فلسطين تحت حكم المسلمين: حذر مسيحي وترحيب يهودي وانتعاش اقتصادي
احتلت فلسطين مرتبة متميزة بين الدول التي فتحها المسلمون، لذا أولوا عناية خاصة بأهلها، فاستقرت أحوالهم بعد قرون من الحروب التي مروا بها بين الإمبراطورية البيزنطية وبلاد فارس، وكذلك بعد فترات من الاضطرابات الدينية التي ألقت بظلالها على مجريات الحياة.
كبقية بلاد الشام قبل الفتح العربي الإسلامي، كانت فلسطين تقع تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية، وكانت في صلب الأحداث التي نجمت عن الحروب الانتقامية التي شنها الإمبراطور البيزنطي هيراكليوس (هرقل) على فارس، رداً على الهجوم الذي قام به كسرى الثاني (590-628م) على ممتلكات بيزنطة في الأناضول، ثم احتلاله لأنطاكيا ودمشق وبيت المقدس، والتي تركها نهباً للحرائق ودمر فيها كنيسة القيامة وسواها من بيوت العبادة، وأعمل السيف في أهلها، كما حمل معه الصليب المقدس وعاد به إلى عاصمته، وذلك في العام 614م، حسب ما ذكره الدكتور نبيه عاقل، في دراسته «فلسطين من الفتح العربي الإسلامي إلى أواسط القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي».
واستطاع هيراكليوس بعد سنوات طويلة من الاستعداد أن يرد الضربة لفارس، ويسترد ما فقده من أرض، ومن جملتها فلسطين، وأن يعقد مع فارس معاهدة صلح، وأعاد نصب خشبة الصليب المقدس، وعاد إلى القسطنطينية يرفع رايات النصر.
فلسطين قبل الفتح الإسلامي
خلال الحكم الفارسي لبلاد الشام، والذي دام ما يقرب من الاثني عشرة سنة، فقدت بيزنطة كثيراً من نفوذها وهيبتها، وضعف ولاء أهل الشام وقبائلها للإمبراطور البيزنطي، خاصة في المناطق الجنوبية (فلسطين)، لاسيما أن المساعدة المالية التي كانت تدفعها بيزنطة لهذه القبائل مقابل حراسة الحدود الجنوبية والشرقية قد أُوقفها هيراكليوس، وأن الحصون والمواقع الدفاعية التي كانت تمتد على هذه الحدود قد أُهملت وأُفرغت من الحاميات التي كانت تقيم فيها لاستخدامها في الحرب ضد فارس، ذكر عاقل.
أما الوضع الاقتصادي فكان في تدهور مستمر بسبب الحروب الطويلة التي خاضتها الإمبراطورية ضد أعدائها الكُثر، وعلى رأسها فارس، ما أدى إلى فراغ الخزينة من جهة، وتعسف الدولة في جباية الضرائب من جهة أخرى، بل وفرض ضرائب جديدة، وانعكست آثار ذلك على فلسطين، فتعطلت الزراعة وخربت المدن وكثر السلب والنهب.
ولم تكن الحال أفضل في المجال الديني، إذ إن الانشقاق في الكنيسة الذي حدث في منتصف القرن الخامس الميلادي أدى إلى تصدع وحدة المجتمع الروحية، ونجم عن الصراع الديني في هذه الفترة ظهور تيارين دينيين كبيرين، الأول تتبناه القسطنطينية وتعتبره مذهب الإمبراطورية الرسمي، وهو المذهب الأرثوذكسي، والثاني تيار ديني شرقي يتمثل في كنيسة شرقية تتبنى القول بالطبيعة الواحدة للمسيح، وهو المذهب الذي يُعرف أتباعه بـ«اليعاقبة». وبحسب عاقل، كان مسيحيو فلسطين يتبعون مذهب الطبيعة الواحدة الذي كانت تعتبره القسطنطينية هرطقة دينية.
ويضاف إلى ذلك الخلاف الذي كان قائماً بين من يتبعون النصرانية من سكان فلسطين من ناحية، والقلة من سكانها الذين كانوا يهوداً أو سامرة أو سواهم من الذين ظلوا على الوثنية.
ويذكر عاقل، أن هذا التفكك في المجال الروحي أدى إلى تعميق الهوة بين السلطة البيزنطية وبين سكان فلسطين عامة، سواء من كان منهم على النصرانية أو سواها.
ترحيب اليهود بالفتح الإسلامي
تذكر المصادر أن أبا بكر الصديق بعد أن انتهى من حروب الردة، وجّه جيوشه لفتح بلاد الشام، وعقد أربعة ألوية لهذا الغرض، منه لواء لعمرو بن العاص وجهه إلى فلسطين، وكان ذلك في مطلع العام 13هـ/ 634هـ، أو في شهر رجب من العام 12هـ/ 633م على حد زعم روايات أخرى، وخضعت مدن فلسطين كلها لحصار المسلمين أولًا، واضطرت بعد ذلك إلى الاستسلام وطلب الصلح.
ورغم الحصار الطويل الذي خضعت له مدينة القدس (إيليا)، فإنها رفضت أن تصالح إلا إذا كان متولي عقد الصلح هو الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، وذلك بسبب مكانة المدينة المتميزة لمركزها الديني المهم، الأمر الذي جعل أهلها يحرصون على ضمانه بعقد يتولاه الخليفة.
والغريب، أن اليهود وجدوا في الفتح الإسلامي للمدن الشامية التي كانوا يعيشون فيها كأقليات متنفساً لهم، فأيدوا الفتح ليتخلصوا من اضطهاد الغالبية النصرانية التي تؤيدها وتعتمدها السلطة البيزنطية الحاكمة، بحسب عاقل.
ووضح عداء النصارى للأقليات اليهودية التي كانت تعيش بينهم في شروط الصلح الذي عقده عمر بن الخطاب لأهل إيلياء النصارى، الذين طلبوا من عمر ألا يسكن مدينتهم أحد من اليهود، ووافق عمر، ونص في معاهدة الصلح معهم على «ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود».
وتولى ولاية فلسطين في البداية عمرو بن العاص، ثم عبدالرحمن بن علقمة الكناني، فلما مات ضم عمر عمله إلى معاوية بن أبي سفيان الذي كان واليا على الشام، ثم ما لبث أن عين على فلسطين علقمة بن مجزّز، وظل الحال كذلك حتى العام 25هـ/ 645م، حين ضم الخليفة عثمان بن عفان فلسطين مرة أخرى إلى معاوية، حيث ظل والياً عليها إلى أن آلت الخلافة إليه، وقد استطاع بسياسته أن يستميل أهل الشام، وأن يجعل منهم خاصته وبطانته، فأخلصوا له وكانوا سنده في الملمات.
ونعمت فلسطين في ظل حكم الخلفاء الراشدين بفترة من الاستقرار لم تعرفها حينما كانت ساحة للصراع بين فارس وبيزنطة، غير أن هذا الاستقرار والأمن كانت تعكرهما في بعض الأحيان الصراعات الداخلية على السلطة التي كانت تقوم في عاصمة الخلافة وتنتقل أصداؤها إلى الأمصار.
وبعد انتهاء فترة الحكم الراشدي، بدأت فلسطين مرحلة جديدة من مراحل حياتها حين أعلن معاوية بن سفيان نفسه خليفة، مؤسساً بذلك حكم الأسرة الأموية الذي دام ما يقارب تسعين عاماً، وقد استهل معاوية عهده بالذهاب إلى بيت المقدس حيث أعلن خلافته من هناك في العام 40 أو 41هـ/ 661م، ثم بايعه الناس في ما بعد.
انتشار الإسلام بين الفلسطينيين
ويذكر الدكتور سليمان علي البدور، في كتابه «فلسطين في العهد الأموي. الحياة الاقتصادية والمظاهر الاجتماعية»، أن انتشار الإسلام في فلسطين كان سريعاً خلال العهدين الراشدي والأموي، فقد بذل الفاتحون جهوداً كبيرة في الدعوة إلى الإسلام، إذ كان مناديهم ينادي في أحياء المدن المفتوحة «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم»، لإقناعهم بأن الدين الإسلامي لا ينكر وجود الديانات السماوية السابقة ويعترف برسل الله السابقين وكتبه. ويشير محمد بن عبدالله الأزدي في كتابه «فتوح الشام»، إلى أن نصارى عرب الشام، ومنها فلسطين، كانوا يقولون «يا معشر المسلمين: أنتم أحب إلينا من الروم».
غير أن أسبابا عديدة ساعدت على انتشار الإسلام في فلسطين، أهمها الخلافات التي كانت ناشبة بين أجنحة المسيحية المتعددة، وقد حاول هرقل عبثاً أن يوفق بينها فلم يوفق، بل هوُجم ووصل الأمر لوصمه بالإلحاد.
ومن الأسباب أيضاً تأصل العروبة في هذه البلاد، فالقبائل العربية لم تكن غريبة عنها وكانت مستقرة قبل الإسلام، وقد رحبوا بأبناء جلدتهم العرب في بداية الفتح رغم اختلاف الدين، وفضلوهم على الروم، حسب ما نقل البدور عن الأزدي في كتابه المذكور.
ويذكر توماس أرنولد، في كتابه «الدعوة إلى الإسلام»، أن السواد الأعظم من النصارى الأرثوذكس استقبلوا الفاتحين ورحبوا بهم، وكانوا ينظرون للإمبراطورية الرومانية نظرة كراهية، باعتبارها خارجة عن الدين، ولم يكن غريباً عن البلاد إلا الروم، وكانوا قلة حاكمة أمّن المسلمون الخروج لمن شاء منهم وسمحوا لمن شاء أن يبقى، وكانت سياسة التسامح التي أبداها المسلمون سبباً رئيساً لإقبال الناس على الإسلام.
توافد العرب إلى فلسطين بعد الفتح
الملاحظ أن السياسة الأموية درجت منذ تسلمها شؤون الحكم في الدولة الإسلامية الناشئة إلى إسكان العرب في المناطق المفتوحة، بهدف إصلاح الأرض واستغلالها. ويذكر البدور، أن معاوية أقطع القبائل العربية الأراضي النائية التي لاحق لأحد بها بهدف استصلاحها، فهاجرت قبائل عربية كثيرة إلى فلسطين من أجل الاستقرار والزرع.
كما حرص الخلفاء على إحلال الجند والمرابطة في مناطق السواحل، خصوصاً في الأماكن التي كان يهجرها أهلها، فقد كاد الساحل يخلو من سكانه خصوصاً أثناء الفتوح، بعدما هرب بعضهم من فلسطين إلى مصر، ثم نزل المقاتلة في بلاد الشام واستقروا في المدن المهمة، مثل طبرية وبيسان والقدس والرملة وغيرها على الساحل، فانتقلت أملاك النازحين وبيوتهم إلى الفاتحين، وهكذا تكاثر العرب في فلسطين بعد الفتح خصوصاً الأمويون وأعوانهم.
النصارى واليهود في فلسطين
خلال العصر الأموي، تمتع النصارى واليهود بحدود معقولة من الحرية، ولم تشر روايات إلى وجود حالات قمع أو ظلم ضدهم، وقد أورد ابن عساكر في كتابه «تاريخ دمشق» حادثة تؤكد ذلك، وهي أن سليمان بن عبدالملك، والذي كان والياً على فلسطين في عهد والده عبدالملك بن مروان، أشهد عبدالرحمن بن عبدالملك في حق قضاه لراهب في نهر يزيد، مما يدل على أن قواعد العدل والمساواة أمام القضاء كانت مفروضة على الجميع.
وكثير من اليهود والنصارى كانوا من كبار التجار، ومنهم الأطباء والصيارفة، وبعضهم تسلم مناصب إدارية مهمة، خصوصاً قبل عملية التعريب، فقد كان سرجون بن منصور الرومي على الديوان منذ أيام معاوية حتى عبدالملك بن مروان، وتم طرده من منصبه لأسباب متعلقة بأدائه وليس لانتمائه الديني أو العرقي، ذكر البدور.
وفي الحقيقة، فإن بعض أهل الذمة في تلك الفترة تميزوا عن العرب بخبرتهم في العلوم الحياتية كالرياضيات والطب والهندسة، والدليل على ذلك أن سليمان بن عبدالملك أسند النفقة على بناء مدينة الرملة ومسجدها إلى كاتب نصراني من أهل اللُد يدعى البطريق بن النكا.
وكأي فئة اجتماعية تضم أكثر من مستوى، كان بعض اليهود والنصارى في فلسطين يقومون أيضاً بأعمال النظافة العامة، ومنهم من كان يعمل في كناسة سطوح المسجد الأقصى وقبة الصخرة وأفنيتها الخارجية والقنوات المؤدية إليهما.
سُكنى المدن الفلسطينية
يذكر أحمد موسى عبدالغفار، في دراسته «الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في فلسطين في العهد الأموي 40-132هـ/ 661-750م»، أن المدن الكبرى في فلسطين، مثل الرملة وقيسارية والقدس وغيرها، كان يسكنها خليط من الأجناس، فقد كانت قيسارية قبل الفتح عاصمة فلسطين في عهد البيزنطيين، وبعد الفتح كان يسكنها العرب واليهود والسامرة ومرتزقة من مختلف الأجناس، أما مدينة الرملة التي أصبحت عاصمة فلسطين بعد إنشائها بعد الفتح فسكنها أخلاط من العرب والأجناس الأخرى، وفيهم المسيحيون والسامريون وغيرهم.
ورغم هذا الاختلاط، كانت هناك مدن مفضلة لدى بعض الأجناس أكثر من غيرها، وتفردت فيها بعض الأجناس أحياناً، فمثلاً عند الفتح الإسلامي تجمع النصارى في المدن الكبيرة مثل بيت المقدس وقيسارية ولُد، كما سكنت أعداد كبيرة منهم في بيت لحم وطبرية وفحل وبصرى وأيلة والناصرة، وكانت لهم في هذه المدن عوامل ظاهرة تدعو لتجمعهم. وبعد نهاية معارك الفتح كانت أعداد كبيرة من جند الروم المسيحيين الذين جمعهم هرقل لقتال المسلمين قد تفرقوا وأقاموا في مختلف مدن فلسطين.
وبخلاف من أقام من اليهود في المدن الكبرى مثل قيسارية، فقد تجمعت أعداد منهم في بعض المدن التي عُرفت بهم منذ الجاهلية، ومنها مقتا على ساحل البحر بالقرب من مدينة أيلة، ومنها الجربا وأذرح في جبال الشراة، أما مدينة نابلس فكانت مخصصة للسامريين.
اعتماد الأمويين على القبائل العربية
أما البادية فكان بها منازل القبائل العربية التي نزحت إلى فلسطين من الجزيرة العربية قبل الفتح الإسلامي، وظلت في أماكنها حتى العهد الأموي ولحقت بها مجموعات هاجرت في حروب الفتح وبعدها، ذكر عبدالغفار.
وانقسمت القبائل العربية في فلسطين إلى القسمين اللذين عُرف بهما العرب في تاريخهم، وهما اليمانية في جنوب الجزيرة العربية، والقيسية وهم عرب الشمال، وكان اليمانية أسبق من القيسية في هجرتهم إلى فلسطين والشام، واحتلوا مكانة في نفوس الحكام، وتعاونوا معهم، واحتكوا بالأحداث التي مرت بالبلاد في الجاهلية والإسلام.
وكان بنو كلب من القبائل اليمانية التي طالت إقامتها في الشام واحتكت بالروم وخالطتهم وتدربت على القتال وتفوقت على القبائل الأخرى، لذا اعتمد عليهم معاوية لتوطيد أركان دولته، وتألف منهم غالبية جيشه، مما جعل قيس تضمر الحقد، رغم أن معاوية اهتم بزعيمها الضحاك بن قيس وجعله من المقربين إليه، وسار يزيد بن معاوية على طريقة أبيه في الاهتمام باليمانية.
وبعد موت يزيد بن معاوية حدثت أزمة في الخلافة الأموية، وظهر عبدالله بن الزبير في الحجاز وأعلن خلافته على أمل أن يقضي على البيت الأموي، وظلت قبيلة كلب على ولائها لبني أمية تساندهم، وعلى رأسها حسان بن مالك بن بجدل الكلبي، أما قيس فمالت إلى ابن الزبير بزعامة الضحاك بن قيس، وهكذا انقسمت القبائل العربية في فلسطين إلى فريقين، والتقى الفريقان في سهل بالقرب من دمشق اسمه مرج راهط، وانتصر اليمانية وقتلوا خلقاً كثيراً من القيسية، وقُتل الضحاك بن قيس، وفر من بقي من أصحابه، ليحتفظ بذلك اليمانية بمكانتهم لدى الخلافة، حسب ما ذكر عبدالغفار.
ثورات «جذام»
أما قبيلة جذام اليمانية فكانت أهم قبائل فلسطين، ولم تخضع للأمويين كل الخضوع مثل قبيلة كلب، بل كانت ثائرة عليهم طوال عهدهم، ومع ذلك استطاعت أن تنجو من بطشهم، وكان ناتل بن قيس الجذامي يقود ثوراتهم ضد الأمويين منذ عهد معاوية، ثم انضموا إلى جانب ابن الزبير لما أعلن خلافته في الحجاز، واستمر ثائراً بعد هزيمة القيسية في مرج راهط ونهاية مساندتهم لابن الزبير.
واستطاعت قبيلة جذام أن تحتفظ بمكانتها لدى بني أمية رغم ثورات ناتل بن قيس عليهم، وذلك بفضل جهود زعيم آخر لقبيلة جذام، هو روح بن زنباع الجذامي، والذي وقف إلى جانب بني أمية في أزمة الخلافة، وساند مروان بن الحكم بصفة خاصة وساعده في الانفراد بالحكم، فضمن بذلك رضاء الفرع المرواني في البيت الأموي عن شخصه وعن قبيلة جذام التي ظلت جذام خاضعة حتى عهد هشام بن عبدالملك الذي كان آخر خلفاء بني أمية الأقوياء.
وبعد موت هشام وضعف الخلافة الأموية، أعلن الجذاميون ثورتهم وتمردوا عليها حتى نهاية العهد، وكانت ثوراتهم تتفق مع ثورات أهل الحجاز من حيث القصد وهو إزعاج بني أمية، وكانت من بين العوامل الأساسية التي تسببت في إضعاف الدولة وسقوطها، لأن فلسطين كانت من أهم البلاد لبني أمية من النواحي الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
الأوضاع الاقتصادية
في العصر الأموي، شهدت الأوضاع الاقتصادية في فلسطين طفرة كبيرة. ويذكر عبد الغفار، أن الزراعة كانت من أهم مصادر الدخل العام والخاص، لذا أولتها الدولة عناية خاصة وحرصت على زيادة الإنتاج بشتى الوسائل، ومنها إبقاء الأرض الزراعية عند مُلاكها الأصليين الذين امتلكوها قبل الفتح الإسلامي، ولم تحولها إلى المسلمين الفاتحين، فقد كان أصحاب الأرض أعرف بأساليب الزراعة المتوارثة أكثر من غيرهم وأقدر على المحافظة على الإنتاج وزيادته.
ومن العوامل التي ساعدت على زيادة الإنتاج الزراعي أيضاً التغيير الذي طرأ على ملكية الأرض منذ الفتح الإسلامي من الوجهة القانونية، حين صارت الأرض ملكيات خاصة لمن عليها، وأصبح لهم حق التصرف فيها كما شاؤوا، وفُرضت عليهم ضرائب معلومة، بعدما كانت في العهد البيزنطي ملكاً للإمبراطور ومعظم الضرائب كانت تُجبى لصالح بيزنطة.
وهيأت وفرة المال لدى الخلفاء والأثرياء لهم أن يرتقوا بمستوى الصناعة في الإقليم إلى درجة عالية من الإتقان، واعتمدت الصناعة في فلسطين أساساً على المنتجات الزراعية، ومنها زيت الزيتون والصابون والجبن والدقيق، وكذلك الأصباغ التي كانت تُستخرج من النباتات المختلفة وتُستعمل في صناعة الملابس.
أما معظم تجارة فلسطين مع البلاد فكانت في ناحيتين، هما الجنوب مع الحجاز واليمن وأفريقيا، والشرق مع فارس والهند والصين. وبحسب عبد الغفار، كان لعرب الحجاز دور قديم في تجارة فلسطين وحافظوا عليه بعد ذلك، وقام بذلك الدور قبيلة جذام في العهد الأموي، إذ لم يلقوا مشقة في مهمتهم التجارية نسبة لاستتباب الأمن بين أنحاء فلسطين والحجاز ومصر.
أما من ناحية الشرق، فقد اتصلت أرض فارس بفلسطين والبحر المتوسط، وزالت الفوارق بين إقليم فلسطين والعراق، وظهر فيها نظام اقتصادي موحد، وزالت الحواجز الجمركية التي وضعها البيزنطيون في عهدهم، وباستتباب الأمن في المنطقة ازدهرت التجارة وأفادت منها فلسطين التي كانت تمثل قاعدة الخلافة الأموية، والتي ورثت كثيراً من أسباب الثراء التي كانت قد تهيأت لدولة فارس.
ورغم دخول فلسطين في منافسة تجارية وعداء مع بيزنطة، فإن التجارة استمرت بين الجانبين، لكن وُضعت رسوم جمركية على السلع التي تصل إلى كل جانب من الجانب الآخر.
ومما ساعد على استمرار التجارة بين الأمويين والروم، هو أن الدينار الذهبي البيزنطي ظل حتى العهد الأموي العملة السائدة المتداولة كما كان في الجاهلية، بل كان وحده العملة التي يمكن الحصول بها على السلع من الهند والشرق الأقصى، وكان على الروم تصدير الدينار الذهبي إلى الدولة الأموية وإلى فلسطين لكي يحصلوا على ما يحتاجونه من بضائع شرقية.
ومع مرور الوقت، أدت حدة المنافسة السياسية بين الجانبين إلى هبوط في التجارة وإلى قلة العملة الذهبية البيزنطية في فلسطين، مما دعا عبدالملك بن مروان إلى إصدار العملة الذهبية الإسلامية، والتي انتشر التعامل بها وسادت في الأسواق وحلت محل الدينار البيزنطي، لأن الدولة دفعت بها العطاء والديون وأجور خدماتها، وكانت عملة جيدة، وانعكس ذلك على إنعاش اقتصادي في الإقليم.