الاقتصاد الفلسطيني: ما أفسده الاحتلال لا تصلحه صفقة القرن
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
رُوجت ورشة البحرين، التي انعقدت بالمنامة في 25 و26 يونيو/حزيران بحضور مسئولين عرب وغربيين، كمناسبة لطرح خطة اقتصادية جديدة للأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة المحاصر والمنطقة ككل، تحت لافتة تهيئة الاقتصاد الفلسطيني «للمضي في الاتجاه الصحيح».
إلى هنا والأمر مألوف نوعًا ما، فلا غرو أن رجلًا ثريًا أبيض مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعتبر ضخ الأموال هو الحل السحري لأي مشكلة، لكن المؤسف بمكان أن نرى من هم مستعدون لشراء فكرة بضاعتها أن خطة اقتصادية بسيطة يمكن أن تُمثل حلًا للقضية الفلسطينية الممتدة لعقود.
يجب أن يكون واضحًا للكافة أن اقتصادًا تحت الاحتلال لا يمكن أن «يمضي في الاتجاه الصحيح»، ولو صُبت المليارات في مختلف قطاعاته؛ ذاك أن الاحتلال يعطل التنمية الاقتصادية بالإهمال، ولا «إصلاحات» مالية تجدي ما لم ينتهِ الاحتلال كاملًا.
اقتصاد تحت الاحتلال
من بعد ازدهار، تردى اقتصاد فلسطين التاريخية بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 وما أعقبه من احتلال الأراضي الفلسطينية، وكان من نتائج سلسلة من اتفاقيات «السلام» أُبرمت أوائل التسعينيات كجزء من اتفاقات أوسلو أن جرى إخضاع فلسطين لتبعية اقتصادية كاملة.
كان لبروتوكول باريس عام 1994 أثر مدمر على الاقتصاد الفلسطيني، إذ فرض اتحادًا جمركيًا غير متوازن، يسمح للتجارة الإسرائيلية بالنفاذ مباشرة إلى السوق الفلسطينية، ويُقيّد دخول البضائع الفلسطينية إلى السوق الإسرائيلية، ويمنح إسرائيل سيطرة كاملة على عملية جمع الضرائب.
فوق ذلك، أقرَّ «بروتوكول باريس» استخدام الشيكل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تاركًا السلطة الفلسطينية، حديثة التشكل، مُجردة من أي أدوات للسياسة المالية أو قدرة على ضبط سياسات الاقتصاد الكلي.
أي أن إسرائيل تتمتع اليوم بهيمنة كاملة، مباشرة وغير مباشرة، على مفاصل الاقتصاد الفلسطيني، والاحتلال العسكري يزيد الطين بلة بأن يسمح للدولة الإسرائيلية بممارسة السيطرة المادية على الأنشطة الاقتصادية الفلسطينية اليومية، والإمعان في إخضاع الأراضي الفلسطينية.
كيف يبدو ذلك على الأرض؟
في قطاع غزة يدخل 35% من مساحة الأراضي الزراعية ضمن نطاق ما يسمى «المنطقة العازلة»، التي حددها وفرضها الجيش الإسرائيلي، وفلاحة هذه الأراضي تهديد حقيقي لحياة من يشرع فيها. وهناك أراضٍ زراعية أخرى في غزة ترشها طائرات إسرائيلية دوريًا بمبيدات أعشاب، مُخلِفة خسائر بلغت ذات مرة واحدة في يناير/كانون الثاني 2018 نحو 1.3 مليون دولار.
وفي الضفة الغربية المحتلة، تقع معظم مساحة الموارد الطبيعية والأراضي الخصبة ضمن المنطقة (ج)، التي تشكل 61% من مساحة الضفة الغربية، وتخضع بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، بما في ذلك 95% من مساحة وادي الأردن، الذي تحول إلى غابة مستوطنات إسرائيلية غير شرعية.
يرتب فقدان المنطقة (ج) على كاهل الاقتصاد الفلسطيني خسائر تقدر بـ 480 مليون دولار سنويًا، فضلًا عن بطالة 110 آلاف فلسطيني.
يمثل تمزيق وعزل الضفة الغربية بالمستوطنات عائقًا إضافيًا أمام النمو الاقتصادي، بالحد من حرية حركة الأفراد والبضائع.تسيطر إسرائيل بالكامل على معظم البنية التحتية الفلسطينية، وهي قادرة على تقييد الوصول إليها متى شاءت.
ولسنوات، أعاقت إسرائيل تطوير خدمات الهاتف الجوال بفرض قيود متنوعة، بما في ذلك منع تقديم خدمات تكنولوجيا الجيل الثالث،وقدَّر تقرير أن خسائر مقدمي خدمات الجوال الفلسطينيين بلغت جراء ذلك ما بين 436 مليون و1.5 مليار دولار في الفترة بين عامي 2013 و2015.
و تُقيّد إسرائيل يوميًا وصول الفلسطينيين إلى طرق وممرات الضفة الغربية، وقدّرت دراسة صادرة عن البنك الدولي في 2007 أن الاقتصاد الفلسطيني خسر 229 مليون دولار، أو ما يساوي 6% من ناتجه المحلي الإجمالي، بسبب حواجز التفتيش المتناثرة على طرق الأراضي المحتلة.
في غزة، أمعنت إسرائيل في إحكام الحصار، وقيّدت دخول جميع أنواع البضائع تقريبًا. أفضى ذلك إلى تدمير الصناعات الزراعية والتحويلية، وبطالة نصف سكان القطاع. وبجانب ذلك، يقصف الجيش الإسرائيلي القطاع بانتظام، مُدمرًا البنية التحتية الأساسية، وممهدًا لتحويله إلى منطقة غير قابلة للسكن بحلول عام 2020، وفقًا للأمم المتحدة.
أنتجت الآثار المركبة للاحتلالين العسكري والاقتصادي اقتصادًا فلسطينيًا بالغ التخلف، وانكماشًا في الإنتاج المحلي، فيما تقفز معدلات البطالة بخطوات واسعة، وتتعثر قطاعات الاقتصاد التقليدي.
مع هيمنة وتفوق الاقتصاد الإسرائيلي على الفلسطيني، ما من فرصة أمام الفلسطينيين للمنافسة أو إنتاج ما يكفي لتلبية الطلب المحلي، فيما تجني التجارة الإسرائيلية مكاسب جمة، ليس عبر استغلال وضعها المتفوق والهيمنة على السوق الفلسطينية فحسب، وإنما عبر استغلال العمالة الفلسطينية بالغة الرخص نتيجة انسداد الفرص أمام الاقتصاد الوطني أيضًا.
بالنتيجة، أمسى كثير من الفلسطينيين في وضع لا يُحسدون عليه، مضطرين لشراء بضائع من إنتاج الاحتلال في أراضيهم المُستلبة منهم، فيما الفرصة الوحيدة لتأمين الدخل هي العمل لدى المحتل، وتداول عملته المفروضة عليهم.
النيوليبرالية ونزع التسييس
فضلًا عن تعزيز الهيمنة الإسرائيلية على الاقتصاد الفلسطيني، خلقت اتفاقات أوسلو السلطة الفلسطينية كجهاز حكم معتمد بشدة على قوة خارجية. وتحت الضغوط الغربية، تبنت السلطة الفلسطينية منهاجًا نيوليبراليًا ساعد على خلق فجوة متعاظمة الاتساع بين طبقات السكان الفلسطينيين، وتردي مستويات معيشة الطبقة العاملة.
يمكن اعتبار إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية في إطار “خطة الإصلاح والتنمية الفلسطينية” عام 2007 مثالًا جديرًا بالدراسة على اعتماد السلطة الفلسطينية النيوليبرالية. وُضعت الخطة بمساعدة البنك الدولي ووزارة التنمية الدولية البريطانية وجهات أخرى، وأنتجت سياسات مدمرة، ليس أقلها خفض النفقات العامة.
في 2015، أُنفق 16% فقط من ميزانية السلطة الفلسطينية على التعليم، و9% على الصحة، و1% على الزراعة، بينما خُصص 26% لقطاع الأمن (الذي يتولى التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي وقمع المقاومة).
شجعت خطة إعادة الهيكلة أيضًا على الاقتراض، ما ضاعف حجم مديونية عموم السكان. وفي الوقت الحالي،يدين القطاع الخاص الفلسطيني لعدد من البنوك بنحو 2.8 مليار دولار، بينما بلغت القروض الشخصية نحو 3.2 مليار دولار، وقفزت قروض السيارات ستة أضعاف خلال السنوات العشر الأخيرة من 40 مليون دولار عام 2008 إلى 250 مليون دولار بحلول نهاية العام الفائت.
وهكذا، ففي رام الله، العاصمة الفعلية للسلطة الفلسطينية، يمكن الانخداع بانطباع وهمي عن ازدهار المدينة عند التجول في أحياء الطبقة الوسطى، الغاصة بالفلل الفخمة والسيارات الفارهة من طراز بي إم دبليو، على أن كل ذلك ليس سوى تجلٍّ للأثر المدمر للنيوليبرالية والاحتلال على الشعب الفلسطيني.
تفتح ديون الفلسطينيين الباب واسعًا أمام خضوعهم للهيمنة الاجتماعية والنأي بأنفسهم عن التسييس. هنالك اليوم نحو 150 ألف فلسطيني موظفين لدى السلطة الفلسطينية، ونحو 100 ألف آخرين يعملون في إسرائيل، عديدون منهم مثقلون بديون القروض.
كل هؤلاء مهددون بفقدان وظائفهم (وربما منازلهم وسياراتهم … إلخ) إذا ما ثبت انخراطهم في أنشطة سياسية (غير مرضي عنها). يلغي الإسرائيليون تصاريح العمل لعائلات بأكملها، إذا ما ضُبط أحد أفرادها يمارس أنشطة مناهضة للاحتلال.
ولم تنحصر نتائج كل هذا في تفاقم الفقر وصعوبات المعيشة وحدها، إنما تخطت ذلك إلى تفشي النزعة الفردية، مُعمقة التفسخ والاستقطاب السياسي في المجتمع الفلسطيني.
على هذه الخلفية، انعقدت ورشة البحرين، وأيًا كانت نتائجها فإنها لن «تُصلح» الاقتصاد الفلسطيني، لأنها لا تتعاطى مع المشكلة الرئيسية: الاحتلال الإسرائيلي. إن ما أفسده احتلال وقمع الشعب الفلسطيني لا تمكن مداواته بحل اقتصادي منزوع السياسة.
بالنسبة للفلسطينيين، فالحقيقة الساطعة أن «السلام الاقتصادي» المعروض ليس سوى محاولة أخرى لشراء صمتهم، وحتى السلطة الفلسطينية ورجال الأعمال الفلسطينيين البارزين رفضوها.
لم تكن ورشة البحرين سوى عَرَض من أعراض مشكلة عالمية أعمق. ثمة تحالف ينشأ بين الهيمنة العرقية ورأس المال ويجثم بثقله على الفئات الأضعف، ومن مصلحة ذاك التحالف أن يُجري فصم السياسة عن الاقتصاد.
في جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، لم يتسن إنجاز مهمة التحرر بالكامل لهذا السبب بالذات؛ فصم السياسة عن الاقتصاد. ومع أن الرأسمالية العنصرية احتلت مساحة معتبرة من المساجلات الفكرية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، فقد حصر الأخير أجندته المناهضة للفصل العنصري في المجالين السياسي والاجتماعي.
أفضى ذلك إلى تقديم تنازلات كبرى للنخب الاقتصادية، وأهم من ذلك إلى تبني النيوليبرالية، المسئولة اليوم عن الاختلالات الطبقية في المجتمع الجنوب أفريقي، وعن استمرار معاناة الطبقة العاملة الحضرية السوداء وسكان الريف.
وفي سبيل تفادي أخطاء الماضي، يتعين إدراك ألا أفق للسلام الاقتصادي في فلسطين طالما ظل الفلسطينيون محرومين من حقوقهم، وعلى العالم أن ينضم إلى الفلسطينيين في رفضهم لصفقة ترامب وورشة البحرين، والإلحاح على أن الحل الوحيد الممكن للقضية الفلسطينية يجب أن يكون حلًا سياسيًا، مثل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بالكامل وتفكيك نظام الفصل العنصري، وكل ما دون ذلك آيل إلى فشل محتوم.