حركة الجهاد الإسلامي: من الشقاقي إلى نخالة
سيارة إسعاف مسرعة تتوجه إلى قافلة عسكرية إسرائيلية. يقود السيارة رجل فلسطيني يُدعى أنور عزيز. اقتربت السيارة من القافلة، لحظات من الحيرة على القافلة الإسرائيلية، فانفجار ضخم نفذّه أنور واضعًا نفسه في مركز الانفجار عل الغضب الكامن في داخله يزيد من اشتعال النيران في جنود الاحتلال. نغمة جديدة لم يعتد الاحتلال الإسرائيلي سماعها، فقد استخدم الباورد هذه المرة لتنفيذ أول عملية استشهادية في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
عملية أنور كانت عام 1993. ظن الاحتلال الإسرائيلي أنها نغمة استثنائية، فلا يمكن للمزيد من رجال فلسطين أن يضحوا بأرواحهم بهذه الصورة المباشرة. كان الاحتلال محقًا، فقد كانت نغمة استثنائية، لكن بدلًا من تلاشيها تضاعفت. فبعد عامين من عملية أنور، ابتكرت المقاومة مفهوم التفجير المزدوج. إذا يقوم فدائي بتفجير نفسه، ثم حين يجتمع جنود الاحتلال حول التفجير يقوم آخر، موجود سلفًا في المكان، بتفجير نفسه لإحداث ضرر أكبر. وهو ما ثبتت صحته في عملية بيت الليد عام 1995. في تلك العملية قُتل 19 جنديًا إسرائيليًا وجرح قرابة 70 آخرين.
تلك اللغة الجديدة التي تستخدم الباورد الممزوج بالروح المقاتلة والغضب المتراكم كانت مؤلمة للاحتلال. خصوصًا أنه بات مضطرًا إلى الاستماع إليها أكثر من مرة، وأُجبر على الاعتراف أنها لم تعد فعلًا استثنائيًا، بل لغة متكاملة يتحدثها فصيل جديد من فصائل المقاومة. دخل إلى ميدان المعارك بعقيدة واضحة وأهداف ثابتة جعلت لهذا الفصيل أسلوبه الخاص في العمليات. فكان أول من أدخل العمليات الاستشهادية بواسطة المتفجرات ضمن أدوات المقاومة. وأول من ابتكر مفهوم التفجير المزدوج.
لكن ولادة الفصيل ذاته حدثت قبل تلك العمليات بقليل. كانت سبعينيّات القرن الماضي مشحونة بالأحداث. إذ حدثت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بمشاركة القوات المصرية والسورية ضد الاحتلال الإسرائيلي. لفتت تلك الحرب النظر إلى الدور المنظم الذي قامت به المقاومة الفلسطينية حين نفذت هجماتها بالتزامن مع الهجمات المصرية والسورية. ثم توالت الأحداث ونجحت الثورة الإسلامية في إيران فانتهى نظام الشاه الموالي لإسرائيل ووُلد نظام جديد أغلق السفارة الإسرائيلية في طهران وحوّلها لسفارة فلسطينية.
من الأفراد للسرايا المنظمة
من تلك الأحداث برزت فكرة تكوين خط مقاومة عربي متآلف يكون هدفه منع اكتساح إسرائيل للمزيد من الأراضي العربية بصفة عامة، والفلسطينية بصفة خاصة. بجانب إنهاء الوجود الإسرائيلي في المناطق المحتلة بالفعل. ويكون دعم تلك المقاومة مسئولية إيران التي بزغت شمسها كظهرٍ قوي يمكن للمقاومة المسلحة أن تستند عليه. فكانت تلك الإرهاصات هى المُبشرة بميلاد حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية. وإعلانها كأول حركة إسلامية في الساحة، بعيدًا عن حركة فتح ذات التوجه العلماني، أو الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري.
ركزّت حركة الجهاد الإسلامي إلى إعادة بث روح الفكر الإسلامي، والدعوة للجهاد في مقاومة المحتل. ولم تطل الوقت في الدعوة النظرية للأمر، بل هرولت للميدان سريعًا. تأسست عام 1978، وقامت بتشكيل أول خطوطها للعمل الميداني عام 1981. كان العمل المسلح في البداية فرديًا، فالخلايا العسكرية تنشط منفردة، وتنفذ عملياتها العسكرية ضد الاحتلال منفرد. لكن مع اندلاع الانتفاضة الأولى تحولت جهود الأفراد إلى جناح عسكري منظم. فباتت تُعرف سرايا الجهاد، ثم سيف الإسلام، ثم القوى الإسلامية المجاهدة والمعروفة اختصارًا باسم قسم، واستقرت في نهاية المطاف على سرايا القدس.
بالتأكيد لم تسلم الحركة من عمليات الاعتقال الواسعة لكل كوادرها وأفرادها. لكنها لم تعرف اليأس، فدائمًا ما تجددت الروح القتالية. فمثلًا في عام 1987 حين كانت غالبية كوادر الحركة رهن الاعتقال، استطاع 6 من كوادرها الفرار من سجن غزة، فاشتعلت الروح النضالية للحركة من جديد.
وبعد دخول العمليات الاستشهادية على الخط عام 1993 بعملية أنور عزيز، أصبحت الحركة قادرة على تحويل غضبها من المحتل إلى عمليات مباشرة توجعه كما يُوجع الحركة بالاعتقال والاغتيال. ففي عام 2000 نفذ سرايا القدس، الاسم الجديد للحركة، عدة عمليات استشهادية. كما وقعت أول عملية تفجير بسيارة مفخخة في القدس المحتلة، وأسفرت تلك العملية عن مقتل ابنة الحاخام المتطرف إسحق ليفي، ومحاميها.
لا انتخابات في وجود احتلال
الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين عام 2002 كان حدثًا فارقًا في مسيرة المقاومة الفلسطينية بالكامل. لذا بالتأكيد كان له بالغ الأثر في حركة الجهاد الإسلامي إذ يُعتبر معقلها في الضفة الغربية. في ذلك الاجتياح ارتقى قائد السرايا في شمال الضفة، محمود طوالبة. واستشهد كذلك عدد من مقاومي السرايا، بجانب 58 فردًا من المخيم وفق بيانات الأمم المتحدة، و500 فرد وفق بيانات السلطة الفلسطينية.
بات الغضب أكبر، ولم تعد السرايا قادرة على انتظار المحتل والتربص له، وأصبح التفكير في كيف ننقل المعركة إلى دائرة الأمان الخاصة به. فكانت حركة الجهاد في غزة من أوائل الأجنحة العسكرية التي صنعت الصواريخ. وأسهمت في تطوير منظومتها بصورة فعالة. والحركة هى أول من قصف تل أبيب المحتلة بصاروخ فجر 5. كما تصطف الحركة في القطاع مع باقي فصائل المقاومة من دون تمايز أو شقاق.
لكن على الجهة الأخرى تنأى الحركة تمامًا عن اتفاقية أوسلو للسلام التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية. واعتبرتها الحركة تنازلًا عن الأرض، وإهدارًا للدم المراق والأُسر المهجّرة، وسلامًا مع كابوس يخنق الأمة الفلسطينة. وترتب على تلك المعارضة مقاطعة الحركة للانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت عام 1996. وترفض الحركة فكرة الانتخابات في وجود المحتل لأنها ترى ذلك تأسيسًا لشرعية جديدة تقوم على وجود المحتل في الأراضي الفلسطينية للأبد، تحت مسمى حل الدولتين الذي تعارضه حركة الجهاد بشكل مطلق.
الانتخابات التشريعية هى أول صدع في علاقة حركة المقاومة الإسلامية حماس مع حركة الجهاد. فبعد أن وحدّتهما العمليات الاستشهادية، انخرطت حماس في انتخابات عام 2006. فرأت الجهاد ذلك تماشيًا مع تيار أوسلو، وموافقة على حلول التسوية مثل حل الدولتين. فتوترت العلاقة بين الطرفين، حتى وصل إلى الاشتباك أحيانًا. وظلت المشاحنات بين الطرفين حتى أعادت إسرائيل تذكير الجميع بالهدف الأسمى لوجود المقاومة. العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 أعاد المياه إلى مسارها.
حسن البنا والخميني إماما الجهاد
امتزجت الفصائل كافة في مواجهة الاحتلال، ولم تحدث توترات ملحوظة بين الطرفين مرة أخرى، رغم استمرار الاختلاف في التوجهات. كما أن انضمام حماس لمحور المقاومة، حيث يوجد حزب الله، جعلت العلاقة بين حركة الجهاد وحماس تهدأ بنسبة أكبر. فقد زادت المشتركات بين الحركتين، لكن تظل فلسفة كل حركة منهما مختلفة.
فحماس ترى ضرورة تكوين مجتمع قوي قبل مقاومة إسرائيل، بينما ترى الجهاد أنه لا حاجة سوى لمقاومة إسرائيل دون التشتت في تفاصيل أخرى. أما المحللون الإسرائيليون فيرون الفارق بين حماس وحركة الجهاد، أن حماس تعمل مع إيران، بينما حركة الجهاد تعمل لصالح إيران.
رغم أن حركة الجهاد محسوبة على إيران، لكن الحركة صمدت أمام تقليص التمويل الذي قامت به إيران لدفعها إلى إدانة الربيع العربي ودعم الرئيس السوري بشار الأسد، لكن الجهاد رفضت. بينما اتخذت حماس موقفًا واضحًا بدعم الربيع العربي، ومغادرة قادتها لسوريا، رفضت حركة الجهاد تبني موقف إيران، لكن تظل، في الإعلام الإسرائيلي والتحليل الدولي، محسوبةً على إيران. وهو ما لا تنكره الحركة، وليد القططي، عضو المكتب السياسي للحركة قال، إن علاقة الجهاد مع إيران في أحسن أحوالها، وإيران لا تتوانى عن مد يد العون للحركة. كما عملت الجهاد على التوفيق بين إيران وحماس في الفترة الأخيرة.
حركة الجهاد تُقدر حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وترى في إيران داعمًا ممتازًا لجهودها. لذا نجد مؤسس حركة الجهاد فتحي الشقاقي، زيّن كتابه، الخميني.. الحل الإسلامي والبديل، باهداءٍ مميز جاء فيه: إلى رَجُلَي القرن، الإمام الشهيد حسن البنّا، والإمام الثائر آية الله الخميني.
ما يكشف أن حركة الجهاد تشكلت عبر حالة من التطور ومراجعة الأفكار وتغييرها. كما فعل مؤسسها الشقاقي حين قرر إعادة الثانوية العامة ليغير مجاله من دراسة الرياضيات في جامعة بيرزت إلى دراسة الطب. بالفعل نجح الرجل في تحقيق هدفه، وبدأ دراسة الطب في جامعة الزقازيق في مصر عام 1974. وصار طبيبًا للأطفال في قطاع غزة، لكن مخالطته لزملائه من الإخوان المسلمين جعلته يتأثر بتفكيرهم حتى اقتنع به بالكامل، وصار مسئولًا تنظيميًا في الإخوان المسلمين.
عنقاء تموت لكن لا تنتهي
في ذروة اعتناق الرجل لتفكير الإخوان المسلمين، نجحت الثورة الإيرانية، فألّف كتابه سالف الذكر. لكن لم يبدو الرجل مؤمنًا بولاية الفقيه ولا بالفكر الشيعي عمومًا، بل كان مجذوبًا لفكرة الثورة الإسلامية التي رجّت العالم كله. وربما أكثر ما أعجبه في الخميني أن خطاباته كانت تتقاطع مع هموم الشقاقي تجاه الاحتلال، فالخميني كان شديد الهجوم على إسرائيل كونها يد الولايات المتحدة في العالم الإسلامي. لهذا كان مبررًا أن الرجل في كتابه هاجم كافة الدول العربية التي وقفت ضد الخميني، وأظهر انبهاره بالتجربة الإيرانية.
فأدى الكتاب للقبض عليه في مصر، وترحيله إلى فلسطين. لكن عبر التفكير الهادئ وشبكة العلاقات القوية استطاع الرجل أن يؤسس حركة الجهاد الإسلامي عام 1981، بعد أن اجتذب قيادات الاتجاه الإسلامي في حركة فتح، وتواصل لاحقًا مع سرايا الجهاد التي تأسست في بيروت عام 1986.
باتت الحركة أكبر من مؤسسها وكوادرها، وكلما اغتالت إسرائيل فردًا اكتشفت أن خلفه العشرات. فاغتالت إسرائيل المؤسس انتقامًا لعملية بيت الليد، عملية التفجير المزدوج، بعد 9 أشهر من العملية. تسلّم أستاذ الاقتصاد في جامعة فلوريدا والحاصل على درجة الدكتوراة في الاقتصاد رمضان شلّح أمانة الحركة.
لم يغيّر الرجل في الحركة شيئًا، واستمر على مبادئها الأولى. واحتفظ لها بتعريفها لنفسها حركة إسلامية جماهيرية مجاهدة مستقلة، الإسلام منطلقها، والعمل الجماهيري الثوري والجهاد المسلح أسلوبها، وتحرير كامل فلسطين من الاحتلال الصهيوني هدفها. لكن وعكة صحية كبرى دفعت شلّح، الذي صار مقيمًا على قوائم الإرهاب الأمريكية، إلى تسليم قيادة الحركة إلى زياد نخالة، الذي تعتبره إسرائيل من صقور الحركة.
لذا فالعملية التي قامت بها إسرائيل في أغسطس/ آب 2022 واستهدفت قادة وكوادر بارزين من حركة الجهاد الإسلامي، تبدو عملية موجعة، وسيكون لها مردود كبير على الحركة، لكنها ليست شيئًا غريبًا على الحركة. ربما تختلف المدة الزمنية اللازمة لتعافي الحركة ولملمة نثارها الذي تسببت فيه الصواريخ الإسرائيلية، لكنها في النهاية تتعافى وتنهض من جديد لتمضي على دربها المُحدد نحو غايتها الوحيدة بعزم عنقاء اعتادت على أن تموت لتُبعت من جديد.