في فلسطين: كرة القدم أيضًا تقاوم
في فلسطين كل الأشياء تُقاوم، الرجال على الأرض، والسيدات في المنازل، والأطفال وسط حطام الحدائق، العصافير فوق الشجر، وغصون الزيتون، كلٌّ يعي قضيته جيدًا، يحفظها عن ظهر قلب، ويضع نُصبَ أحد عينيه نور الحلم، وبالأخرى يخاطب ضمائر الإنسانية.
أما عن كرة القدم وذويها فلم تختلف الأمور كثيرًا، وتحكي لنا الحكاية من أولها، تقص لنا قصة الأرض التي سُرقت من أهلها، وتاريخ المقاومة الذي امتلأت صفحاته بالبطولات، فكل جانب من جوانب كرة القدم الفلسطينية يشهد على ذلك، من أسماء الفِرَق وهتافات الجماهير، إلى الصور المطرزة على قمصان اللاعبين وأسماء الشهداء.
ونحن هنا عاجزون لا نمتلك سوى الكلمة منبرًا، وقَصَّ التاريخ سلاحًا نحو الحلم الذي طال انتظاره، وخطابًا لضمائرنا علها تستيقظ.
سرقة بدأت من ملاعب الكرة
أدركت الحركة الصهيونية منذ تأسيسها أن عليها العمل مع القطاعات كافة، وفيها الشباب، فعملت على صقل هوية الشاب اليهودي الجديد، الذي ارتبط بشكل كبير بالرياضة بشتى فروعها، وبدأت في تطبيق الفكرة عمليًّا منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897. وأُسس في ألمانيا أول نادٍ يهودي للألعاب البدنية عام 1898، تحت اسم «بار كوخبا». وفي عام 1903، أقامت الحركة الصهيونية حركة النوادي الرياضية البدنية.
تبدأ قصتنا عام 1908 حين بدأ المهاجرون اليهود إلى فلسطين في تنفيذ الخطة التي حيكت خيوطها للاستيلاء على الأرض وتاريخها، بدأت الخطة بسرقة رموز الدولة، وكانت كرة القدم هي أولى هذه السرقات، وذلك حين أنشأت الإرساليات الأجنبية في فلسطين مدارس رياضية خاصة بها عام 1908 مثل مدرسة المطران «St. George» في القدس.
انتشرت تلك المدارس والتي ضمت لاعبين يهودًا فقط وهي تضع أمامها هدفًا أكبر، وهو تمثيل فلسطين كرويًّا بخاصة في المعتركات الدولية. ووفقًا لذلك تم تأسيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام 1928، وانضم للفيفا في العام التالي، لكن المفارقة أن الاتحاد لم يكن فلسطينيًّا ولا عربيًّا، بل استحوذ عليه اليهود والفرق اليهودية.
مفارقة غريبة، اتحاد كروي لدولة عربية لا يضم لاعبًا عربيًّا واحدًا في صفوف منتخبه، وحينها كان عدد السكان اليهود في فلسطين يمثل ثلث السكان فقط؛ لذا كان من الضروري أن يحاول المسئولون عن هذا الاتحاد ضم لاعبين عرب، كي يناولوا اعتراف الفيفا بهم، لكنهم فور انضمامهم للاتحاد الدولي لكرة القدم، تخلوا عن ذلك.
شارك الاتحاد الفلسطيني في تصفيات كأس العالم 1934 و1938، وخسر المباراتين الفاصلتين للصعود لمونديال 1934 أمام المنتخب المصري، لكن من شارك حينها هو المنتخب المُشكل من اليهود فقط، مرَّ الحدث مرور الكرام على العرب وبمباركة الاتحاد الدولي، وهو ما عكس نوايا الخطة الاستعمارية لليهود من اليوم الأول في الأراضي الفلسطينية، وأيضًا بطء استيعاب العرب للحركات الصهينوية وتحركاتها، والذي سيتكرر مرارًا فيما بعد.
شرارة المقاومة
يعتقد«جيمس دورسي»، صاحب مدونة «العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط»، أن ملاعب كرة القدم في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصبحت على مدى السنوات الكثيرة الماضية ميادين معارك للحقوق السياسية والجنسانية والعمالية، فضلًا عن قضايا الهوية الوطنية والأيديولوجية والعرقية. وأن فحص الدور الحديث والتاريخي لمشجعي كرة القدم يمكن أن يساعد في إلقاء الضوء على موقف كل مجتمع حيال هذه القضايا في الوقت الحاضر.
عرفت ملاعب كرة القدم في فلسطين طريق المقاومة حتى قبل أن يكون هناك مقاومة من الأساس. لم يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي أمام سرقة الصهاينة لمنتخب بلادهم، فقد أسسوا الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربي عام 1931، وأعادوا تأسيسه عام 1944، ومقره في مدينة يافا في النادي الإسلامي، لكن المشكلة التي واجهتهم هي انحياز الفيفا الصارخ للاتحاد الذي سرق الهوية الفلسطينية.
كانت هناك مقاومة كروية منظمة من قبل الفلسطينيين، ففي عام 1945، احتوى الاتحاد العربي على 25 ناديًا، وبحلول عام 1947 ضم الاتحاد أكثر من 60 فريقًا، رغم التضييقات التي مارستها الحركة الصهيونية ضد الأندية الفلسطينية في تلك الفترة.
حاول الاتحاد العربي الانضمام للفيفا عبر وساطة مصر، أو حتى إفساح المجال للعرب لمشاركة اليهود في اتحادهم، وقد حاول سكرتير الاتحاد العربي «عبد الرحمن الهباب» السفر إلى لوكسمبورغ لمناقشة الأمر مع الفيفا، لكن رُفِض حضوره لأسباب يرجح أنها مرتبطة بضغوط من الاتحاد الصهيوني.
لم يعترف الفيفا بالاتحاد العربي، لكن ذلك لم يثنِهم عن الثبات على موقفهم، وتنظيم الفعاليات مع الفرق العربية، كمحاولة لتكذيب رواية الاتحاد اليهودي الذي كان يشغله أن يصور فلسطين أرضًا خالية من العرب، جاءوا إليها خاوية، وعمروها هم بالفن والرياضة.
فطن الفلسطينيون لمساعي الصهاينة، وكذا لدورهم في توعية العالم بقضية الاستقلال، وتركوا للتاريخ ما يثبت أن السكان الأصليين للأرض كانوا هنا، عاشوا ولعبوا كرة القدم، وأن الجيل الذي خضع لتهديدات اليهود ذهب بلا رجعة. تجلى ذلك حتى في أسماء الفرق، والتي أتت مستوحاة من عظماء التاريخ العسكري الإسلامي مثل «خالد بن الوليد» و«صلاح الدين الأيوبي».
نضال من أجل الأرض وليس الكرة
سُرقت الأرض بعد نكبة 1948 بعدما سُرقت الكرة، اكتمل المخطط الذي سعى إليه الصهاينة، لكن من غيرهم أحرار هذا الوطن، الذين دافعوا ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من عتاد، وحتى عندما مُنع عنهم ذاك العتاد، اتخذوا من الحجر سلاحًا، حجر يضرب، وحجر يبني، وحجر يبعث نورًا في قلوب المرابطين.
لم تكن كرة القدم بمنأى عن النكبة وتباعاتها، لكن محاولات الفلسطينيين للانضمام للفيفا لم تتوقف، ليس من أجل الكرة فحسب، وإنما من أجل إعلاء صوت القضية أمام العالم.
عام 1951 طلب الاتحاد الفلسطيني الانضمام للفيفا، لكن الاتحاد الدولي المتواطئ مع الاتحاد الإسرائيلي رفض الطلب مجددًا، هذه المرة تحت ذريعة أن الضفة الغربية ليس لها وضع قانوني دولي.
لم تكف المحاولات الفلسطينية لطلب الاعتراف بها من الفيفا، اعتراف لا يخص كرة القدم وحدها، بل يخص قضية شعب بأكمله سُرقت كرته وملاعبه وأرضه. في الستينيات استمرت محاولات الفلسطينيين وهذه المرة عن طريق قطاع غزة.
طلب الفيفا من الاتحاد الفلسطيني إحصاءات مكثفة عن حجم ممارسة اللعبة في القطاع، وهو ما استجابوا له، وبعد وعود بالنظر في الطلبات المقدمة، رفض الفيفا هذه الطلبات بحجة أنه لا توجد دولة اسمها فلسطين، بيد أن ذلك لم يمنع الاتحاد الفلسطيني من إجراء محاولتين أخريين عامي 1978 و1989، لكن الفيفا استمر في رفض قبول فلسطين معللًا ذلك بأنه لا يوجد لفلسطين وضع قانوني دولي.
لم يرضخ الفيفا للفلسطينيين إلا بعد اتفاقية أوسلو التي أعادت السلطة الفلسطينية إلى البلاد عام 1994، وافق الفيفا على الاعتراف بالاتحاد الفلسطيني عام 1998، لكن ذلك لم يزد سلطات إلا تجبرًا وقمعًا تجاه الكرة الفلسطينية، وعلى الرياضة في العموم، وعيًا منهم بالدور الذي تلعبه هذه الرياضات كأحد أذرع المقاومة.
مقاومة لا تنقطع وضمير أبكم
في أوقات الهُدَن بين الحروب التي تشنها قوات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية تُعاني كرة القدم من التمييز المتأصل في المستوطنات الإسرائيلية، فلا يسمح الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين بدخول المستوطنات، التي يعتبرها مناطق عسكرية مغلقة، باستثناء عمال حاصلين على إذن خاص. لهذا السبب؛ يمكن للاعبين الإسرائيليين، وليس الفلسطينيين من الضفة الغربية، دخول المستوطنات للتدرب والمنافسة. يمكن للمشاهد الإسرائيلي وليس الفلسطيني حضور المباريات. يمكن للأطفال الإسرائيليين وليس الفلسطينيين اللعب في بطولات الشباب أو الانضمام إلى معسكرات كرة القدم.
وتعاني كرة القدم الفلسطينية من عدم القدرة على إقامة دوري متكامل؛ نتيجة تقطيع الاحتلال الإسرائيلي للضفة إلى نحو 64 منطقة، وعزل المناطق والمحافظات بعضها عن بعض، إضافة إلى تقطيع غزة إلى خمس مناطق.
تشمل الانتهاكات منع سلطات الاحتلال وعرقلتها تشييد الملاعب، وكل ما له علاقة بالبنية التحتية، وتدمر أحيانًا ما هو موجود منها. وتقييد حركة اللاعبين المحليين أو اللاعبين الزوار والإداريين، وأعضاء مجلس إدارة الاتحاد والصحفيين داخل أراضي السلطة الفلسطينية وخارجها. وتمنع كذلك، أو تؤخر أو تسلم الشحنات المرسلة من الفيفا والاتحاد الآسيوي أو التبرعات التي تبادر إليها الاتحادات القارية والهيئات الرياضية الأخرى. وتتدخل إسرائيل في تنظيم اللقاءات الكروية الودية بين فلسطين وغيرها من الاتحادات، وعادة ما تحول دون إقامة الكثير منها.
وخلال الحرب الإسرائيلية على غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، قصفت الطائرات الحربية من نوع «إف16» ملعب فلسطين في غزة؛ ما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة في بنيته التحتية. ولم يقتصر الأمر على الملعب؛ بل تعداه ليشمل لائحة طويلة من الأهداف، وهي: مبنى اللجنة الأولمبية الفلسطينية، واتحاد كرة القدم، وملعب اليرموك، وملعب رفح، ونادي اتحاد الشجاعية، ونادي الشمس، ونادي الشهداء، ونادي أهلي النصيرات، ونادي خدمات دير البلح، ونادي شباب جباليا، ونادي شباب رفح والمدينة الرياضية، ونادي الهلال، وهو استهداف يشي بوعي واضح لدى دولة الاحتلال بأهمية عرقلة مسيرة الرياضة الفلسطينية.
يحاول رجال كرة القدم الفلسطينية كلما كان سانحًا لهم أن يثبتوا للجميع أن أهل هذا البلد باقون، وأن الأرض لأهلها طال الزمان أو قصر، لكنهم يجابهون تواطؤًا دوليًّا مع المحتل، يتمثل مثلًا في عدم تصويت الفيفا عام 2017 بفرض عقوبات أو حتى مجرد حث الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم على التوقف عن رعاية الأندية القائمة في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في الضفة الغربية، وذلك رغم أن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم قرر عام 2014 منع الأندية في شبه جزيرة القرم من اللعب في الدوري الروسي بعد سيطرة روسيا على المنطقة، هذا بالطبع بخلاف منع الاتحاد الدولي للأندية والمنتخبات الروسية من المشاركة في البطولات بعد الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022.
وكذا في عدم وجود الدعم الكافي من شخصيات وكيانات عربية ذات تأثير عالمي، أشخاص ربما أخفضوا صوت ضمائرهم لحساب مصالحهم الشخصية، لكن ذلك لا يزيد القضية ورجالها إلا قوةً وثباتًا، في انتظار يوم نصر قريب، يكون درة الاحتفالات مباريات كرة قدم يُعزف فيها النشيد الوطني الفلسطيني في كل ملعب من ملاعب هذه الأرض، ونردده نحن في كل شبر في الوطن العربي.