الجسد الفلسطيني بعيدًا عن الدمار: ثلاثة مشاهد سينمائية
السينما الفلسطينية افتراضيًّا هي سينما ضد استعمارية، سينما تعمل على المحك طيلة الوقت، كما أنها سينما شتات تُصنَع في أوقات كثيرة من الخارج عن الداخل.
لا يتسع الكثير من المساحة للأفلام وصناع الأفلام الفلسطينيين لرواية حكايات عادية، أو لا سياسية، كل شيء سياسي، حتى البحر ومياه الأمطار، لكن في تلك الفترة المظلمة من تاريخ فلسطين والعالم، أصبح الوجود والجسد الفلسطيني مرتبطًا بالمعاناة والدمار، كما أن العالم الغربي بشكل خاص يطبع الموت العربي وغير الأبيض، الرجل أو المرأة أو الطفل الملون حياته ليست ذات قيمة كاملة وخلق لكي يقتل ذلك جزءًا من وجوده داخل العالم، ذلك التطبيع مع الموت والدمار جعل كلمة فلسطيني تستدعي في الذاكرة شهيدًا أو قصفًا أو فقدًا، وهو ما يزال حادثًا حتى تلك اللحظة، بدعم غير مشروط لإسرائيل من قوى العالم العظمى.
عندما يأتي الأمر للتعبير الفني والسينمائي عن الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال، فإن هناك الكثير من الأفلام المقاومة والأفلام التسجيلية التي توثق جرائم الاحتلال، والأفلام الروائية التي تحكي قصصًا تبدو عادية عن أسر وأحباء ونساء ورجال وأطفال، لكنها دائمًا تحت حصار حاضر بقوة في كل مشهد يؤطر الحياة والتحركات اليومية، لكي يقوم فرد ما بالتمشية وسط التلال يتحول فعله لتحدٍّ كبير لقوة لا ترحم أحدًا.
عندما يقرر أحدهم الذهاب للصيد فإنه يجازف بحياته، لكنه من المفيد التذكر وربط الاسم والجسد والوجود الفلسطيني بالحياة نفسها، وبالأرض التي يسكنونها وسكنوها طيلة أعمارهم وأجيال عائلاتهم، ترتبط فلسطين بالزعتر وزيت الزيتون والبرتقال والبحار الزرقاء والبتلات المخضرة المزهرة، بالمعمار القديم والتاريخ الديني المسيحي واليهودي والإسلامي.
في الشهور القليلة الماضية، وفي خضم أحداث تقع على مرأى من العالم كله، نشر بعض الجنود من جيش الاحتلال الاسرائيلي أمنياتهم بأن تتحول غزة إلى منتجع ساحلي جديد خاص بالإسرائيليين، بعد أن ينتهوا بالطبع من تهجير وإبادة السكان الأصليين الذين يعكر وجودهم صفو الحياة الإسرائيلية، لا يخفي الجيش الإسرائيلي وبعض المستوطنين رغباتهم ونواياههم فيما يخص الهجوم الحالي والكثير قبله، رغبة في الاستيلاء على الأرض والبحر وحتى الجو، ذلك الهوس بجغرافيا الأرض المحتلة، أرض فلسطين وطبيعتها الساحلية أو الزراعية ليس بجديد، منذ 1967 يُفرَض حظر تجول يومي على الفلسطينيين ويمنعون من زيارة البحر أو السباحة أو الصيد به ليلًا، أعوام بعد ذلك في 2011 على سبيل المثال تم قطع سبل الوصول للبحر للفلسطينيين بغزة، تكرر ذلك في 2020، في 2008 مُنع الفلسطينيين من الوصول لشواطئ البحر الميت في الضفة الغربية.
في 2011 نشرت الأمم المتحدة اختراقًا حقوقيًّا لإسرائيل في حق الفلسطينيين بمنعهم من جمع مياه المطر، باعتبار مياه الأمطار «ملكية إسرائيلية»، لا يقتصر الاستعمار الجغرافي على بناء المستوطنات على الأرض وتجريف الأراضي الزراعية وتغيير المعالم التاريخية والأثرية، بل يمتد كذلك لتجريم جمع بعض الأعشاب والنباتات.
تمنع الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين من حصد الأعشاب والنباتات المشاركة في صناعة وصفات شعبية مثل الزعتر. في عام 2021 أوقفت السلطات الإسرائيلية خمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثانية عشرة بينما كانوا يقطفون النباتات، يمكن الانطلاق من مفهوم الاستعمار الطبيعي والبيئي لتأمل مشاهد بسيطة من أفلام فلسطينية تصور علاقة أصحاب الأرض بأرضهم، في أجواء شعرية بعيدة عن المعاناة اليومية، يمكن اقتطاع تلك المشاهد خارج سياقها، والنظر إليها في معزل عن الاحتلال والاستعمار الذي يطول إلى مستويات تكاد تكون خيالية في التحكم.
يوسف وعايدة والبحر
في عام 1994 صور المخرج الشهير ميشيل خليفي الفيلم الروائي الأول في قطاع غزة، حيث كانت غزة لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، حكاية الجواهر الثلاثة يحكي قصة أسرة تعيش في مخيمات لاجئي القطاع، الأب معتقل منذ سنوات، تظهر الأم باسمة جميلة، تحذر ابنها يوسف الذي لم يصل لعمر المراهقة بعد من الاحتكاك بعناصر المقاومة ومن الاحتكاك بعناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يوسف يحب الطيور ويذهب لمطارداتها، ويحب البحر ويمضي النهار بقربه، تروي والدته أنها وزوجها اعتادا الذهاب للبحر حتى ساعات متأخرة من الليل، لكن بعد فرض حظر التجوال ومنع الفلسطينيين من الذهاب ناحية الشاطئ إلا في ساعات محددة، نسيت هي وزوجها أن البحر موجود من الأساس، لا يزال يوسف طفلًا، يختبر الكثير من الأشياء للمرة الأولى، ويتعامل مع الحياة تحت الاحتلال كلعبة مطاردة، من الأشياء التي يختبرها للمرة الأولى هي الوقوع في الحب، حب عايدة الفتاة الغجرية ذات الشعر الطويل والروح المرحة.
نرى يوسف وعايدة معًا يركضان على الشاطئ بمحاذاة البحر، غير عابئين بالجيش أو الانتفاضة التي على وشك الحدوث، يتسابقان معتبرين العمدان الخشبية والشباك المنصوبة هي عوائق يتم تخطيها بمرح، عندما يواجهان البحر مباشرة يبدوان كأنهما الوحيدين في العالم دون شبح محلق ينذر بالموت.
يمضي يوسف وعايدة أوقاتهما على البحر في نقاش حكاية جدة عايدة عن الجواهر الثلاثة، وهي مجموعة أحجار تنقص من عقد مرصع، فقدت في مكان ما في أمريكا الجنوبية، ومن يجدها فسوف يتزوج عايدة كأميرة خيالية في قصة هروبية للأطفال.
يعزم يوسف على السفر، الهرب خارج البلاد، في خطة معقدة تتضمن الاختباء في قفص من البرتقال متوهج اللون، لا ينأى الفيلم عن مواجهة العنف، وقتل أحلام الحكايات الخرافية، لكنه لعدة دقائق ينفصل عن ذلك، في يوميات هادئة يمكن تخيل يوسف وعايدة على البحر دون حواجز ودون حظر تجوال.
عزيزة وعادل على التلال
في عام 1977 أعلنت الحكومة الإسرائيلية نبات الزعتر البري كفصيلة محمية، وضعت على من يحصده من الفلسطينيين غرامة مالية وعقوبة بالسجن، وبعد حوالي ثلاثة عقود وفي عام 2005 وضع نبات العكوب في قائمة الممنوعات، حيث مُنع العرب من قطفه وحصاده وعوقب من يمسك مقترفًا تلك الجريمة بالغرامة والحبس، استنادًا لتلك الحقائق صنعت الفنانة البصرية والمخرجة الفلسطينية الأمريكية جمانا مناع فيلمها اليد الخضراء Foragers عام 2022 بعد تأجيل في التصوير سببه فيروس كوفيد 19.
اليد الخضراء، أو حاصدون، هو فيلم عن الأرض والفصل العنصري، عن السكان الأصليين العالمين بطبيعة أرضهم والغرباء الزائرين الذين يقتلون تلك الطبيعة، فيلم مناع هو مزيج بين التوثيقي والروائي، تستخدم فيه حس فكاهة ساخر من السلطة الإسرائيلية، لكنه في الوقت نفسه مبني على أحداث حقيقية بشكل كامل، تحقق شرطة حماية الطبيعة مع رجل مسن بتهمة حيازته حقيبة بلاستيكية مليئة بنبات العكوب، يحدث التحقيق بصيغة جدية تمامًا وكأن الشرطة أمسكت به يسرق ممتلكات خاصة أو يتعدى على منزل غيره.
تعيش مناع في الولايات المتحدة، لكنها عادت لفلسطين خاصة تل شفعاط مع والديها لتصوير الفيلم، وحتم عليها الحجر الصحي البقاء لفترة أطول قضتها في استكشاف الوديان والنباتات البرية، التي ترى أن قطفها وحصدها واستخدامها في الطبخ هو فعل مقاومة، في فيلمها يظهر والداها عزيزة وعادل، زوج متقدم في العمر، عزيزة ذات شعر فضي جميل ويدين مجعدتين تتخللان الأعشاب والنباتات البرية، في مشهد صامت وطويل من اليد الخضراء يتمشى كل من عادل وعزيزة على تل مخضر، غير مرئيين يحصدان العكوب في حقائب بلاستيكية ويلمسان الخضرة التي انتمت لهم ولأجدادهم لأعوام وأعوام.
تمر تلك اللحظات المنفصلة عن السياق الأوسع كجنة مفقودة فيها يمكن للمواطنين جوب الوديان والتلال وممارسة النشاطات التي تعتبر عادية في منطقة أخرى في العالم كله، في ذلك المشهد يصعب تحديد المكان أو زمان الحدث، يوجد فقط أصابع تمر على الزرع وأفق أخضر لا تظهر به المستوطنات الإسمنتية أو شرطة حماية الطبيعة أو جنود جيش الاحتلال.
إيليا سليمان ونجاة
يلقب النقاد والمهتمون بالسينما إيليا سليمان المخرج الفلسطيني الذي خرج من السياق المحلي إلى العالمي بألقاب عدة، كلها تتضمن مقاربات بنجوم هوليووديين من أساطير السينما الصامتة، فالبعض يشبهه بباستر كيتون، والبعض بجاك تاتي، لسليمان أسلوب لا تخطئه العين، أسلوب يترفع عن الانغماس في المأساة ويختبئ وراء سخرية وكوميديا سريالية تحيل العدو المرعب الغاشم إلى مجموعة من الحمقى الذي لا يعرفون ما يفعلون، يظهر ذلك في أفلامه كلها، لكنه جلي في فيلمه الأشهر والأكثر ملحمية الزمن الباقي 2009، لا يقع الفيلم في الحاضر، لكنه يغطي مساحة زمنية تبدأ من عام 1948، أي النكبة حتى لحظة الحاضر عام 2009 أو ما يقاربها، الزمن الباقي هو فيلم يدمج العام بالخاص، والشخصي بالسياسي، الشخصية الرئيسية فؤاد (صالح بكري) هو نسخة روائية من والد سليمان نفسه، كما أنه كعادته يظهر بشخصه أي إيليا سليمان، رجلًا صامتًا يمارس كوميديا غرائبية في مواقف ليست كوميدية بالمرة، ورغمًا عنه تنسل التراجيديا.
بعد مرور معظم أحداث الفيلم ملمة بمواضع تاريخية بارزة مثل النكبة والنكسة ووفاة جمال عبد الناصر، واللجوء إلى الأردن، يصل الفيلم إلى حاضر تحت احتلال مستقر، يقف سليمان في شرفة منزله حيث تجلس والدته التي تظهر عليها علامات التقدم في السن، وربما الإصابة بآل زايمر والخلل في تذكر الأشخاص والأحداث.
تطل الشرفة على منظر فسيح يضم تلالًا مخضرة ومباني سكنية، وفي الأفق مستوطنات إسرائيلية، لكن على بعد يبدو منظرًا جميلًا، بل مثيرًا للحسد، فهو بيت مرتفع يطل على مساحة كبيرة ومتنوعة من الطبيعة وفسحة السماء، ينظر إيليا إلى والدته التي تبدو مشتتة الانتباه.
يدخل إلى الغرفة ويخرج إلى الشرفة مجددًا ممسكًا بسماعات ستيريو كبيرة ومشغل موسيقى، يضغط على زر فتصدح موسيقى هاني شنودة، ثم صوت نجاة مغنيًا أنا بعشق البحر، يقف إيليا صامتًا دامعًا قليلًا مراقبًا والدته التي تبدأ بالنقر بقدمها على الأرض متجاوبة مع الموسيقى ومتأملة المنظر أمامها، يستمر المشهد لمدة طويلة تغطي مساحة من الأغنية وتخرج الكاميرا من خلال الغرفة لتصور الشرفة والسيدة في إطار يجمعها بالمدينة أمامها، في لوحة مؤطرة بالحزن على الضائع والرومانسية المبطنة تجاه المكان وساكنيه، في أمل أن يكون ذلك المنظر محررًا من أي سياق آخر غير امرأة تطل من شرفة منزلها ونجاة تغني أنها تعشق البحر.