المقاومة الفلسطينية: التطورات والمسارات المحتملة
إعداد: أ. معين الطاهر
كثيرة هي المتغيرات العسكرية والتقنية التي أثّرت في قدرات الجيش الإسرائيلي، منذ آخر حروبه مع الجيوش العربية عام 1973، واحتلاله بيروت عام 1982، والانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، وانسحابه من لبنان عام 2000، وحربه عليه عام 2006، ومن ثَمَّ حروبه على قطاع غزة أعوام 2008، و2012، و2014.
لم تعد الجيوش العربية هي مصدر التهديد الأول للكيان الصهيوني، حيث حُيّدت الجيوش منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر، والاحتلال الأمريكي للعراق، وتوقيع اتفاقية وادي عربة مع الأردن، وتوقيع اتفاق أوسلو مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وإنهاك سوريا في الحرب الضارية التي تشهدها. وبذلك لم تعد هذه الجيوش العربية تشكّل مصدر قلق للجانب الإسرائيلي، إذ اختفت جبهاتها الطويلة وتجمدت خطوط التماس معه.
جبهات المواجهة
خلال ذلك تولّدت جبهات أخرى ذات طبيعة مغايرة؛ جبهتان ترابط فيهما قوات شبه نظامية، هما: جبهة قطاع غزة، حيث كتائب القسام وسرايا القدس وفصائل المقاومة الفلسطينية، وهي جبهة دائمة الاشتعال، فما إن تهدأ أيامًا حتى تشتعل من جديد بضربات وضربات مضادة، مع ترقّب دائم لانفجارها. وقد شهد قطاع غزة، خلال عام 2020 نحو 300 غارة إسرائيلية، وطالت الصواريخ الفلسطينية والبالونات الحرارية مستوطنات غلاف غزة، ووصلت إلى بعض المدن الإسرائيلية القريبة.
وجبهة ثانية مفترضة، هادئة بحذر، منذ حرب عام 2006 في الجنوب اللبناني، وامتدت إلى سوريا التي انتشرت فيها قوات حزب الله بعد انحيازه للنظام السوري، جنبًا إلى جنب مع الحرس الثوري الإيراني، حيث يسعى جيش العدو إلى إعاقة نقل الأسلحة والصواريخ ومراكمتها، عبر توجيه ضربات مستمرة لمواقعهما في سورية وعلى الحدود العراقية، دون ردّ منهما، لكن كافة التقديرات تشير إلى تحقيق نجاح لافت على مستوى تخزين ترسانة صاروخية، وتموضع قوات، وإقامة منشآت تصنيع عسكرية، على الرغم من كثافة الضربات التي وُجّهت لتلك المواقع، وتمّ ذلك وسط معادلة معقدة، عمادها عدم الردّ على الضربات الإسرائيلية، والاستمرار في تدفّق السلاح والقوات، ولم تتغير هذه المعادلة خلال عام 2020.
ثمة جبهة ثالثة في الضفة الغربية تتمثّل في عمليات «الذئاب المنفردة»، من طعن ودعس وإطلاق نار، وأشكال المقاومة الشعبية المتعددة. وهي في حالة اشتباك مستمر مع الاحتلال والمستوطنين، على الرغم من سياسة التنسيق الأمني التي تعيق تصعيد الهبات إلى انتفاضة شعبية، وعدم قدرة الفصائل الفلسطينية، بالرغم من اتفاقها في اجتماع الأمناء العامّين على وضع خطط للمقاومة الشعبية وتصعيدها. ومع ذلك، فقد أنهكت هذه الهبات الجيش الإسرائيلي منذ الانتفاضة الأولى وحتى اليوم، إذ تحوّلت وحدات المشاة التي انتشرت على الحواجز وفي الطرقات إلى وحدات شُرَطية، وتراجعت برامجها التدريبية، واهتزت روحها المعنوية.
تراجع «الحرب الخاطفة»
في الحروب الأخيرة على غزة ولبنان، تراجعت أفكار كانت تشكّل جوهر الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، مثل فكرة «الحرب الخاطفة» القادرة على تحقيق النصر في غضون ساعات أو أيام، ونقل المعركة إلى أرض الخصم، وإبعاد الجبهة الداخلية عنها، حيث كان المستوطن الإسرائيلي يجلس على مقاهي تل أبيب وشواطئها، في الوقت الذي يحتل فيه الجيش الإسرائيلي أراضي عربية جديدة.
حقّقت الآلة العسكرية الإسرائيلية تقدّمًا كبيرًا في القوة النارية التي تمتلكها؛ في سلاح الجو والصواريخ والمدفعية، كما هي الحال في قدرتها الاستخباراتية المدعّمة بالتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى قدراتها التقنية؛ باستخدام الطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية لأغراض عسكرية، وصلت إلى حدّ استخدامها في عمليات الاغتيال والقتل وتوجيهها عن بُعد. لكن تلك الآلة العسكرية المتطوّرة واجهت ثلاث نقاط ضعف هي بمنزلة كعب أخيل:
النقطة الأولى
نتيجة تطوّر القدرات الصاروخية في قطاع غزة، ولدى حزب الله، ظهرت معطيات جديدة أدت إلى نشوء جبهة داخلية في الكيان الصهيوني، إذ لم يعد العمق الإسرائيلي -بما فيه من مدن ومستوطنات ومنشآت اقتصادية- بعيدًا عن أي حرب محتملة. وقد تنامت هذه القدرات بشكل لافت خلال السنتين الماضيتين (2019-2020)، فأصبحت دولة الاحتلال كلها ضمن مدى هذه الصواريخ، وخصوصًا في ظلّ عدم نجاح منظومة القبة الحديدية في التصدّي لها. لأجل هذا، وفي أي مواجهة مقبلة، ستكون «إسرائيل» بأسرها منغمسة فيها على نحوٍ أشدّ مما شهدته خلال حرب عام 2014 على قطاع غزة.
النقطة الثانية
تتعلق بالمدى الزمني للحروب؛ ففكرة الحروب التقليدية الخاطفة قد انتهت، ولم تعد هناك جيوش كلاسيكية يمكن تطويقها وإبادتها، وحسم الحرب معها في ساعات أو أيام. أي حرب جديدة ستستغرق وقتًا طويلاً، وستكون «إسرائيل» كلها تحت وطأتها بدرجات مختلفة؛ وسقوط بضعة صواريخ على التجمعات الكبرى في كل يوم، سيكون كفيلاً بشلّ الحياة فيها، وجعل سكانها يقضون أغلب أوقاتهم في الملاجئ.
النقطة الثالثة
تتعلّق بوحدات المشاة في الجيش الإسرائيلي؛ انتبه رؤساء أركان الجيش الإسرائيلي المتعاقبين إلى تراجع قدرات وحدات المشاة، على عكس التطوّر الكبير في وحدات الجيش الأخرى، مثل القوة النارية، وسلاح الجو، والصواريخ، وسلاح الاستخبارات، والتطوّر التقني. فمن المعروف أن الطائرة والصاروخ قادران على تدمير الأهداف المقصودة، لكن ليس على احتلالها أو السيطرة عليها، والتي لا يمكن أن تتم دون العامل البشري.
وضع الجيش الإسرائيلي خططًا عدة من أجل تطوير وحدات المشاة، لكنها اصطدمت باستدعاء وحدات المشاة للسيطرة على الوضع في الأرض المحتلة وحماية المستوطنين، كما بالأزمات السياسية داخل الكيان الصهيوني، والموازنات اللازمة، انتهاءً بما سببته جائحة كورونا، فلم تتمكن فعليًا من إعادة تأهيل هذه الوحدات وتدريبها لمواكبة التقدّم الذي طرأ على أذرع الجيش الأخرى.
توالت محاولات قادة الجيش الإسرائيلي لتحقيق ذلك منذ أن وضع «غابي أشكنازي» خطة «تيفين» عام 2008، والتي طوّرها «غادي آيزنكوت» إلى خطة «جدعون»، عام 2015، لتستقر مع «أفيف كوخافي»، رئيس الأركان الحالي، على خطة عُرفت باسم «تنوفا»، عام 2020، بهدف إعادة الاعتبار إلى سلاح المشاة في أرض المعركة. لكن الذي تحقّق فعلاً هو تأهيل بضع وحدات فقط من وحدات النُخبة في الجيش الإسرائيلي لتمكينها من استخدام القدرات التقنية المتوافرة، والتعامل مع المعطيات الميدانية، ومنحها صلاحية الاتصال المباشر مع أسلحة الجيش الأخرى خلال مهماتها الميدانية.
مستقبل الآلة العسكرية الإسرائيلية في 2021
على وقع ما حدث من تطوّرات في عام 2020 وما قبلها، قد يكون بالإمكان التنبؤ بما قد يحدث في عام 2021، ونلخصه بما يلي:
- يصعب الحديث عن اجتياحات تستهدف احتلال أراضٍ جديدة والبقاء فيها، سواءً أكان ذلك في غزة أم في جنوب لبنان، لكن قد نشهد تقدّمًا محدودًا في بعض المواقع يعقبه انسحابٌ سريع.
- السمة الرئيسية لعمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي ستكون استخدام القدرة النارية الكبيرة التي يمتلكها، وقد يلجأ إلى التوسّع في استخدامها في حال وقوع مواجهات واسعة باتجاه ضرب أهداف اقتصادية وبنى تحتية.
- من المُرجّح أن يتميّز هذا العام باستخدام وحدات النُخبة في عمليات كوماندوز واسعة، لضرب أهداف، أو مواقع ومستودعات أسلحة، وقواعد صواريخ، ومراكز قيادة بعيدة عن الخطوط الأمامية، وبالتنسيق مع أسلحة الجو والمدفعية والاستخبارات. وهو يُعدّ تطويرًا لأسلوب جيش الاحتلال الإسرائيلي الحالي، المتمثّل بشن الغارات الجوية والصاروخية فحسب، والتي قد لا تكون قادرة على تدمير أهدافها. لذا، فإن أي موقع مهم قد يكون معرّضًا للاستهداف بعمليات أرضية، بغض النظر عن مكانه. إن هذا النمط من العمليات يسمح للعدو بتحقيق ما يعتقد أنه إنجازات، دون التورّط في حرب شاملة، ودون الحاجة إلى موافقات دولية مسبقة على عملياته، ويكون بذلك قد تجنّب حدوث شللٍ كاملٍ في بنيته الاقتصادية وجبهته الداخلية، نتيجة حرب طويلة.
- سيشهد هذا العام توسّعًا في استخدام أساليب جديدة، مثل الطائرات المسيّرة والعمليات السيبرانية.
- من المهم الانتباه إلى عملية اغتيال «فخري زاده» في إيران، إذ قد تشكّل نموذجًا يُحتذى في اغتيال شخصيات قيادية عبر استخدام الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، وتقنيات التعرّف على الأشخاص المستهدفين، ما يعني أن مفهوم الأمن الشخصي للقيادات والمسئولين قد تغيّرت أساليبه، وما عاد يعتمد على كمّ الحرّاس والمرافقين، وهذا يحتاج إلى انتباه مبكّر، وتغيير في نمط العادات المتبعة لحماية الشخصيات.
- بعض مواقع التطبيع الرسمي العربي، وخصوصًا تلك التي انتقلت من موقع تطبيع العلاقات إلى موقع التحالف، ستمنح العدو ميّزات إضافية، سواءً أكان ذلك باستعادته دور الشرطي، أم التعاون الاستخباري والعسكري، أم تدخله المباشر في الوضع الداخلي، أم بمنحه تسهيلات وموطئ قدم يعزز من إمكاناته على مستوى الإقليم.
- ثمة عوامل أخرى سيكون لها أثر كبير في مسار الأمور وتطورها، مثل المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي والصاروخي ونفوذها في المنطقة، والعلاقات الروسية–الأمريكية–التركية، وانعكاسها على الوضع في سوريا، فقد تسعى الأطراف المختلفة إلى إيجاد وقائع جديدة للتأثير في مجرى الأحداث.
- من المستبعد حدوث مواجهة شاملة عبر عدة جبهات، غزة ولبنان معًا، في الوقت نفسه، إذ إن ذلك يرتبط بتعقيدات إقليمية وحسابات دولية وإسرائيلية.
- ينبغي الانتباه إلى الآثار السلبية لعودة وهم المفاوضات، واستمرار التنسيق الأمني، ومحاولة احتواء سلاح المقاومة في غزة بذريعة المصالحة وتحت ضغط عربي وإقليمي.
نحو إستراتيجية مقاومة شاملة
يدفعنا ما سبق إلى محاولة تحديد الحلقة المركزية لإستراتيجية مقاومة شاملة يخوضها الشعب الفلسطيني كله في مختلف أماكن وجوده، تسانده الأمة العربية والإسلامية، والأصدقاء في أنحاء العالم، وترتكز على تمسك الشعب الفلسطيني بتحرير أرضه وتفكيك الكيان الصهيوني، والتمسك بثوابته الوطنية لإلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، واعتبار كافة أشكال النضال وأساليبه وأدواته هي أشكال مشروعة.
في كل مرحلة من مراحل النضال ثمة شكل رئيسي أو حلقة مركزية تمثل الوجه الطاغي لتلك المرحلة، ولا يعني هذا بالضرورة غياب أشكال النضال الأخرى، لكنها تكون في خدمة تلك الحلقة المركزية. وقد تعددت حلقات النضال من الإضراب عام 1936 إلى الكفاح المسلح، إلى الانتفاضات الشعبية أو المسلحة.
أفضل مثال على ذلك هو في الانتفاضة الأولى، حيث شكّلت الانتفاضة الشعبية ومشاركة الجماهير الواسعة في كل أشكالها من تراشق بالحجار، وعصيان، وقطع للطرقات، والتصدي لاعتداءات المستوطنين، ومقاطعة البضائع الصهيونية، والامتناع عن دفع الضرائب السمة الرئيسية لها، في حين تراجعت العمليات المسلحة لتكون بعيدة عن مثل هذه الفعاليات الشعبية.
ولنا أن نتخيل لو تقدم المسلحون التظاهرات أو أطلقوا الرصاص على وحدات الجيش الصهيوني التي تقدمت لقمع التظاهرات الشعبية، ماذا ستكون النتيجة، غير ذهاب الجماهير الغفيرة إلى منازلها وإحلال النخب المسلحة بدلاً عنهاـ؟ وهي نخب يسهل على العدو مطاردتها والاشتباك معها، أما الانتفاضة الشعبية ذات المشاركة الجماهيرية الواسعة فتكون قد تراجعت خطوات إلى الخلف وحلّ مكانها تلك النخب.
إن دور العمل المسلح هنا هو في معاقبة الاحتلال على جرائمه، بعيدًا عن أماكن الفعاليات الشعبية. لذا فمن الأهمية بمكان ملاحظة الشكل الرئيسي للمقاومة في كل مرحلة نضالية، بل وفي كل منطقة أيضًا، حيث يمكننا في الوقت الراهن أن نلاحظ ما يلي:
1. أن الأرض الفلسطينية كلها تحت الاحتلال، سواء ما احتل منها عام 1948 أو في عام 1967.
2. أن نصف الشعب الفلسطيني يقيم على أرض فلسطين، ويعاني أشكالاً مختلفة من الاحتلال والسيطرة الصهيونية، ويمارس أشكالاً متعددة ومتنوعة من المقاومة. ففي الضفة الغربية ثمة احتلال عسكري مباشر، واستيطان يقضم الأرض الفلسطينية، ويواجه ذلك في كل يوم بعمليات فردية بالسلاح أحيانًا وبالسكين والدعس غالبًا. كما تقاوم اعتداءات المستوطنين على التجمعات الفلسطينية، وتشهد هبات شعبية تتفاوت حدتها بين الحين والآخر.
في حين يواجه قطاع غزة حصارًا خانقًا، يتحكم عبره الاحتلال بمسار الحياة فيه، ويتعرض لقصف دائم، واجتياحات عسكرية واجهتها المقاومة ببناء بنية تحتية عسكرية متقدمة، وشبكة واسعة من الأنفاق، وتمكنت من تحقيق ما يشبه توازن الردع عبر استهداف الجبهة الداخلية الصهيونية بالصواريخ والتصدي للاجتياحات بالأنفاق، وهي بنية عسكرية تنمو باستمرار على الرغم من الحصار الصهيوني، والانقسام الفلسطيني وتعقيدات الجغرافيا العربية المحيطة.
وفي فلسطين المحتلة منذ عام 1948، يعاني الفلسطينيون من الطرد والتهجير الداخلي، وسلب هويتهم الوطنية وسياسات الأسرلة والتمييز. أما النصف الآخر من الشعب الفلسطيني، فقد طُرد وهُجّر من فلسطين، ويمنع من العودة إليها، ولا يزال يناضل من أجل العودة، ولدعم صمود أشقائه في الوطن المحتل.
3. بات من الواضح أن ما يُدعى بحل الدولتين قد انتهى، وأن السياسة الصهيونية تقوم على التنكر لأي حقّ فلسطيني، وعلى السيطرة على فلسطين كلها، وطرد شعبها منها. أما من يبقى فإلى حين توفر ظرف مناسب لتهجيره بأساليب مختلفة، فإنه يخضع للاحتلال العسكري والحصار والتمييز، في إطار نظام الأبارتهايد الصهيوني الذي تتضح ملامحه وأشكاله في كل يوم يمر، وهو ما يخضع له أيضًا الشعب الفلسطيني في الخارج، المهجّر من وطنه والممنوع من العودة إليه.
وهنا، ينبغي ملاحظة أن هذا النظام فريد من نوعه، ولا يشبه نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا القائم على استغلال الجنوب أفريقيين، في حين أنه في الحالة الفلسطينية يستهدف، إضافة إلى ذلك، طرد الشعب الفلسطيني وتهجيره، وإحلال الصهاينة بدلاً منه. ولذا فمن الضرورة بمكان تحديد مفهوم الأبارتهايد الصهيوني انطلاقًا من النظرة إليه بأنه استعمار استيطاني إحلالي لكل فلسطين، والقضاء عليه يتم بتفكيك الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين كلها.
4. نظرًا إلى هذه الوقائع، وفي ظلّ فشل ما سُمي بالمشروع الوطني الذي تمثّل بحل الدولتين، ووجود الشعب الفلسطيني بأسره تحت نظام الأبارتهايد الصهيوني، ما يشكل مظلة قادرة على جمع مختلف أشكال النضال الناجمة عن تعدد الظروف التي تؤثر في الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده؛ ففي الضفة الغربية يصبح النضال ضدّ الاستيطان، والعمل على إطلاق انتفاضات شعبية في وجه الاحتلال، ومحاربة سياسات التنسيق الأمني معه، وعزل المتعاونين مع الاحتلال، شكلاً رئيسيًا من أشكال المقاومة، وفي غزة يغدو الحفاظ على بنية المقاومة وسلاحها، والتصدي للاعتداءات الصهيونية، والوقوف في وجه الحصار الشكل الرئيسي للمقاومة.
وفي الأراضي المحتلة عام 1948، يصبح الحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية، ومواجهة سياسات الأسرلة، والنضال ضدّ كافة أشكال التمييز العنصري، واعتبار القضية الفلسطينية كلاً لا يتجزأ، يقع في مقدمة أشكال المقاومة. أما فلسطينيو الخارج، فإن نضالهم من أجل العودة، وتنظيم صفوفهم، ودعمهم للمقاومة في فلسطين، وانخراطهم في النضال ضدّ نظام الأبارتهايد الصهيوني، والعمل على زيادة عزلته بالتعاون مع حركات المقاطعة، والحركات الشعبية في الخارج، كلها أشكال مقاومة مطلوبة وضرورية، وتتكامل مع مقاومة الشعب الفلسطيني في وطنه، فالمقاومة فعلٌ جماعيٌ يعبّر عن إرادة الشعب بأسره في أماكن وجوده كلها.
كما أن النضال الشعبي العربي ضدّ التطبيع سيكون قادرًا على الحد من أضراره، والعمل على مناهضته، وكذلك فإن تعرية نظام الأبارتهايد الصهيوني سيربك علاقاته الدولية، ولاحقًا قد يؤدي إلى عزله، وإلحاق الهزيمة به في أي من مغامراته، ستربك إستراتيجيته بأسرها؛ فهو غير قادر على احتمال الهزائم.
وتبقى خاصرة العدو الرخوة، والمتمثلة في جبهته الداخلية، هدفًا مشروعًا للرد على مغامراته العسكرية، إستراتيجية العدو حافلة بمكامن ضعف يمكن من خلالها إلحاق هزيمة مدوّية به، عبر السعي لتطوير الهبّات الثورية في الضفة الغربية إلى انتفاضة شاملة، والتي من شأنها أن تشلّ قطاعات واسعة من جيشه وجهده الاستخباري، وتخرج بعضها من أي مواجهة مقبلة.
يترافق هذا مع المحافظة على سلاح المقاومة في غزة وتعزيزه، فالمقاومة الشاملة تعني انخراط الشعب الفلسطيني كله فيها، كل من موقعه ومكانه، وهذا يقتضي موقفًا حازمًا مبنيًا على الإيمان بقدرتنا على الانتصار، ورؤية حالة التراجع الإستراتيجي التي تعصف بالعدو وحلفائه، مهما بدت عليهم مظاهر القوة الزائفة.