيتحول إلى أسطورة، وقد تنفلت الأمور أكثر من أيديهم، فكان لا بد أن يموت بأبشع طريقة، الموت على يد منْ حلمت لهم بمستقبل أفضل، شعبك!
بدأت الدول الثلاث بسكب البنزين على نار العصبية القبلية الموجودة في الكونغو، وذلك عن طريق عملائها، وعلى رأسهم الرئيس «جوزيف كازافوبو» وزعيم إقليم كاتنغا «مويس كبنغا تشومبي». فازدادت أعمال الشغب وتَمرَّد الجيش، وانهار الاقتصاد الكونغولي، وما زاد الطين بلة إعلان تشومبي انفصال إقليم كاتنغا الغني، ثم لحقه إقليم كاساي ليعلن الاتحاد مع كاتنغا، كل ذلك بتحريض بلجيكي.
الثائر يستغيث
طلب لومومبا المساعدة من الأمم المتحدة وعلى رأسها الأمين العام «داغ همرشولد»، وبعد إصرار شديد وتعنت، وافق همرشولد على إرسال 200 ألف جندي إلى الكونغو، لكن المساعدة كانت ظاهرية، إلى أن ظهرت الأهداف الحقيقية لحفظ السلام، وهي إضعاف موقف لومومبا أكثر وأكثر.
لم يبقَ أمام لومومبا إلا الاتحاد السوفييتي، وعلى الرغم من اختلاف الأيديولوجية، فإن الاتحاد السوفييتي استغل القضية الكونغولية كدعاية له، لكن سرعان ما تخلّى «خروتشوف» عن لومومبا لأنه لم يكن شيوعيًا، إلا أن الخبراء السوفييت قد أرجعوا ذلك التراجع إلى أن القدرة السوفييتية في أفريقيا كانت ضعيفة من الناحية المعلوماتية واللوجستية، فأفريقيا مجاهل شاسعة بالنسبة للسوفييت.
ولأن المصائب لا تأتي فُرادى، فقد رفضت الدول الأفريقية المحيطة بالكونغو المساعدة، وعلى رأسها السودان بقيادة الرئيس الأسبق «إبراهيم عبود»، الذي رفص التدخل إلا تحت مظلة الأمم المتحدة، التي كانت بالأساس ضد لومومبا.
بداية النهاية
في خطوة غريبة غير دستورية وغير قانونية، قام الرئيس كازافوبو بعد ثلاثة أسابيع فقط بإعفاء لومومبا من منصبه، وأقال الحكومة، رغم أن منصب رئيس الجمهورية هو شرفي بالأساس، ورغم أن مجلس الشيوخ صوّت بأغلبية كبيرة ضد القرار.
وسرعان ما تم تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة «جوزيف إليو»، الموالي لبلجيكا. وقد ساندت الولايات المتحدة كازافوبو في قراره غير القانوني في جلسة الأمم المتحدة المنعقدة لمناقشة قضية الكونغو، وهذا ما أشعل الأوضاع أكثر وأكثر في الكونغو، وتجمهرت الجماهير حول السفارتين الأمريكية والبريطانية رافضين لهذا التدخل السافر في شئون بلادهم.
وسط كل هذه المصائب المجتمعة جاءت الطعنة الأصعب على لومومبا من رئيس أركان الجيش الكونغولي «موبوتو سيسكو»، الذي انقلب ضده، واتهمه أمام كاميرات التلفزيون بأنه متعاطف بل مؤيد للشيوعية، وقد كان للومومبا الفضل الأول على سيسكو، حيث كان في السابق المساعد الإعلامي للشئون الصحفية في مكتب لومومبا، وهو منْ أرسله إلى بلجيكا في بعثة للتدريب الإعلامي والصحفي، إلا أن سيسكو كان شخصًا طموحًا إلى أقصى حد، ورأت فيه المخابرات البلجيكية رجلها المنشود في الكونغو، ورأى هو فيها طريقه المُمهَّد للوصول إلى السلطة، فعاد إلى الكونغو ليدرس العلوم العسكرية في كاتنغا، ثم يتخرج ليُعيَّن بالرغم من صغر سنه رئيسًا لأركان الجيش الكونغولي.
هنا أدرك لومومبا أنه أصبح وحيدًا، وأن نهايته باتت وشيكة، إلا أنه تمسّك ببقايا الأمل، فاضطر إلى اللجوء إلى معقل أنصاره في شمال البلاد قرب الغابة الممطرة، إلا أن محاولته للهرب باءت بالفشل وقُبض عليه مع اثنين من أهم رفاقه، هما: نائب رئيس مجلس الشيوخ «جوزيف أوكيتو»، ووزير الإعلام «موريس موبولو»ـ وتم نقلهم بالطائرة إلى إقليم كاتنغا في 16 يناير/كانون الثاني عام 1961.
نتيجةً لذلك، خرجت الجموع في العاصمة الكونغولية رافضة لما حدث، لكنهم اصطدموا بـ «سيسكو»، الذي فتح عليهم الرصاص الحي بلا رحمة، وتحت مرأى ومسمع من القوات الدولية، فمات العشرات وجُرح المئات وجرت عمليات تعذيب واختفاء بلا أدنى احترام لكرامة الإنسان.
عائلة الزعيم
عندما أدرك لومومبا أن الأمور قد خرجت عن السيطرة خاف على عائلته، وقرر إخراجهم من الكونغو، ففكر بادئ الأمر في إرسالهم للزعيم الغيني «أحمد سيكوتوري»، إلا أن الأخير رفض ذلك مُعلِّلاً بأنه ليس أفضل حالاً على الصعيد السياسي من لومومبا، وأن الأمور لم تستقر بعد في غينيا، وقد يلقى مصير لومومبا في أي وقت، لذا لم يكن أمامه إلا الزعيم المصري «جمال عبد الناصر»، ولكن كيف يتم الخروج؟
بعد حصار قوات موبوتو لمنزل لومومبا، قام «عبد العزيز إسحاق»، صديق لومومبا وعضو الرابطة الأفريقية، بوضع خطة مجنونة لتهريب أبناء لومومبا إلى مصر بمساعدة الضابط المصري «سعد الدين الشاذلي»، الذي كان قائدًا للقوات المصرية العاملة المشاركة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. كانت الساعة حوالي السابعة مساءً، وفي غفلة من هذه القوات تم تهريب أبناء لومومبا جميعًا في السيارة الجيب، وتوجهوا إلى أحد المباني التي كانت تابعة لمصر في الكونغو وقضوا الليلة هناك.
لم تلتفت قوات سيسكو التي كانت تحاصر البيت لعدة أيام إلى أن أولاد لومومبا قد هربوا، رغم أنهم لاحظوا أنهم لم يخرجوا إلى حديقة البيت كالعادة، إلا أن الجنود ظنوا بأن الأطفال يلتزمون البيت خوفًا على حياتهم، مطمئنين أنه طالما الأب موجود فالأولاد موجودون، كان مع عبد العزيز إسحاق جواز سفر مُزور على أنه متزوج من أفريقية، وكان مُثبَتًا في جواز السفر أن أبناء لومومبا هم أولاد عبد العزيز، وأطلق عليهم أسماء عربية، كما أن صور أبناء لومومبا في الجواز كانت مهزوزة قليلاً، وكان ذلك مقصودًا حتى لا تتضح معالم وجوههم بالضبط.
أمر إسحاق أبناء لومومبا أن يُمثِّلوا بأنهم نائمون حتى إقلاع الطائرة، وتوجهت السيارة إلى المطار، ولكن استوقفهم ضابط تابع لقوات موبوتو، والذي لم يقتنع عندما نظر إلى جوازات السفر أن هؤلاء هم أبناء عبد العزيز، وأصرّ أن يراهم بنفسه، فاحتج إسحاق وتحجّج بأنهم نائمون، كما أن القوات المصرية بقيادة الشاذلي تجمعت حول قوات موبوتو فأربكت الضابط، فسمح لهم بالصعود إلى الطارئة التابعة للقوات المصرية، وطارت الطائرة من الكونغو إلى الجزائر ثم برشلونة ثم إلى سويسرا وأخيرًا إلى القاهرة.
ثم لحقت بهم الأم بعد مقتل زوجها ليعيشوا جميعًا في القاهرة تحت رعاية الرئيس جمال عبد الناصر، وهو منْ عاملهم كأب ثانٍ، وكأنهم جزء من عائلته، وذلك بحسب وصف «رولان لومومبا» في حديثه الى قناة RT.
النهاية
في العاشرة من مساء يوم 17 يناير 1961، تم اقتياد لومومبا ورفيقيه إلى إحدى غابات كاتنغا، حفاة لا تغطيهم إلا ملابسهم الرثة، وعلى أضواء كشّافات السيارات، تم إسناد الرجال إلى الأشجار، معصوبي العين، وبتفريغ عشرات الطلقات إلى أجسادهم تم إسكات لومومبا وحلمه إلى الأبد، ودُفِن الرفاق في مقابرهم إلى جنب الشجر، إلا أنه وفي اليوم التالي لاحظ أحد الجنود أن يد أحد القتلى مرفوعة خارج قبرها، وبعد الحفر اكتشفوا أنها يد لومومبا، تأبى إلا الحرية، فقاموا بإخراج الجثث الثلاث وتقطيعها وإذابتها في الحامض.
نفّذ هذه المهمة ضابط شرطة بلجيكي يُدعى «جيرارد سويت»، وكان الحمض في شاحنة مملوكة لشركة تعدين بلجيكية. وقد اعترف سويت بذلك في لقاء تلفزيوني أُجري معه عام 1999، وقال إنه احتفظ باثنين من أسنان لومومبا كـ «تذكار» لسنوات عدة، ثم تخلص منهما بإلقائهما في بحر الشمال.
بذلك أُسدل الستار على حلم لومومبا بكونغو أخرى، كونغو حرة حديثة تعرف قدراتها الحقيقية، ولم تمض سوى أربع سنوات حتى استطاع «موبوتو سيسكو» (عام 1965)، بمساعدة غربية، القيام بانقلاب -كان فاتحة الانقلابات في أفريقيا- والسيطرة على الكونغو لثلاثين عامًا لاحقة، عادت خلالهم الكونغو للاحتلال و لكن بشكل آخر.