معالم الوعي التاريخي القرآني
يقرأ اﻵلاف حول العالم تاريخهم، أو بعضه على الأقل؛ يوميًا. لكنَّها قراءة ميّتة لا حياة فيها، برغم هالة القداسة التي قد تُضفى على هذا التاريخ، وعلى شخوصه. إنها قراءة ميّتة لأنها لا تتلمس حقيقة العبرة من التجربة الإنسانية، فهي إما تُضفى على المسار التاريخي قداسة تسعى للذوبان فيها هربًا من الواقع، أو تلعن دنسه وتكرِّس القطيعة معه تاركة فجوة عميقة في الوعي والهويّة.
فجوة عميقة لا يُمكن تجسيرها بغير صدق إخلاص الوجه وتمام الصدق مع النفس، لكن ثمّت قراءة تُضرِم نيران الوعي وتشحذ الهمّة، وتحدو الفعل؛ إنها قراءة التاريخ باعتبارك جُزءًا منه ومن مساره الثري. إنها قراءة تُلزِمُكَ بالفعاليّة داخل التاريخ المتعيّن، باعتبارك مسؤولًا عن تشكيل اللحظة الحاضرة بإذن الله. إنها قراءة تُربّي بها نفسك.
وهذه القراءة ليست قراءة أرشيفيّة كما تفعل المصادر الإخباريّة القديمة والمعاصرة، بل قراءة من خلال اﻷنماط الإنسانية؛ اكتشافٌ لأنماطِ السلوك الإنساني في حالي التوحيد والشرك، وتجليات هذه الأنماط على كافّة الأصعدة: اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
وإذا كانت هذه القراءة انتقائيّة على مستوى تتبُّع تشكُّل وتطوّر أنساق فكريّة محددة وأنماط سلوكيّة مُعيّنة، فإنها قراءة غير انتقائيّة على مستوى قبول المادّة التاريخيّة التي صحَّت بها المصادر؛ قبولًا ينفي الانتماء المذهبي/الأيديولوجي، عروجًا في فضاء التوحيد.
ومن عوائق استقامة هذه القراءة، التشوّه الواضح في العقل الجمعي لصورة للأمّة؛ إذ يحصُرها البعض في المذهب-الأيديولوجيا (والمنتمين له)، ويعتبرها آخرون مُجسَّدة في صُنّاع البناء الحضاري (المادّي) الذاوي، ويتوهّم فريقٌ ثالث أنها تتجسَّد في السكان البائدين لأرضٍ مسلوبةٍ.
ذلك أن الظاهرة المذهبية (السلفيّة والأشعرية والشيعية والأزهرية والإخوانية إلخ) هي ظاهرةٌ ذات وعي انتقائي أيديولوجي، وعي يبني سرديّته الخاصّة ويرفع نسب أفكاره كيفما شاء، ويصطنع لنفسه وعيًا تاريخيًا زائفًا، وحجابًا يحول بينه وبين الوعي القرآني.
هذا الوعي الانتقائي الجزئي أو التصوّر المتوهَّم للأمّة “الممتدة” عبر التاريخ لا يختلف -بنيويًّا- عن وعي أيّة أيديولوجيّة اختزالية بذاتها؛ فهو وعي مُضلل تُشكّله التحيُّزات المذهبية كنسقٍ وضعيٍ صراعيٍ إقصائيٍ، نسق يؤصِّلُ لمساره بتأويل نصوص الوحي المؤسِسة من خلال مُعطياتٍ مذهبيّة تاريخانيةٍ مُسبقة، مُعطيات يُفتَرَض لا إراديًّا أسبقيّتها على الوحي. هذه العمليّة، التي تتم معرفيًّا بشكلٍ غير واع في الغالب الأعم؛ تؤدّي لتطوير مفهوم وتصوّر مُناقِض كُليًّا لمفهوم القرآن عن الأمة.
إذ يعرض القرآن الأمّة قصرًا من خلال مجالين: المجال الاجتماعي (البرّاني) المفتوح مُمثلًا بالإجمال في جماعات المؤمنين وحواريي الأنبياء الذين يتحركون بالدعوة عبر التاريخ وبغير تعيين، أما في مجال التصوّر (الجوّاني) والقدوة، فإنه يقتصر على الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم؛ فحسب.
وهذا الإطار القرآني لصورة الأمّة هدفه أصلًا ألا يتمزق المجال الاجتماعي (البرّاني)، بعد توقُّف الوحي؛ نتيجة التمذهُب الحتمي الناتج عن اختلاف الأفهام (تفرُّد الجوّاني). وإذا كان اختلاف المجتهدين في الفهم هدفه أصلًا التوسِعة على الأمة، وحفظ حيويّتها؛ بحفظ قُدرتها على التعاطي مع مُتغيّرات الزمان والمكان بكفاءةٍ وحركيّةٍ عاليتين في ضوء مركزٍ وحيد هو الوحي، فإن ذلك التحديد يحفظ أيضًا مجالها الاجتماعي (البرّاني) من التجزؤ والتشظّي، وبالتالي يستعصي على الخضوع للطواغيت؛ الذين ينشطون في رماد التجزئة وداخل برك الانقسام.
إن ربط صورة الأمة، وتصوّرنا لها؛ بالوحي ابتداءً، والوحي فقط؛ مع إتاحة مجال للاجتهاد، يختلف باختلاف الزمان والمكان؛ هو ما يحفظ المجال الاجتماعي (البرّاني) مُنفتحًا متوحّدًا عصيًّا على سيطرة الطواغيت؛ تكريسًا لحريّة الاعتقاد وحفظًا لاستقلال مجال الاختلاف (الجوّاني) في الفهم والتلقّي، وصيانة له من القهر والإكراه؛ باعتباره مناط التكليف ومظهر الخضوع المطلق للحاكميّة الإلهيّة وحدها دون غيرها.
إن الأولوية غير الواعية للمذهب على الوحي داخل إطار الوعي الزائف، والتي يُكرِّسها التمركُز حول المذهب/الأيديولوجيا؛ تؤدّي لعكس المراد القرآني. تؤدّي لتمزُّق الأمّة اجتماعيًّا بعد أن خرج اختلاف الأفهام من الرحابة الجوّانيّة لاختلاف الجماعة العلميّة/الأمة بسبب الزمان والمكان المعيّنين، لتكبيل الخلاف، السائغ؛ بالواقع المادّي، واستخدامه كأحد أدوات الصراع السياسي والاجتماعي في كل زمان ومكان.
أي أن المذهب يتحوّل في هذا السياق إلى “منتج” لا تاريخي؛ بل “وحي” مُقدّس أسمى من التاريخ، على المستوى النظري؛ برغم أنه تم تدنيسه عمليًّا بالتعامُل (عن غير وعي) مع الواقع المادّي باعتباره مصدر المقولات الرئيسية للمذهب. ليُنافس المذهب الوحي و يُزيحه في غالب الأحيان. وإن لم يكن المتمركز حول المذهب واعيًا بجوهر فعله، ولا بزيغ وعيه.
هذا التصوّر المذهبي/الطائفي للأمة يؤدي لتكاثُف الوعي التاريخي الزائف، ليس في داخل الدائرة الأيديولوجية النظرية فحسب؛ بل ينتهي به المآل للتكاثُف عبر الوجود الإنساني المتعيّن، والتجسُّد في سلوكياتٍ يوميّة تزيد عُزلة الفرد والجماعة، وتحول دون اضطلاعهما بأول واجبات المسلم في الدعوة إلى الله بالنفس والأهل.
وغالبًا ما يتسبب الثقل المفرط لهذا اللون من الوعي، وحيلولته دون التواصُل الإنساني والمعرفي مع جماعات إنسانية مخالفة ومختلفة؛ يتسبب في تنامي رغبة الإنسان المسلم بالتخلُّص من أثقاله المبرحة، وتبني نماذج براغماتية؛ ولو بالتفريط الكامل الذي يطوي قدرًا من التفلُّت الإلحادي في كثيرٍ من الأحيان. وهو ما يتجلّى بوضوحٍ في حالات شباب الإسلاميين المؤدلجين بعد الانقلاب العسكري في مصر، ومن قبل في مأساة الإنسان المسلم المأسور في قبضة سردياتٍ دينية رسميّة كثيفة الوجود الإعلامي والسلطوي في بلدان مثل إيران والسعودية.
سرديات تجعل حياته رهنًا بصورةٍ طهورية مثالية تُفرض عليه برانيًا طوال الوقت، ولا يُترك له المجال لاختيار قيمها وتشرُّبها جوانيًا من خلال التربية الإيمانية. هذا اللون من الوعي الزائف لا يُعطِّل فحسب الدعوة ويحول دون انسياحها، بل هو كذلك ينتكس بصيرورة التربية الجوانية إلى دركٍ بائسٍ من التلقين الأيديولوجي البرّاني الأجوف، ويُعيد كذلك تعريف وظيفة القيادة الاجتماعية للحركة الإسلامية، ليختزلها إما في رئاسة سياسية بغير أية أبعادٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ أو في عمامةٍ مُرتزِقةٍ تضطلع بمهمة التلقين الأيديولوجي والشحن الديماغوغي.
وهو لعمري انصرافٌ كُليّ عن وجهة الحركة الإسلامية، التي عيّنها المثال النبوي الحيّ؛ إلى مباءة صراعٍ حزبيٍ يتستر بديباجات دينية. (لمزيد من التفاصيل؛ راجع مقالاتنا السابقة: الحركة الإسلامية والقيادة الاجتماعية، وعن التربية في الحركات الإسلامية).
إن الوعي التاريخي الزائف هو في حقيقة الأمر “وعي مضاد” للوعي التاريخي القرآني، ولو تكاثف حضوره بديباجاتٍ دينيةٍ. وهو وعي مضاد لأنه يُقوِّض، بثقله وقيوده المصطنعة؛ القابلية الإنسانية الفطرية للاستجابة للوعي التاريخي القرآني. ويُيسر على الضحية، من ثم؛ الانخلاع كُليًا مما يُثقله، وتبني نماذج أكثر براغماتية.
وبعبارةٍ أخرى؛ فإن استمرار حضور الوعي الزائف ليس له إلا نتيجتان، مُتعارضتان ظاهرًا وإن كان مآلهما واحدا: إما زيادة العزلة وتفريغ الوظيفة الدعوية من حقيقتها وتقويضها والإبقاء على هدي ظاهرٍ يُضَلُّ به الخلق، أو تغذية الرغبة في الانخلاع كُليًا وتبنّي نماذج براغماتية انتهازية معادية للتاريخ والإنسان.
إن الوعي التاريخي القرآني ليس قراءة تثقيفية مجردة أو استيعابًا نظريًا محضًا لتفاصيل تاريخ الإسلام ومراحله من لدن أبينا آدم، عليه السلام؛ بل هو قوام عمليّة التربية وحاديها ومضمونها، ذلك أن رفضنا للمناهج النظرية المسبقة (راجع مقالنا عن التربية الذي سبقت الإشارة إليه) لا يعني إطلاق الصيرورة التربوية على عواهنها بغير وجهة، بل يعني تحري الوجهة الإلهية التي ارتضاها الله لعباده.
لقد فصّل القرآن في رسم صورةٍ جليّةٍ للأمة. لم يطرح مفهومًا ماديًّا قابلًا للتقويض، كرابطة سياسيّة أو تنظيمية أو بيولوجيّة مثلًا؛ لكنّه رسم صورة شعوريّة تليق بالإنسان كما خُلق في أحسن تقويم. صورة تليق بأمّة البلاغ من بني الإنسان. وتبدو هذه الصورة واضحة جليّة في تفصيل الوحي الإلهيّ الحديث عن معاناة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) في تبليغ رسالات ربّهم، مؤكدًا تصوّر الجماعة الإيمانيّة العابرة للزمان والمكان، والتي ينتمي لها الإنسان المسلم.
إن هذا التصوّر لا يرسُم معالم صيرورة التربية وطبيعة القيادة التي تُفرزُها هذه الصيرورة فحسب، بل يجتث أي شعورٍ بالغربة قد يُعانيه المسلم في سبيل اضطلاعه برسالته. فهو ليس غريبًا مُنبتًا، بل هو ذي انتماءٍ وثيق، ونسب عريق لشجرة أصيلة؛ شجرة الأنبياء وحوارييهم. إنه يقف جنبًا إلى جنب مع طليعة المجدّدين وعموم المصلحين وجملة المجاهدين من كل العصور.
إن القرآن يحرص على شحذ قدرة الإنسان على تجاوز الواقع المادي كلّه، وعلى استشراف عالم الغيب والانتماء له. إنه يحرص على تخفيف صلته بالطين، وعلى تفلُّته من أسر الأمر الواقع، وزيادة قدرته على بلورة رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون. إن القرآن يحرص على تكوينك كإنسان، وهو في ذلك يمنحك تصوّرًا غير قابلٍ للتقوض أو الهزيمة ما اجتهدت في التزامه. وهذا لعمري جوهر العملية التربوية التي ينبغي على الحركة الإسلامية الانتباه لها.
إن التصوّر القُرآني للوعي التاريخي الإنساني تصوّرٌ فريد، ولن تكون منحة الإله كتخبُّطات العبيد. ويجدُر بنا اﻵن التوقّف لتحرير مدلول “الوعي التاريخي”، حتى يستطيع القاريء المهموم استبطان محتواه كاملًا دون غبشٍ أو تشوّش. إن الوعي التاريخي هو ذاكرة الشعور الإنسانيّ الواعي برحلة الكبد داخل التاريخ؛ ذاكرة التُخمة والذنب المصاحبين للإخلاد إلى الأرض، وذاكرة اﻷلم والأمل المصاحبين للعروج إلى المولى.
إنه الوعي بتجارب الإخفاق والنجاح؛ ذاكرةُ الشعور وليست ذاكرة الأحداث. الوعي التاريخي باﻷمّة؛ بالأنبياء وخلفاؤهم من لدُن آدم عليه السلام. إنّهُ ما يسخر المادّيون منه، وينسبونه للرومانتيكيّة؛ ثُمّ يُعانون الاغتراب بسبب إنكارهم له! إنّهُ ما يجعلني أبكي هزيمة بواتيه (بلاط الشهداء)، برغم انتهاء الحدث الذي لم أُشارك فيه مُباشرة. إنه الوعي باﻷمّة كتجربة شعوريّة أبديّة الحيويّة.
لقد عُرّف الأدب قديمًا بأنه تجربة شعوريّة، وعرّفهُ علي عزّت بيغوفيتش بأنّهُ -في جوهره- سيرة ذاتيّة. وإذا كان الوعي باﻷمّة تجربة شعوريّة مُستمرّة، فهو في ذات الوقت -وفي جوهره- سيرة يختلط فيها الذاتيّ بالموضوعيّ، والعام بالخاص، والكُلّي بالجُزئي. إنّهُ كشفٌ لطبيعة ورصيد المعرفة والشعور المغروسين في الفطرة البشريّة، ولتجلياتهم الاجتماعية التاريخية؛ إنّهُ كشفٌ واستحضار لربّانيّة الإنسان وعُمق ميراثه الفطري. إنّهُ الكبد الجوّاني السابق على الكبد البرّاني والمنشيءُ له.
وإدراك كينونة هذا الوعي التاريخي، باعتبارُه أهم اﻷعباء الإنسانيّة/الإيمانية؛ أمرٌ لا تستطيعُ الفلسفةُ تجريدُه، بل يجبُ أن يوكل لفنانٍ مُرهف. فالفنان يتمثّل التصوّر القُرآني كلما اقترب من الفطرة. يقول نزار قبّاني في قصيدة الحُزن: لم أعرف أن الحُزن هو الإنسان/ وأن الإنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان. إنّهُ لا يتحدّثُ عن الحُزن كانفعالٍ طاريء أو كعاطفةٍ عابرة، بل يتحدّث عن ذاكرة شعور؛ عن الوعي الذي يُشكّل الإنسان. الوعي بأن الإنسان أكثر عُمقًا وقداسة، وكلما ازداد عمقًا ازداد قداسة وألمًا، باقترابه من أصله.
إنه “الحيوان الذي يرفُض أن يكون كذلك” كما يقول ألبير كامو، وما رفضه إلا سبب شقائه وكبده اﻷبديين … وحزنه الفريد. إن الذين قالوا لقارون: “لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ”؛ كانوا من هذه النوعية من البشر ذوي البصيرة النافذة. لا تفرح؛ أي لا تخرُج من التاريخ وتأمن المكر.
إنك في دار ابتلاء، “فأحسن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”. لا تغرق في طوبيا المتاع المادّي فهي ليست نهاية المطاف. إنها مما يمقُته الربّ العلي. إن إيقاف حركة التاريخ والتدافُع ليس هو السبب الذي خُلقنا لأجله.
يصف الإمام مُحمّد عبده أثر السيد جمال الدين الأفغاني فيه؛ مُعبّرًا بعمق عن معنى الوعي التاريخي وحقيقته: لقد أعطاني والدي حياة يُشاركني فيها علي ومحروس (أخويه)، أما السيّد جمال الدين؛ فقد أعطاني حياة أشارك بها مُحمّدًا وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
إن جوهر الوعي التاريخي القرآني هو تحوّل إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمد، وحوارييهم وصحابتهم وأنصارهم وتابعيهم على الجملة (وبغير تحديد ولا انتقاء)؛ تحوّلهم إلى شخصيّات حيّة تتحرّك في عالم الواقع. حركة حيّة يُمكن احتذاؤها واقتفاؤها غائيًا في كل أمر. أن يتحوّلوا لحُداة وهُداة لقافلة الإيمان الممتدة عبر التاريخ وإلى قيام الساعة، وليس محض شخصيّات تاريخيّة “ميّتة” تُقرأ قصصها على سبيل التثاقُّف وتزجية الفراغ. إن القُرآن ما ذكر هذا الرهط المبارك إلا وأردف بتأكيد ارتباط المسلم به؛ نرى ذلك مثلًا في سورة المؤمنون: “وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”، وفي سورة اﻷنبياء: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”.
وليت اﻷمر اقتصر على هذا فحسب؛ بل إن السياق في سورة المؤمنون يجعل مفهوم التحزُّب نقيضًا للمفهوم القرآني للأمّة وتقويض لها ولهويتها، فترى المولى سُبحانه يُردف مباشرة بقوله: “فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”. إنّهُ وإن كان التحزُّب لا يُخرج من الملّة كما يبدو من ظاهر الآيات؛ إلا أنه يجعل هذا التصوّر الجاهلي البغيض مُبطلًا للمفهوم القُرآني عن وحدة الأمّة واستمرارها التاريخي.
إن الوعي التاريخي، الذي يُشكِّل صيرورة التربية ومضمونها؛ هو كذلك الذي يصنع القيادة المسلمة التي تعي حقيقة مقتضيات الاستخلاف. إن الوعي التاريخي هو الذي يُشكِّل النموذج الحاكم لسلوك القيادة، ويربط بينها وبين الجماهير برباطٍ غائي مُتجاوزٍ لأعراض هذا العالم.
إنه الرابطة الربّانية التي تغمس الأمة في صيرورة التربية لتستخرج قيادتها من رحمها، بعد أن تُعيّن لها وجهتها. وهو اللحمة التي تربط بينهم بوحدة الوجهة ووحدة السبيل ووحدة الوجدان. وإذا استحال وجود القيادة بغير استقامة هذا الوعي التاريخي، واستحالت التربية بغيره، بل واستحالت الأمة المسلمة بغيره؛ فإن الأمة والقيادة مُستحيلان بغير تربية يتمثَّل فيها وجودهم الوعي القرآني.