فيلم «Parasite»: كوميديا وتراجيديا الطفيليات البشرية
يحكي المخرج الكوري «بونج جون هو» أنه أثناء دراسته الجامعية كان قد لجأ ومن أجل الحصول على المال إلى التدريس لابن أحد الأثرياء، وأنه لا يزال يتذكر حتى الآن، وهو ابن الطبقة الوسطى، ذلك الشعور الغريب والمخيف الذي تملكه لدى رؤيته لمنزل العائلة باذخة الثراء للمرة الأولى.
من هذه الخبرة الشخصية، ومن هذا الشعور تحديدًا جاءت البذرة الأولى التي أثمرت فيلمه «Parasite» الحاصل على السعفة الذهبية في «مهرجان كان السينمائي» هذا العام، ليصير بذلك بونج جون هو أول كوري جنوبي يحصد هذه الجائزة السينمائية الأكثر قيمة وبريقًا.
يحكي الفيلم الذي كتبه «بونج جون هو» رفقة جين وون هان حكاية عائلتين متماثلتين، كل منهما مكون من أربعة أفراد، أب وأم وابن وابنة. كان المقترح الأول لتسمية الفيلم هو «Decalcomania»، وهو مصطلح فني وتقني يعني إنتاج صورة ما ونقلها من سطح إلى آخر.
المثال الأكثر شيوعًا هو رسم صورة ما على نصف ورقة بيضاء مقسمة بالتماثل إلى نصفين ثم طي الورق والضغط من الخارج لتنطبع نسخة مرآوية للصورة على النصف الآخر للورقة.
العنوان المقترح كان ساخرًا، فلدينا عائلتان متماثلتان، لكن الحياة التي تعيشها كل عائلة مختلفة تمامًا عن الأخرى، المسافة الشاسعة بين صورتي عائلتين متماثلتين هي مدار فيلم بونج جون هو. لدينا عائلة «كيم كي تيك» المعدمة (أفرادها الأربعة بلا وظيفة)، تقتات من طي علب البيتزا لأحد المطاعم، وتعيش في قبو لا يطل على سطح الأرض إلا عبر نافذة وحيدة. وعائلة السيد بارك شديدة الثراء والتي تعيش في منزل فاره.
ينجح ابن العائلة الفقيرة بتزكية من أحد أصدقائه أن يجد عملًا كمعلم لابنة العائلة الثرية ثم بشيء من الحيلة والخداع تنجح العائلة الفقيرة في أن تعمل بالكامل لدى الأسرة الثرية. ما مصير العائلتين إذا اجتمعتا تحت سقف واحد؟ ما نتيجة الصدام بين قوتين على هذا القدر من الاستقطاب؟
أن تعيش كطفيلي أن تعيش كشبح
يعرف علم الأحياء الطفيل بأنه كائن حي يعيش معتمدًا على كائن حي آخر يسمى العائل. يكشف لنا بونج جون هو ومنذ بداية فيلمه المعنون «Parasite» بأن التطفل هو نمط العيش الذي تحيا به أسرة كيم كي تك، أول جملة نسمعها في الفيلم على لسان الابن: «لقد انتهى أمرنا، لا مزيد من الواي فاي المجاني»، وذلك بعد أن غيرت السيدة التي تسكن الطابق الأعلى كلمة السر. ثم نشاهد انزعاج بقية العائلة من ذلك وخاصة أن الإنترنت وسيلة تواصلهم الوحيدة مع العالم الخارجي بعد أن فصلت خدمة الاتصالات عن هواتفهم.
يبدأ الابن في البحث عن شبكة واي فاي أخرى متاحة، فيجد إشارة لشبكة جديدة داخل الحمام في مكان يفترض بهم أن يجلسوا القرفصاء من أجل الحصول على الإشارة. يجلس الابن والابنة بأريحية إلى جوار المرحاض، أعلى نقطة في القبو الذي يسكنونه، للحصول على الإشارة. هذه الطبيعية التي يتعاملون بها مع الوضع تؤكد أنهم يعيشون بهذه الطريقة منذ زمن، وأن هذا التطفل هو نمط حياتهم المعتاد.
يتعزز هذا النمط من العيش بانتقالهم إلى عائل شديد الثراء، عائلة السيد بارك، ولكن اكتشافهم لزوج الخادمة السابقة الذي يعيش كشبح في قبو تحت منزل العائلة منذ سنوات يحول الأمر إلى صراع عنيف ودموي من أجل البقاء.
بظهور ذلك الرجل/الشبح يتضح أن هناك ما هو أكثر بؤسًا من الحياة كطفيلي. تقول السيدة بارك إن طفلها أصابه الصرع لأنه رأى شبحًا في البيت، وذلك بعد أن رأى مصادفة زوج الخادمة السابقة أثناء صعوده ليلًا للحصول علي الطعام. تقول لخادمتها الجديدة إن جدها كان يقول إن وجود شبح في البيت يجلب الثروة، وإن حالتهم المادية انتعشت بالفعل أكثر بعد ظهور الشبح.
هذا الكلام يصب في النهاية في إدانة النظام الاقتصادي المختل في زمن الرأسمالية، حيث يزداد الفقراء فقرًا، والأثرياء ثراء وكأننا أمام اقتصاد كانيبالي يقتات على حياة البشر. وكأن وجود بشر يعيشون كالأشباح هو ما يزيد ثراء الأغنياء. الصورة النهائية التي يطرحها الفيلم غامضة فيما يتعلق بمن الطفيل هنا، فمن يعيش الآن على من؟ هل الطبقات المنسحقة هي من تعيش على الطبقة العليا أم العكس؟
قصة جيدة محكية جيدًا
أول إحساس سيباغتك بعد مشاهدة هذا الفيلم، أن بونج جون هو حكاء نادر، يعرف جيدًا كيف يحكي حكايته دون أن يفقدك شغفك تجاه الحكاية، أو انتباهك لأدق تفاصيل سرده.
إحدى أهم مميزات «بونج جون هو» كحكاء سينمائي، قدرته على خلق بصمته الإخراجية الخاصة رغم عمله داخل حدود سينما الأنواع (genres)، بالإضافة لقدرته الاستثنائية على المزج بين الأنواع المختلفة داخل الفيلم الواحد.
إنه ينتقل من نوع فيلمي إلى آخر دون أن يخل هذا بهارمونية الصورة النهائية لعمله. ينتقل بسلاسة غريبة بين الكوميديا والتشويق، والرعب، والجريمة. تسير الكوميديا والتراجيديا في فيلمه معًا يدًا بيد، مع رنة سخرية مرة لا تفارق فيلمه من البداية إلى النهاية.
لا شيء زائد أو مجاني في هذا النص المحكم، كل شيء في مكانه تمامًا. تفاصيل تظن في البداية أنها عابرة ولكن بتكرارها يحولها النص إلى أدوات سردية، تكشف عن طبيعة شخصياته أو تدفع السرد إلى الأمام.
نجد مثلًا السكير الذي يتبول أمام نافذة القبو الذي تسكنه العائلة الفقيرة، في المرة الأولى التي نراه فيها، لا ينهض أحد منهم لزجره أو منعه رغم تبرمهم من فعله. من يزجره هو صديق الابن الذي ينتمي لطبقة اجتماعية أعلى تمنحه سلطة ما على هذا البائس. في المرة الثانية التي نرى السكير فيها، تكون اٍلأسرة قد وجدت عملها لدى العائلة الثرية وكأنها بذلك قد اكتسيت سلطة ما، ففور ظهوره يسارع الأب والابن بإبعاده وإغراقة بالماء، بينما تقوم الابنة بتصوير ذلك في لقطة بالتصوير البطيء.
إنها هيراركية السلطة المبنية على الوضع الاجتماعي والاقتصادي التي تتكشف شيئًا فشيئًا مع تقدم السرد، فالجميع يمارس سلطة ما على من هو أدنى منه.
يستخدم النص أيضًا فكرة الرائحة كأداة سردية، إذ يكتشف ابن العائلة الثرية أن جميع أفراد العائلة الفقيرة لهم نفس الرائحة. في المشهد التالي تقول لهم الابنة: «عليكم أن تتركوا هذا القبو إذا أردتم أن تتخلصوا من هذه الرائحة». إنها رائحة الفقر إذن، رائحة طبقتهم الاجتماعية، ذات الرائحة التي تذهب بالتوتر والاستقطاب الموجود بين الطرفين إلى ذروته الدامية والمأساوية.
أهم ما يميز نص هذا الفيلم أيضًا هو تجاوزه للتنميط و«الكليشية» المتعلق بصورة الفقراء والأغنياء في الأفلام التي تتصدى لموضوع الصراع الطبقي. يزرع النص داخلنا مشاعر متناقضة تجاه الطرفين، فالفقراء يلجؤون إلى الخداع والاحتيال والعنف من أجل البقاء إذا لزم الأمر.
والأغنياء لطفاء وساذجون، لكن هناك عدوانية دفينة تجاة الطبقات الأقل تظهر في بعض الأحيان مثلما يعبر السيد بارك: «لا أطيق الناس الذين يتعدون حدودهم»، في حديثه عن سائقه السابق أو تأففه من رائحة سائقه الحالي. السياق المعقد والوضع المتفاقم اقتصاديًا واجتماعيًا يضع الأطراف كلها في مواجهة نفس الكابوس.
وظيفة المكان
المكان هنا في فيلم «Parasite» ليس مجرد إطار أو خلفية للأحداث، بل يشارك في صنع الدراما وخلق معنى الفيلم. تدور أغلب أحداث الفيلم في قبو العائلة الفقيرة ومسكن العائلة الثرية.
ترى نظريات علم الاجتماع الحديثة المكان ككيان حي، جزءًا نابضًا من الجسد الاجتماعي الذي أنتجه صراع الطبقات. يعكس مسكن كلتا العائلتين إذًا الهوة الشاسعة بين طبقتيهما، هذا الاختلال المخيف في مساحة المكان وتوزيع الضوء (وهو معطى طبيعي للجميع). يتخيل ابن العائلة الفقيرة أنه امتلك منزل العائلة الثرية، وأنه حين يحدث ذلك سيكون في الحديقة لأن ضوء الشمس هناك رائع. هذا التعلق بالضوء بديهي لمن يسكن في قبو، يتسلل إليه ضوء الشمس عبر نافذة وحيدة.
يظهر انعكاس الهوة الشاسعة بين الطبقتين علي نحو جلي في مشهد هروب العائلة الفقيرة من منزل العائلة الثرية بعد عودتهم المفاجئة، في لقطات عامة تهبط العائلة سلالم عديدة في طريقها إلى قبوهم وكأن المسافة بين المكانين هي هبوط لا نهائي.
اعتمد الفيلم في التواصل أحيانًا على ما يسمى بشفرة مورس وهي وسيلة بدائية للتواصل لم تعد تستخدم في الوقت الحالي إلا في مجال الإنقاذ وإرسال الاستغاثات في حال تعطل وسائل الاتصال الحديثة، وهو ما يعزز أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يصوره الفيلم وضع خطر يحتاج إلى تدخل عاجل للإنقاذ قبل حلول الكارثة.
يبدأ الفيلم وينتهي بنفس اللقطة لقبو العائلة، مما يفيد بقاء الوضع على ما هو عليه. وإذا كانت لقطة البداية نهارية تحمل شيئًا من الأمل عبر الضوء المتسلل من النافذه، فلقطة النهاية مغمورة في الظلام.