مدن فلسطينية: «إضاءات» تروي حكاية يافا التي نحبها ولا نراها
لـ«يافا» سمة الجمال تستمدها من معنى اسمها الذي يعني «المنظر الجميل»، ومن امتداد ساحلها على البحر المتوسط الذي يُعد نقطة اتصالها بالعالم، ولها أيضًا صفات العروس؛ إذ تُشكل حقولها الغنّاء وسهولها الخضراء المترامية على امتداد مساحتها التي بلغت وقت احتلالها نحو 17510 دونمات، جوهر زينتها وبهجتها التي حرّضت كل من وطئ ثراها لأن يكون فيها صاحب السلطة والسلطان بدءًا من العصر العثماني حتى الاحتلال الإسرائيلي البغيض.
ولها أيضًا كماليات البقاء تستلهمها من حضور شعرائها وكتابها في عالم الفكر والثقافة، إذ عُرفت بإنجازاتهم وإبداعاتهم كعاصمة للثقافة والأدب.
ولكن بعد اغتيالها على يد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، أضحت يافا مدينة مختلطة يسكنها اليهود والعرب معًا وجنبًا إلى جنب ليس في إطار التطبيع والجوار الودي بل الإجباري، والهدف لا خلاف عليه؛ تهجير السكان العرب وجعلهم أقلية مهمشة دون أدنى تأثير.
للأسف استطاع الاحتلال إلى حدٍّ كبير أن يُنفذ مُخططه، فباتت البلدة القديمة تكاد تخلو من الوجود العربي، لولا بعض المساجد والكنائس التي تُشير إلى هوية المدينة الأصلية.
تاريخ يأبى الذوبان
هناك وعلى بعد 60 كيلو مترا من القدس لا تزال تزهو المدينة كـ«زهرة حنون» عصية على الذبول والنسيان، لا تزال تحظى بجمال طلتها رغم تراكم سنوات الاحتلال عليها منذ ثمانية وستين عامًا ورغم اجتثاث أيدي مزارعيها من حقول برتقالها، تجدها تبكي حين يُفارقها أحبتها العرب والمسلمين كُرهًا ووهنًا بأمر تهويدي من حكومة الاحتلال.
لكن ما يُعزيها أن من يُبقوا يُصرون على تخليد هويتها وتاريخها حتى وإن عُبّرنت أسماء شوارعها وأحيائها، واحتل اليهود والمستوطنون الأماكن الأثرية والبيوت الفلسطينية فيها، هناك تجدَ كلُ شيء في المدينة بأنفاسهم لا يزال يأبى الذوبان.
إرث الحكاية الذي لا يموت
ولأن الكتابة عن شيء لم تره قط بدت أصعب من غيرها، حاولنا الوصول إلى بعض تفاصيل حكاية المدينة ممن هجروها قسرًا تحت وطأة الحرب وقوة السلاح، قرأوا علينا بلغة الحنين ما رأت عيونهم وعايشوه واقعًا قبل اغتيال المدينة على يد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948.
في حديثها لنا تستعير المُسنة «فاطمة الرمادي» (91 عامًا) بصر القصاص لتروي إرث مدينتها الذي ما وهن في عقلها وذاكرتها حين وهن العظم منها، قالت ودفق الحنين يُغالب قلبها: «كان بيت أبي يتوسط شارع الحلوة على طريق العجمي لكنه ما عاد قائمًا»، في إشارة منها إلى سُبل الاحتلال في السيطرة والاستيلاء على كل ما هو فلسطيني منذ اغتيالهم للمدينة.
تذكر أنها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها أُجبرت على الخروج وأهلها من بيتها والتجمع مع أهل يافا وأهل المدن الفلسطينية الفارة من بطش اليهود في منطقة وسطًا بين جامع يافا الكبير وجامع البحر، هناك تم حصارهم وإغلاق كافة المنافذ عليهم لا يخرجون ولا يدخلون إلا بأمر الحاكم العسكري، بقوا هناك طويلًا حتى سقطت كل المدن الفلسطينية كونهم لا يملكون تكلفة النقل من جهة وكونهم محاصرين في دائرة استهداف الرصاص والقنابل.
ورغم أن السيدة «فاطمة» لم تلبث أن خرجت بعد أربعة أعوام من اغتيال المدينة مُهاجرة إلى غزة مع زوجها إلا أن تفاصيل ما عايشته في يافا ظل منقوشًا في القلب والذاكرة عصيًا على النسيان.
تذكر أسماء الأحياء الرئيسية في يافا ومواقعها من الجنوب حيث حي العجمي إلى البلدة القديمة وانقسامها إلى مناطق القلعة والطابية والنقيب، وصولًا إلى المنشية في شمال يافا، وأرشيد التي تحتل الجهة الجنوبية من حي المنشية، والجبلية وهرميش، واختتامًا بحي النزهة في الشرق من يافا، والذي يُعد أحدث أحيائها، وتُشير إلى وجود بعض السكنات قديمًا تذكر منها «سكنة درويش»، و«سكنة العرابنة»، و«سكنة أبو كبير»، و«سكنة السيل»، و«سكنة تركي».
مشهد الخروج الكئيب
تصمت قليلًا وتعود بذاكرتها إلى الوراء فيتراءى إلى ذهنها مشهد اليهود يُخرجون الفلسطينيين أصحاب البيوت الأصليين عنوًة من بيوتهم ليسكنوها ويُجبروهم على الرحيل، تحكي أن أحد جيرانها ويُدعى «صالح» خرج وقت الحرب إلى حدود مصر على أمل أن يعود بعد أن تهدأ الحرب وينقشع اليهود سريعًا كغيم الصيف لكنه ما عاد.
ثمَّ تبتسم وتقول إن شاطئ بحر يافا كان يمر ببوابات المنازل في حي المنشية، وكأنه يُصافحه، يهوّن عليها ألم الاحتلال، وأن ساعة الساحة وسط المدينة كانت معلمًا تاريخيًا وحضاريًا وما زال شاهدًا على هوية المدينة.
وما تلبث أن تعبس مجددًا لإدراكها أن كل شيء تغير فـ«تل الربيع» المتاخمة لمدينتها وحدود بيوت أجدادها أضحت باسم عبري «تل أبيب»، والمجلس البلدي ليافا ضُم إليها بعد الاحتلال، وحقول البرتقال التي كانت سمة المدينة برائحتها الذكية جفت في حباتها المياه فلا أيدي المزارعين الفلسطينيين عادت لرعايتها ولا المحتلون تركوها لترتوي من آبار المياه، فجففوا المنابع حولها، وبنوا على أشلائها وحداتهم الاستيطانية، ولم يُبقوا من يافا العريقة بتاريخها وثقافتها ومكانتها الطبيعية إلا بضعة أحياء تواجه في كل حين تهويدا وتضييقا عنصريين.
ويؤكد التاريخ الفلسطيني أن حي العجمي في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي دُمر بشكلٍ كبير، وجُمدت فيه أعمال البناء والترميم بأمر الاحتلال، وكان من يُخالف ذلك عليه تحمل غرامة مالية بقيمة 10 آلاف شيكل، تزداد في كل حين إمعانًا في ممارسات القمع التي استمر بها الإسرائيليون لكل ما هو فلسطيني على الأرض، أملاً في إلغاء الوجود، مُستعينين في ذلك بالإرهاب والتخريب والبطش.
إذ قال المؤرخ الفلسطيني «عادل مناع»: «إن اليهود استملكوا وسرقوا كل ما كان من حياة ثقافية واقتصادية لسكان يافا»، وأكد أنه لم يبق في يافا إلا بضعة آلاف تم الزج بهم في الجيتو العربي في يافا بالبلدة القديمة والعجمي، ومن ثم اختفت النخب والطبقة المثقفة، فتاه الرمز والمعني والهدف منه وبقيت رهينة الأسرلة، بل نمت بديلًا عنها «تل أبيب» خاصة بعد استيلاء اليهود على الأراضي والممتلكات وغيرت أسماء أحيائها وشوارعها.
برج الساعة وأرواح الشهداء
هكذا تُشير إليه الكتابات التاريخية، إذ كان قبل زمن الاحتلال الإسرائيلي مُحاط ببيارات البرتقال ويُجاوره سرايا الحكومة والمسجد الكبير، كما اُعتبر مركز المدينة ونُقطة التبادل التجاري ونقل البضائع منذ مطلع القرن العشرين، حيث بناه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وقتها احتفالًا بإنهائه خمسة وعشرين عامًا حاكمًا للسلطنة العثمانية.
تذكر الحاجة «الرمادي» أن اليهود آنذاك نفذوا هجومًا شنيعًا على سرايا الحكومة سقط فيه أكثر من 50 شهيدًا فلسطينياً بالإضافة إلى عشرات الجرحى الذين تلطخت الساحة بدمائهم، وتُشير إلى أن غالبية سكان المنطقة فروا بعد الهجوم ومن بقي كان تحت مرمى القناصين الذين اعتلوا برج الساعة ليرعبوا المواطنين ويضطروهم إلى الخروج والهرب.
ويبدو برج الساعة للناظرين مربع الشكل، مستقيم البناء يتراوح ارتفاعه بين 30-40 متر، موصد ببابٍ حديدي ومُرصع بقبة من النحاس يحتوي على درج يُوصلك إلى أعلى القبة لترى من تحتك يافا ببحرها وسهلها وجنات برتقالها الخضراء، التي كانت تُصدر إلى الدول الغربية مثل برلين ولندن وباريس منذ عام 1865 وحتى اغتال الاحتلال الإسرائيلي المدينة، كما يقول المؤرخ عادل مناع.
أرض البرتقال
في يافا تترامى أطراف بيارات البرتقال فلا يكاد حقل يخلو من شجره المثمر، لكن بعض العائلات كانت محترفة أكثر من غيرها في زراعة بيارات البرتقال ورعايتها لتكون موجهة للتصدير للدول العربية والغربية التي كانت تتصل بيافا عبر الميناء البحري.
أخبرتني الحاجة «الرمادي» أن أبرز تلك العائلات كانت «دمياني» و«حبيب»، وكانت شاهدة على تفاصيل العمل في بياراتهم الغنّاء، تخرج من بيتها في سنوات الطفولة حتى سن الثالثة عشرة إلى مزارعهم في بيت دجن ووداي حنين، تُبصر عملية التغليف والتحضير للنقل تقول: «كانوا يلفون البرتقال بالورق ويصفونه داخل صناديق خشبية تمهيدًا لعملية الشحن بالتراكتور إلى الميناء ومن ثم إلى البلد المستورد»، وتستكمل أنه في عهد الاستعمار الإنجليزي ليافا تم افتتاح شارع فيصل لتمر عبره التراكتورات المُحملة ببرتقال التصدير إلى الميناء.
تتحسر «الرمادي» على بيارات البرتقال التي بدأت تزهو وتكبر في ثلاثينيات القرن الماضي قبل النكبة بعد إدخال الموتورات والترمبات الخاصة بالري بديلًا عن الساقية، إذ أصبحت مساحة البيارة تفوق الـ300 دونم وأحيانًا تصل إلى 500 دونم نتيجة عمليات الري المنتظمة.
صمتت، ثم بللّ عينيها دمعة حنين لم تُفارقها، ثم تمتمت:
مقهى «بسمة» الشاهد على تاريخ المدينة
إذا ما انعطفت إلى الجهة الجنوبية من بلدة يافا القديمة، سيأسرك ريحُ قهوةٍ، سيحكي لك تاريخ المدينة وأصلها بعيدًا عن روايات الكذب الإسرائيلية، هناك ستجد «علياء أبو شميس» وقد أُنهكت في إعداد مقهاها «بسمة» لاستقبال الزائرين وتعريفهم بالهوية الفلسطينية للمدينة.
تجدها تارة تشرح بالعربية أسماء الشوارع التي أضحت بحكم الاحتلال تحمل أسماءً عبرية، وتارة أُخرى تُذهل السامعين من السيُاح الأجانب بمعلومات عن حياة مثقفين بارزين ولدوا في يافا كجورج حبش وصلاح خلف مؤكدة أن يافا الجميلة لطالما كانت عاصمة الثقافة والفكر ومنارة العلم والمعرفة.
وبين هذا وذلك لا تنسى الحديث عن القهوة والحبوب القديمة، وبينما تُضيفها لزبائنها بالأواني الأثرية ترسم بسمة على وجهها فتُعطي البن مذاقًا مختلفًا.
تفعل «علياء» ذلك لأنها تخشى أن تُدثر الهوية الفلسطينية للمدينة، تُصر على أن تروي ما رأته بعيون أجدادها للنشء، فالسيدة أبرز كُتَاب قصص الأطفال في يافا المحتلة منذ ثمانية وستين عامًا، تُريد أن يعرف النشء بدايًة وكل رواد مقهاها عربا أو سياح أجانب أو يهودا أن شارع الحلوة فلسطيني الأصل، وأن التسمية العبرية له «بيفت» ابتداعٌ أراد به الاحتلال طمس الهوية العربية للمدينة التاريخية.