من الذاكرة الفلسطينية: «ممنوع التجول حتى إشعار آخر»
عبرت هذه الجملة بالتحديد في مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني عن وجه من وجوه المواجهة مع الاحتلال، وذلك في الانتفاضة الأولى لعام 1987، والتي مازلت بعبقها الطاهر النقي تعيد للذاكرة عافيتها في مرحلة ليس من المبالغة في شيء أن نقول عنها: «مرحلة الانحدار غير المسبوق على كل الأصعدة».
لقد حملت هذه الجملة (ممنوع التجول) العديد من المضامين النبيلة والثورية في وجهها الآخر بالنسبة لنا أهل فلسطين. فإن يكن هناك (ممنوع التجول) فمعنى ذلك أنك في مواجهة مع الاحتلال قبل إعلان حالة منع التجول وبعد الإعلان، مواجهة حملت في طياتها معاني العز والبطولة والفداء، تتجلى فيها معاني العمل المشترك والهم الفلسطيني الواحد؛ من رد الاعتداءات الإسرائيلية ورد الاعتبار للقضية الفلسطينية التي مثلت قضية مركزية لكل مكونات المجتمع الفلسطيني والعربي والإسلامي.
هذه الحالة من العطاء عكست نفسها على طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومثلت في مجملها نسيجا رائعا على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، تجلت فيه معاني الوحدة والتعاون والحفاظ على ثقافة المجتمع الفلسطيني من احترام مشاعر الآخرين والالتزام بالجو العام الداعم لثقافة المقاومة والاهتمام بعوامل الثبات على الأرض الفلسطينية.
اعترى هذه الصورة الرائعة – وللأسف – العديد من الإشكاليات مع مرور الوقت، وأصبحت مقولة ممنوع التجول حتى إشعار آخر لها دلالات من نوع آخر على مستوى المقولة نفسها، ففي انتفاضة 1987 م كانت قوات الجيش الإسرائيلي تقوم بمهمة منع التجول ويكلفها ذلك ماديا ومعنويا، واليوم بالكاد نسمعها (ممنوع التجول) لكن أصبحت صورها مختلفة، فلم نعد نسمعها عبر مكبرات الصوت، وقائلوها كذلك أصبحوا مختلفين، وذلك في مظاهر اجتماعية وسياسية دخيلة على الشعب الفلسطيني، وحتى لا أطيل على القارئ سأقصر الحديث على ثلاث ظواهر، هي:
1. الصراعات الداخلية عبر ما يسمى (الفلتان الأمني) في الضفة الغربية:
فما أن تهدأ منطقة حتى تشتعل أخرى، وما أحداث نابلس وجنين ورام الله عنا ببعيد؛ وكمتابع للمشهد الفلسطيني أستطيع القول: إن من ضمن الأسباب التي تؤجج هذه الظاهرة وتمدها بالبقاء عدم فاعلية القانون، والبطالة في صفوف الشباب، وعدم فتح ملفات الفساد والجمود السياسي والوضع الاقتصادي المزري، وهناك أسباب أخرى، إلا أن هذه أبرزها.
وهو ما يشكل حالة من منع التجول أشد ضررا مما كان يحدث من منع التجول الذي كان يفرضه الاحتلال؛ فتعطيل مصالح الناس وشل حركتهم سمة بارزة لتداعيات ظاهرة الفلتان الأمني، ولا أريد الخوض في التفصيلات والتداعيات، وربما أفرد لها مقالا تحت هذا العنوان، لكن الأمر مسيء للحالة الفلسطينية على جميع الأحوال، وهو ما يستدعي من السلطة الفلسطينية على وجه التحديد عدم الاكتفاء بمعرفة الأسباب دون تدخل، ووضع برنامج وطني شامل يقضي على هذه المظاهر العبثية؛ من خلال مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، ممثلا في المجلس التشريعي وغيره من المؤسسات، وهو ما يستدعي إعادة إنتاج شرعياتها المنتهية منذ فترة.
2. سد الطرقات والأحياء بسبب طخيخة الأعراس والجنازات والحفلات:
هذه الظواهر أصبحت مقلقة، بحيث يتحول معها الشارع أو الحي الذي تقام فيه هذه المظاهر إلى حالة منع تجول حقيقية لا يمكن المرور من هذا الشارع أو في ذلك الحي إلا لأصحابها، فالازدحام المروري وقطع الشوارع العامة بمنصات الأعراس والحفلات، والتعدي على الممتلكات العامة وحرية التنقل أمر بالغ الإزعاج وعرقلة لمصالح الناس.
ليست ممارسة هذه الظواهر مربوطة بساعات معينه بل قد تأخذ يوما كاملا أو نصف يوم، مما يعد تعديا صارخا على حقوق الناس، كما أن إطلاق المفرقعات النارية الذي يصاحب هذه الأعراس والأفراح والجنازات يسلب كل معاني الهدوء والاستقرار واحترام خصوصيات الناس وأحوالها؛ فالضجيج والإزعاج بلغ حدا لا يوصف بكلمات.
وإذا كان منع التجول في الانتفاضة الأولى يكلف الناس ماديا عندما تتعطل مصالحهم نتيجة لمنع التجوال؛ فإن ما تتسببه هذه الظواهر السلبية تكلف الناس أموالا طائلة تكفي تمويل أحياء فقيرة بكاملها! ولعله من نافلة القول ألا نعلق كل مصائبنا على شماعة الاحتلال، وهو ما يحتم علينا البحث المستمر عن مكامن الخلل وسد الثغرات، فالقيام بذلك مقدمة لازمة لتحقيق الإنجازات.
3. الانقسام الفلسطيني الحاصل بين الضفة الغربية وغزة:
كان من أهداف منع التجول الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على القرى أو المدن أو الأحياء منع المقاومين من الأنشطة السياسية والشعبية، وبالذات في المناسبات الوطنية التي كانت تخرج فيها الفصائل لتحيي ذكرى النكبة أو النكسة أو ذكرى مجزرة أو شهيد، أو لمنع أي عمل مقاوم إذا ما توفر لديها معلومات أمنية مسبقة عنه.
إن الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وغزة قام بمهمة منع التجول الذي لا يسري مفعوله إلا على المقاومين، فمنع ممارسة العمل السياسي والمقاوم على اختلاف صوره أحد تجليات هذا الانقسام البغيض.
ومع حاجة الضفة الغربية لثقافة المقاومة ونهجها فالصورة قاتمة، تنذر بانعكاسات خطيرة، على رأسها: التحول الجذري في طبيعة تفكير الجيل واهتماماتهم، ولا يخفى على أحد الجو العام السائد في الضفة الغربية من طغيان ثقافة الاستهلاك والدعة والعزوف عن محاضن التثقيف والانعزالية السياسية والإيغال السلبي في التعامل مع عالم الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) كما بينت الإحصائيات ذات الصلة.
لقد أصبحت مقولة (ممنوع التجول) ثقافة سائدة، وبالذات في ذكرى انطلاقات بعض الفصائل، لقد غاب عن المشهد فلكلوريات الانتفاضة الأولى التي كنا نربط فيها الماضي بالحاضر، فنستجلب معاني التحدي وعزة العربي؛ فنمر من بين الأزقة والشوارع والممرات والبيادر والساحات، فنعيد للذاكرة تألقها واتقادها، فيرمقنا أمل التحرير، لتتلاشى معه حظوظ النفس، فتغدو حركات التحرر ملتصقة بجذورها، يردف بعضها بعضا، يمد وجودها تراب الوطن الجامع في ملحمة أسطورية حداؤها: لا لن نبيع دم الشهيد والجريح وأنات الأسير والدمع في عيون اليتامى، والقدس تصرخ بالقيود لا ذل كلا لا تراجع!
فإلى متى سيظل منع التجول سيفا مسلطا على المقاومين؟ مع أننا نعلم علم اليقين أن في تجولهم جلاء لما في الصدور من وهم الهزائم إلى فضاء البطولات وصناعة التغيير للأمل المنشود!
لا تنتهي عظمة الشعب الفلسطيني، فبالرغم من هذه الشوائب المارقة فإن بحر العطاء والكرامة الموصول بماضي وحاضر الشعب الفلسطيني ما زال يحتذى به في كل الاتجاهات، وهو قادر على تجاوز أي ظاهرة سلبية قد تظهر نتيجة لظروف طارئة.
فحجم المؤامرات وكي الوعي الممارس على الشعب الفلسطيني تشيب منه مفارق الولدان، ولولا لطف الله بالمجتمع الفلسطيني واستبسال قواه الحية لأصبحت القضية الفلسطينية طي النسيان، لكنها مشيئة الله أن يبقى الفلسطينيين رأس الحربة في مواجهة المشروع الغربي المتمثل في دولة الاحتلال الإسرائيلي. فهل يا ترى ستعود القضية إلى مسارها الصحيح بعد انسداد أفق التسويات السياسية؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.