كيف أصبحت فلسطين حلم أمريكا اللاتينية الملهم؟
في الرابع من نوفمبر عام 2008 لم تكن واشنطن وحدها من اهتزت، بل العالم كله؛ رجلٌ من أصحاب البشرة السمراء من أصول غير أمريكية وصل إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التجلي الأكبر والأعظم للديمقراطية الأمريكية كما رأى كثيرون يومها. كان لدى هوليوود كثير لتخبرنا عنه بشأن تلك القصة، وكذلك كانت المحطات الأمريكية والخبراء السياسون، لكن قارة أخرى دار في أروقتها على مدار عقود طويلة أضعاف ما حدث في الكابيتول الأمريكي ولم يسمع أحد بها تقريباً.
فعلى مدار عقود طويلة كانت قارة أمريكا اللاتينية بمعظم بلدانها تقريباً ملجأً مفتوحاً لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذي خرجوا من بلادهم هرباً من سطوة الاحتلال، ولم تكن بلاد اللاتين مجرد مكان يعيش فيه المهاجر الفلسطيني وحسب، بل كانت أرضاً يتطور فيها ويحصل على حقه، بل ويُنشئ فرقاً لكرة القدم تحمل اسم بلاده التي اشتاق إليها وبعد سنوات طوال يصل أبناؤه إلى قصر الرئاسة.
قصة قديمة
بدأ الأمر في عام 1870 وقبل أن يكون هناك أزمة تتعلق بالاحتلال، وصلت أول مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين إلى أمريكا اللاتينية، جاءوا من مدن عدة كبيت لحم ورام الله وغيرهما، وبدأوا الترحال إلى بعض المناطق النائية في عدة بلدان لاتينية، حتى تكون ما يشبه التجمعات الفلسطينية في عدة مناطق، واعتمدوا بشكل كبير على الزراعة كوسيلة للعيش وللتجارة أيضاً والتي كانت مشكلتها الطرق الطويلة بين المناطق التي يعيشون فيها وبين المدن المستهلكة.
استمرت تلك التجمعات في الزيادة وبحلول عام 1905 صار الفلسطينيون هم الأقلية الثانية في أمريكا اللاتينية بعد الإيطاليين، لكن تلك الزيادة لم تكن متوقفة على أنشطة اقتصادية وغيرها، بل امتدت فيما بعد إلى جزء لا يتجزأ من المجتمع وصارت جزءاً من الحركات التحررية وكذلك الحركات التنموية.
شهد عام 1930 على سبيل المثال قيادة الفلسطيني شفيق هاندال وهو ابن أسرة مهاجرة من فلسطين، لمجموعة من مجموعات المقاومة المسلحة في السلفادور ضمن المعارك التي خاضتها الجبهة الليبرالية الوطنية، وفي بيرو كان التجمع الضخم الذي كونه الفلسطينيون سبباً في تطوير العديد من الطرق التجارية في مدينة كوسكو وذلك لأغراض التجارة والترحال، وقد كان ذلك من أهم التطورات التنموية التي شهدتها بيرو في تلك الفترة.
في الوقت الذي انتقلت فيه التجمعات الفلسطينية من المناطق النائية إلى المناطق المأهولة بالسكان، كانت الأحياء الفقيرة هي الملاذ الأول، لكن وصولهم إليها لم يكن ليمر مرور الكرام، فقد أعادوا كثيراً من الصناعات المحلية التي زهد سكان الأحياء وبدأوا العمل فيها بشكل أكبر ومضاعف وهو ما أسهم في تحريك العجلة الاقتصادية لتلك الأحياء، بل وكانت المرونة والقدرة على العمل التي أظهروها سبباً في حالة ملحوظة من التجانس بينهم وبين سكان تلك الأحياء.
هموم مشتركة
تبدو الصورة وكأنها تعيدنا إلى لوحات العصر الروماني، أجساد رومانية بضة في أزياء بيضاء واسعة وبهيئة عملاقة يركض أمامها كثير ممن يحملون هيئة السكان الأصليين في الولايات المتحدة، صورة كافية لأن تكشف كثيراً من ملامح التاريخ.
كان الظهور الأول في يوليو من عام 1845 على صفحات جريدة نيويورك مورنينج نيوز، بقلم الصحفي الأمريكي جون أو سوليفان، وعلى الرغم من أن النظرية كانت قد بدأت إعمال سيفها بالفعل قبل ذلك التاريخ بعقود، إلا أنها كانت الظهور الأول للاعتراف بالأمر.. إنها نظرية «Manifest Destiny» أو ما يعرف بنظرية القدر المتجلي.
القدر المتجلي هي نظرية اعتمدتها الولايات المتحدة تتضمن فكرة أن الولايات المتحدة هي أرض أطلقها الله في الأرض لتنفذ مشيئته، وأن توسع الولايات المتحدة واشتمالها على القارة الأمريكية بأكملها ليس أمراً اختياراً وإنما هو قدر حتمي ينتظرها، لذا فالولايات المتحدة يستوجب عليها أن تسيطر على كل الأراضي الواقعة ما بين ساحل المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، وأن تنشر أمريكا الرأسمالية والنموذج الأمريكي للديمقراطية في كل تلك البقاع.
قبل أن يعلن سوليفان عن نظرية أرض الرب التوسعية، كانت الولايات المتحدة قد اشترت بالفعل مدينة لويزيانا والتي تعرف بولاية لويزيانا الآن، وذلك عام 1803، وبعدها بعقدين تقريباً أعلن الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عما عُرف للاحقاً بمبدأ مونرو وهي وثيقة أرسلها الرئيس الأمريكي في 2 ديسمبر/كانون الأول للكونجرس الأمريكي معلنا فيها رفض أي توسعات أوروبية في الأمريكيتين وهو ما اتضح لاحقاً بأنه لم يكن حماية لدول أمريكا اللاتينية وإنما لإخلاء الطريق للتوسع الأمريكي.
لم تكن الولايات المتحدة بحاجة لكثير من الوقت، فثلاث سنوات فقط بعد تصريح سوليفان كانت مدة كافية لتدخل في حرب معلنة مع المكسيك في عام 1848 لتحصل بعدها على ما يعرف الآن بكاليفورنيا متضمنة «أريزونا وكولورادو ونيوميكسيكو ونيفادا وأوتاه ووايومينج».
صارت الصورة أكثر قرباً الآن… كان التهديد الذي أفرزته النظريات التوسعية الأمريكية في نظر بلدان أمريكا اللاتينية ما هو إلا صورة مسبقة عن التوسعية الصهيونية التي وقعت فيها فسطين، وأصبح المصير في منظور كليهما مشتركاً والمحرك الرئيسي للعداء واحد.
في دراسته المنشورة عام 2005 بجامعة ويتشيستر، بعنوان Christian Zionism as a representation of manifest Destiney تحدث الباحث لورانس ديفيدسون عن المتشابهات المعقودة بين نظرية القدر المتجلي التي استخدمتها الولايات المتحدة للسيطرة على أمريكا اللاتينية وفرض حالة التوسع من منظور ديني فلسفي وما تعلنه إسرائيل عن أرض الميعاد والتوسعات المبنية على منطلقات دينية.
تضيف الدراسة أيضاً أن مفاهيم الحضارة الغربية التي طرحتها الولايات المتحدة من فرض للرأسمالية ضمن خطتها التوسعية جاءت من منطلق يربط بين الولايات المتحدة والإله وألبسته ثوباً غير مناسب له.
إجراءات سياسية نادرة
شكلت العلاقات القديمة بين المهاجرين الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية منذ نهايات عهد الدولة العثمانية وحتى العصر الحديث، جزءاً مهماً من الحالة السياسية المتفردة التي قدمتها أمريكا اللاتينية لدعم القضية الفلسطينية، فكل من تشيلي وباراجواي والبرازيل والأرجنتين وبوليفيا والإكوادور وفنزويلا أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وهو إجراء سياسي نادر بالمعنى الحرفي للكلمة، تدخل به دول أمريكا اللاتينية في طور مواجهة حقيقي لدعم القضية الفلسطينية.
لم يتوقف الأمر عند هذه النقطة بل أعلنت بوليفيا قطع كافة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وإعلانها دعم الشعب الفلسطيني في مطالبه بجانب إعلانها أن إسرائيل كيان إرهابي ومنظمة عنصرية لا تختلف عن نظام الأبارتايد العنصري.
وفي غمرة احتفال العالم بوصول رئيس من أصول غير أمريكية من أصحاب البشرة السمراء إلى منصب الرئيس وبعدها وصول امرأة من أصول آسيوية إلى منصب نائب الرئيس، كانت دول أمريكا اللاتينية قد فعلت ذلك مراراً وتكراراً.
منهم الرئيس نجيب بو كيلة فلسطيني الأصل والذي أصبح أصغر رئيس لدولة السلفادور، وإلياس أنطونيو سقا فلسطيني الأصل من بيت لحم والذي أصبح رئيس السلفادور عام 2004 بعد الفوز على منافسه شفيق هاندال فلسطيني الأصل من بيت لحم أيضاً.
حتى أن الصورة لم تقتصر على الرؤساء من أصل فلسطيني بل كان لسوريا ولبنان حضورهما في تلك القصة، فوصل كل من سلفادور نصر الله لرئاسة السلفادور وعبدالله بوكرم كرئيس للإكوادور وجوليو تيودور سالم كرئيس للإكوادور أيضاً وميشيل تامر الذي تولى رئاسة البرازيل بعد رحيل دا سيلفا، وجميعهم ينتمون إلى أسر مهاجرة من الشام استقرت في بلاد أمريكا اللاتينية.
يصعب أن يجد أحد ما سياقاً مجتمعياً أكثر انسجاماً خارج الوطن العربي مثلما هو الحال بين الجاليات الفلسطينية الضخمة وشعوب أمريكا اللاتينية، فتشيلي على سبيل المثال تمتلك أكبر جالية فلسطينية في العالم، يقدر عددها بنصف مليون شخص، يشاركون في كافة أنشطة الحياة العامة وفي الوظائف الحكومية وكافة التجمعات، كما أنهم يمتلكون نادياً لكرة القدم تأسس عام 1920 يحمل اسم Palastino يرفع دائماً شعارات الدعم للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، بل وبإمكانك أن ترى أسطورة الكرة الأرجنتينية دييجو مارادونا وهو يعلن بصوت واضح «من قلبي أنا فلسطيني».
تلك الحالة المتفردة من الدعم والتواجد بين فلسطين وأمريكا اللاتينية والتي لم تحصل على ما يكفيها من النظر والمتابعة تضررت في بعض الدول خلال فترة ترامب على المستوى السياسي، لكنها ومن ناحية شعبية ما زالت تنبض بصورتها الكاملة التي يندر أن نجد مثلها خارج الوطن العربي.