يتجه الناخبون الأوروبيون في 28 دولة أوروبية ،في الفترة ما بين 23 و26 مايو/ آيار الجاري، إلى صناديق الاقتراع لاختيار 751 نائبًا في البرلمان الأوروبي، حيث يُعتبر البرلمان الأوروبي هو المؤسسة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي يتم انتخابها بطريقة مباشرة. وتتزامن تلك الانتخابات مع المرحلة الأكثر حرجًا في تاريخ أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب المد الشعبوي الحالي الذي تعيشه بلدان أوروبا منذ ما يقرب من خمس سنوات.

تشكل الانتخابات الحالية أهمية كبرى بسبب الدور المتزايد للبرلمان الأوروبي في العقد الماضي، إذ أصبح يُشرف على كل شيء يتعلق بالاتحاد الأوروبي، بدايةً من ميزانية ضخمة تُقدر بنحو 166 مليار يورو، حتى تعيين رؤساء المؤسسات الأوروبية المختلفة.

يشكل صعود اليمين المرتقب في الانتخابات الحالية تهديدًا مباشرًا للائتلافات الحزبية الداعمة للاتحاد الأوروبي، والتي تشكل أغلبية مطلقة في البرلمان الأوروبي الحالي. ومن شأن أي صعود لجبهة يمينية شعبوية موحدة في تلك الانتخابات أن يؤدي لزعزعة الهيكل السياسي القائم في البرلمان الحالي والقائم على سيطرة أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط على أغلبية المقاعد. حتى الآن ما زالت أحزاب اليمين الشعبوي مهمشة في البرلمان الأوروبي، فحتى كتلة الأمم والحرية التي تتزعمها ماري لوبان داخل البرلمان ليست ممثلة إلا بـ 39 عضوًا فقط من إجمالي 751.

لا يمكن الجزم بأن صعود اليمين على المستوى المحلي في الدول سوف يزيد عدد المقاعد التي سيحصل عليها هؤلاء في البرلمان الأوروبي، بالعكس ليس من المتوقع أن يكون لهؤلاء حضور كبير، خاصةً مع الأزمات التي تعانيها أحزاب اليمين الشعبوي في وسط أوروبا، فالائتلاف الحاكم في النمسا تعرض لفضيحة فساد كبيرة قبل الانتخابات، وفيكتور أوربان في المجر لم يعد المثال الجيد للشعبويين بسبب نزعته الدكتاتورية المتزايدة، لكن ثمة خطورة من الجنوب الأوروبي، إيطاليا تحديدًا، والتي حققت فيها حركة الخمس نجوم والرابطة الشمالية بقيادة اليميني ماتيو سالفيني نتائج مُرضية.


كيف ولماذا صعد اليمين الشعبوي؟

يمكن القول إن صعود اليمين الشعبوي خاصة في أوروبا كان أحد عواقب الأزمة الاقتصادية في 2008. حرر هذا الكساد الكبير الكثيرين من أوهامهم حول السياسات النيوليبرالية ومدى قدرتها على توفير معدلات نمو اقتصادي تنعكس على الأغلبية، لكن المؤسسة السياسية الحاكمة لم ترقَ لطموحات مواطنيها ولم تقدم الإصلاحات اللازمة لعلاج آثار الأزمة الاقتصادية. كان الحل الذي طرحته النخب السياسية التقليدية في العالم هو المزيد من التقشف في الموازنة العامة، والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي صعود اليمين الشعبوي.

في تلك الأثناء -بعد الأزمة الاقتصادية- كانت عجلة اليمين العالمي تكتسب المزيد من الزخم معتمدةً على هذا الوقود الجبار من سخط الطبقات الوسطى والدنيا عن وضعها الذي أنتجته الأزمة الاقتصادية في 2008، وعلى إجراءات التقشف التي تحمل عبئها الأكبر الطبقات الوسطي والدنيا في الدول الأوروبية.

تجلى هذا المد الشعبوي في البريكست الذي ما زال اتفاقه النهائي موضع خلاف بين البريطانيين وبقية الأوروبيين، وصعود أحزاب يمينة مثل الحرية في النمسا، البديل من أجل ألمانيا، حزب الاستقلال البريطاني، الجبهة الوطنية في فرنسا وغيرهم من الأحزاب اليمينية الشعبوية في بقية الاتحاد الأوروبي.

على الرغم من تباين تلك الأحزاب اليمينية من حيث هياكل بنائها السياسي لكنها تشترك في عدد من السمات العامة التي أتاحت لخطاباتها الشعبوية التشكل والنمو واكتساب الأرضية السياسية مع الوقت. تشمل تلك السمات العامة المقاربة النيوليبرلية الاقتصادية، العداء الشديد للديمقراطية الاجتماعية المستندة على الإرث اليساري لدول الرفاه الاجتماعي، العداء للمؤسسية والاندماج في المؤسسات العابرة للقومية،على رأس تلك المؤسسات بالطبع الاتحاد الأوروبي الذي ينظر له على أنه «مجرد بيروقراطيي بروكسل غير المنتخبين».

تتشارك تلك الأحزاب أيضًا في خطابها الإقصائي الذي يدعم سردية «نحن» ضد «الآخرين»، والذي يتضح جليًا في خطاباتهم السياسية المعادية للمهاجرين تحت ذريعة أن هؤلاء يشكلون تهديدًا لهوية الدول المستقبلة لهم، ويستفيدون من برامج الرعاية الاجتماعية التي يمولها دافعو الضرائب في تلك الدول، بينما يرفعون معدلات البطالة والجريمة ويشكلون خطرًا على النسيج الاجتماعي لتلك الدول. خلافًا لذلك في الغالب لا تكترث تلك الأحزاب بالقضايا البيئية.


الجديد الذي لم يولد بعد

الاقتصادي الفرنسي «توماس بيكيتي»

يبدو أن هناك خطابًا مختلفًا قد أُنتج بالأساس كرد فعل على تزايد النزعة اليمينية. يتضح هذا في صعود جيرمي كوربن لرئاسة حزب العمال في بريطانيا في 2015، واليساري الراديكالي الفرنسي ميلانشون الذي كان مرشحًا رئيسيًّا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وتسيبارس في اليونان والعديد من الأحزاب اليسارية مثل سيريزا الصاعدة في أوروبا، وبوديمس تحت قيادة بابلو أجلاسيس.

ليس فقط هذا الصعود اليساري على المستوى القومي هو ما ينتج الخطاب الجديد والأمل بأن تخرج أوروبا من محنتها الشعبوية الحالية، لكن أيضًا وجود عدد من الحركات الاجتماعية العابرة للقوميات في أوروبا لتقاوم صعود اليمين الشعبوي. تطمح هذه الحركات الديمقراطية واليسارية الأوروبية -على رأسها الربيع الأوروبي والديمقراطية في أوروبا 2025 الذي يعرف اختصارًا بـ DIEM 25- إلى الحصول على مقاعد في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الحالية، حيث أصبحت تلك الحركات مع الوقت تطرح خطابات جديدة حول الإصلاح الاقتصادي والسياسي للاتحاد الأوربي.

تأسست تلك الحركات بفعل مبادرات فردية من أكاديميين يساريين أو على الأقل ينتمون للطيف الواسع لليسار الأوروبي، مثل يانيس فاروفاكيس وتوماس بيكيتي وسيركو هوفرات. تطرح تلك الحركات خطابًا إصلاحيًّا جذريًّا للاتحاد الأوروبي قائم على محورين أساسيين، المحور الأول هو معالجة الاختلالات التي أنتجتها العولمة الاقتصادية، وعلى رأسها اللامساواة الاقتصادية داخل الدول، والمحور الثاني يتعلق بدمقرطة العملية السياسية للاتحاد الأوروبي نفسه عن طريق توسيع صلاحيات مؤسساته المنتخبة.

ترى تلك الحركات أن صعود اليمين كرد فعل ليس على العولمة نفسها، لكن على تفاقم اللامساواة الاقتصادية التي أنتجتها العولمة، يرى الاثنان أن العولمة وما نتج عنها من مؤسسية عابرة لفكرة سيادة الدولة القومية ليست شيئًا سيئًا بالمجمل، لكن يمكن احتواء آثارها السلبية عبر حزمة من الإجراءات العلاجية التي تنفذ على مستوى عالمي كما على مستويات محلية في الدول الأوروبية على المستوى الخاص.

يرتكز الخطاب السياسي لتلك الحركات على المكون الاقتصادي للعولمة، فطبيعة الحركة وقيادتها السياسية أمثال فاروفكيس وبيكيتي لهم كثير من الكتابات حول إصلاح الرأسمالية. توماس بيكيتي على سبيل المثال هو اقتصادي فرنسي مرموق، صدر له في 2013 كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، كان الكتاب الأكثر مبيعًا في الاقتصاد في ذلك العام، ويُعد كتاب بيكيتي وهو العمل المحوري في عمله كاقتصادي محاولةً جرئية لتأثير تفاوتات توزيع الثروة والدخل في بلدان المركز الصناعي المتقدمة، بالأخص أوروبا وأمريكا. يعزو بيكيتي أزمة الرأسمالية الحقيقية الآن إلى سوء توزيع الدخل، وبالتالي يطمح من خلال رؤيته الإصلاحية للاتحاد الأوروبي إلى معالجة تلك المشكلة أولًا.

فاروفكيس على النقيض، ولكن ليس تمامًا، فالرجل الذي بدأ أكاديميًّا اقتصاديًّا، يصفه البعض بالماركسي الضال، ما لبث أن تحول للسياسة حيث كان وزيرًا للمالية في حكومة سيريزا وأدار التفاوض مع الاتحاد الأوروبي أثناء أزمة الديون السيادية اليونانية قبل أن يستقيل كأحد تبعات الاتفاق الذي وقعته سيريزا مع الاتحاد الأوروبي لجدولة الديون، والتي كان فاروفكيس يرى أن إسقاطها لم يكن بالأمر المستحيل، وأن إذلال ألمانيا لليونان في تلك المفاوضات لم يكن محتملًا، وأن الجميع لم يكن يدري عواقب تفاقم مثل تلك الديون السيادية على القارة الأوروبية بأكملها.


كيف يمكن لليسار إصلاح الاتحاد الأوروبي

توماس بيكيتي

في مقاله الذي نشرته الجارديان البريطانية في سبتمبر/ أيلول الماضي يرى فاروفكيس أنه يمكن تعريف الحقبة التي نعيش فيها بأنها حقبة «وحدة اليمين العالمي» وتشتت قوى اليسار والتقدميين في العالم، بمعنى آخر «أممية اليمين» أصبحت فكرة متحققة بينما يقاوم التقدميون بشكل منفصل عن بعضهم البعض تلك الأممية اليمينية.

بحسب فاروفكيس فإن المشكلة هي الحل الحالي الذي تعتقد المؤسسة السياسية التقليدية، والتي يصفها بأنها «مؤسسات العولمة السياسية»، الحل الذي يقتضي التحالف المرحلي بين التقدميين اليساريين في أوروبا والعالم وبين تلك المؤسسات التي ترى أن تحالفها مع اليسار قد يكسبها وجاهة أيديولوجية، أو بالأصح محاولة دمجها لليسار داخل المؤسسة السياسية الحالية، والتي تستمد أيديولوجيتها بالأساس من الديمقراطية الليبرالية.

يرى فاروفكيس أن هذا الحل لم يعد مجديًا؛ لأن توني بلير مثل هيلاري كلينتون مثل المؤسسة الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا مرتبطة أشد الارتباط بمصالحها مع الرأسمالية المالية ونتاج مباشر لأيديولوجيتها السياسية. لعقود ظل هؤلاء أنصار للفكرة الشعبوية القائلة بحرية السوق، تلك الأكذوبة التي يزداد بريقها كلما اتجه المجتمع نحو المزيد من التسليع، وسوف يستمر هؤلاء بالإيمان بأبدية قوة السوق الحرة وقدرتها على تقديم الرفاهة لجماهير المستلهكين إلى ما لا نهاية.

يبدو فاروفكيس أكثر راديكالية في نقده للمؤسسة السياسية والاقتصادية الرسمية من بيكيتي الذي يرى أنه يمكن إصلاح الوضع الحالي. يرتكز المشروع السياسي الذي طرحه بيكيتي على فرضية أنه ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يعمل على تقليل التفاوت في الدخول والثروات في دول الاتحاد الأوروبي وليس بينها، وبالتالي يدعم البرنامج إنشاء كيانات سياسية فوق قومية تتخطى في صلاحياتها الحكومات المحلية في أوروبا ويعهد إليها تنظيم معظم الشئون التي تضطلع الدولة الآن بتنظيمها، لكن توسيع الصلاحيات بحسب بيكيتي يقتضي أن يكون مسئولو بروكسل منتخبين، وبالتالي توسيع مدى الانتخابات الأوروبية لما هو أكثر من اختيار ممثلين للدول في الاتحاد الأوروبي.

يريد بيكيتي أن ينتخب مواطنو الاتحاد الأوروبي ما يسميه «الجمعية الأوروبية» وهي عبارة عن تجمع سياسي يمثل كل دول الاتحاد على غرار البرلمان الأوروبي الحالي، لكن بصلاحيات أكبر منها، كإقرار ميزانية واحدة لكل الدول. أيضًا يدافع بيكيتي بالتبعية عن بنك مركزي أوروبي قوي وسياسات مالية ونقدية واحدة، والتي يرى أن غيابها كان السبب الأساسي في أزمة الديون السيادية في اليونان ودول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا.

يمكن القول إن طرح بيكيتي يتمثل في فدرالية أوروبية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، يكون لكل ولاية (دولة) فيها الحق في جباية الضرائب والتمثيل السياسي، لكن التشريع والسياسات المالية على مستوى القارة تهتم بها الجمعية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي الجديد.

يرى بيكيتي أنه ما زال هناك إمكانية لإصلاح الوضع القائم عبر ميزانية أوروبية جديدة تزيد الإنفاق على قطاعات كانت ركنًا أساسيًّا من أركان دولة الرفاه. تلك الميزانية الطموحة طرحها بيكيتي للنقاش العام عبر الإنترنت وساهم في وضعها عدد من الأكاديميين والاقتصاديين، تطرح تغييرات جذرية في النظم الضريبية الأوروبية. على سبيل المثال تطرح الميزانية فكرة أنه يمكن تمويل تلك النفقات عبر أربعة أنواع من الضرائب يفرضها الاتحاد الأوروبي، وهي ضريبة أرباح الشركات الكبرى، ضريبة الدخل لمن يتخطى دخلهم السنوي 200 ألف يورو، وضريبة ثروة على الثروات التي تتجاوز مليون يورو، وضريبة على انبعاثات الكربون بحد أدنى 30 يورو لكل طن من الكربون، يريد بيكيتي لتلك الضرائب أن تستبدل تدريجيًّا بالضرائب على المرتبات والضرائب على الاستهلاك، التي يراها سببًا رئيسًا في تفاقم معدلات اللامساواة في أوروبا.

لا يمكن الجزم بأن القدرات التنظيمية لتلك الحركات قد تنمو مع الوقت حتى 2025، التي يضعها هؤلاء كسنة يمكن خلالها الانتهاء من رؤيتهم الإصلاحية للوضع المتأزم في أوروبا، لكن الخطابات السياسية لمثل تلك الحركات جديرة بالاهتمام، خاصة في ظل الضعف العام الذي أصاب المؤسسات السياسية التقليدية في أوروبا، ويبدو أن علينا جميعًا الانتظار لكي نرى ونتعلم كيف يمكن لمثل تلك الحركات أن تحدث إجراءات إصلاحية عميقة في اتحاد أوروبي مأزوم، وإلا أصبح علينا جميعًا أن نواجه عواقب صعود اليمين الشعبوي في أوروبا والعالم.