المُربي بين المطرقة والسندان
من خلال حديثي مع الصديقات وتجوالي بين المنشورات ألاحظ دائما الأمهات التعيسات اللائمات لأنفسهن وإحساسهن بالتقصير الدائم في تربية أبنائهن، فصرخة في وجههم صباحا قد تفقدها توازنها طوال اليوم وتجعلها في مهب الريح.. تارة تبتسم وكثيرا تصرخ وتتأفف، تارة تشد العزم على ألا تعود لتلك الممارسات التي تعي جيدا أنها تؤثر بالسلب في علاقتها مع طفلها، وتارة تجد نفسها شخصا آخر غير الذي تحدثت إليه مساء وبكت، ويستمر الشد والجذب بين النفس اللوامة والنفس المطمئنة.
وبغض النظر عن أساليب التربية الإيجابية التي تعييها أمهات كثر، والتي ترفض بشدة الصراخ في وجه الطفل، فإننا بشر نصيب ونخطئ، ولا يتركنا الإجهاد إلا أشباه بشر لا نريد التعامل مع أي كائن كان، فما بالكم بطفل ملول لا يريد في الحياة سوى اصطحابك في كل لحظات حياتك حتى أشدها قسوة ومرارة ! تلك اللحظات التي تعانين فيها من كل شيء جسديا ونفسيا حتى تجعلك تكسرين كل القواعد التي وضعتها على طريق حياتك لتتركك وحيدة، تعيسة، شاردة الذهن.
في رأيي لا توجد حالة واحدة مثالية في التربية تحول دون وجود بعض الإخفاقات، لأنها عملية معقدة تتدخل بشكل مباشر في النفس البشرية لتشكلها من جديد وتقومها وتزيل من عليها الغبار الذي تراكم عبر السنين، أتذكر كلمات الكاتب في كتاب «أبناؤنا جواهر ولكننا حدادون» عندما شبه طريقتنا في تربية أطفالنا بالحداد الذي قرر تغيير مهنته لصائغ، مجازا، وقال نصا: «هل كان الأمر سهلا؟ اللهم لا وألف لا، هل أتقنت هذه المهنة الراقية؟ اللهم لا وألف لا، هل كان هناك عوائق؟ بالطبع، وكان أكبر عائق هو إتقاني لمهنة الحدادة التي ورثتها عن آبائي وأجدادي، وكأني حين قررت التخلي عن هذه المهنة لم ترض هي أن تتخلى عنى، وبقيت مهاراتي القديمة تتدخل في تعلمي لمهنة الصياغة ومازالت إلى اليوم، وإن شئتم أخبرتكم بما فعلته من يومين، ولكن !».
ومن أين جاءت كلمات القرآن الكريم «ولا تقل لهما أف» إلا بعد جهاد مستمر ورحلة مجهدة ليقوموا سلوكا أو يدفعوا مرضا أو يبنوا عقلا، ليحذر الأبناء عند كبرهم من أن يتحاملوا على الوالدين ويزفروا بكلمة أف، مما يجعلنا نعي طبيعة الرحلة ويجعلنا صابرين، محتسبين، متوكلين عليه سبحانه، فالتربية عملية مستمرة لا ثابتة، تعنى بالتطور المستمر، بمعنى أنها لا تنتهي بمجرد وصول الطفل لمرحلة البلوغ كما يظن البعض، تستمر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ولا سبيل للهروب والإحباط، لا يوجد حتى مصطلح «فوات الأوان»، أتذكر قول جون جراي: «إن الوقت لما يفت بعد لكي تصبح والدا رائعا»، في كل لحظة وعي وإدراك بهذه الحقيقة تولد لحظات أخرى تنويرية تضيء الطريق.
كذلك كنت من قبل، ولكني استقررت على بعض الأمور، أهمها إدراك الموضوع من جميع جوانبه، أتذكر أن أول خطوة على طريق النجاح هي الإدراك والوعي بالذات، عجلة الوعي التي يديرها المخ والتي تركز على المشاعر السلبية فتضخمها وتعطيكِ مفهوما دائما أنك كذلك والتغيير صعب، وتنحي جانبا أي مشاعر إيجابية قد ترجح كفة النجاح، ولو قليلا، وعيك بعجلة الوعي غاية في الأهمية، يمكنك بعد الوعي بها إدارتها بحرية لتختلف الوجهة، ما عليك سوى رسمها على ورقة بيضاء وكتابة أشياء تخص علاقتك بابنك كالغضب والصراخ / قضاء الوقت معا / وقت التعلم / الحديث الحر عن أي شيء، بعد الانتهاء من كتابتها تأمليها جيدا فستجدين مخك يركز على الجانب السلبي فقط منها، وهذه المنطقة المسئولة عن تركيزك على هذا الجانب التي تسمى بـ «قرن آمون» نشطة، كل ما تحتاجينه هو إخمادها وتوجيه المخ للتركيز على الجوانب الأخرى.
تذكري أنك لست ملاكا، إنك بشر يمشي على الأرض، تواجهين صعوبات وتحديات يوميا، لا سيما الشهرية، بسبب لخبطة هرموناتك، فهوني على نفسك، في تلك الأوقات المزدحمة بالمشاعر السلبية وخفضي من توقعاتك، ستجعلك هذه الخطوة أكثر ارتياحا، وأيضا وعيك بهذه المرحلة وتحدياتها يعتبر مربط الفرس.
إعادة تقييم كل موقف يستلزم التركيز، ثم إعادة برمجة لطريقة التفكير لتقودنا إلى بر الأمان، حتى بداخل الموقف ذاته عند الصراخ يأتيك الوعي، عندها فقط تحاولين ربط جأشك وتتوقفين، وها هو الموقف مر، فلا تتركيه يؤثر على باقي الأوقات، وكما تقول الحكمة: “لا تجعل الهفوات تنتصر عليك”، الاعتذار واجب ناحية الطفل، ولكن لا تنسي أن تعتذري لنفسك أيضا، فأنتِ تستحقين.