فلسطين في ميزان الكذب العربي الكبير
في هذه المرحلة التي تتعرض فيها القضية الفلسطينية لأقذر المؤامرات وأخطرها بهدف تصفيتها، بات لزامًا أن يعلم الفلسطينيون الحقائق البديهية.
أولها أن معظم العرب وظفوا قضيتهم لتحقيق مآرب لا علاقة لها بفلسطين ولا بقضيتها ولا بحقوق الشعب الفلسطيني. وثانيها أن إمكانية معظم العرب ومقدرتهم على دعم وإسناد الشعب الفلسطيني ليست أكثر من قدرة الفلسطينيين على دعم أنفسهم، وحتى دعم غيرهم. وثالثها أن معظم الشعوب العربية اكتشفت بعد أكثر من سبعين عامًا على احتلال فلسطين، أن لديها حقوقًا وهمومًا وقضايا قامت الأنظمة العربية بحرمانها منها بذريعة نصرة القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل. ورابع هذه الحقائق أن معظم الأنظمة العربية قد كذبت علينا كثيرًا، وقد كلّفنا هذا الكذب الدماء والشهداء، وأنه حان الوقت كي يتوقف هذا النفاق، واللجوء بدلًا منه إلى المصارحة والمكاشفة والشفافية في العلاقة مع العرب. وخامسها يفيد أنه في كل مرة كان العرب يتدخلون في/ لأجل القضية الفلسطينية بسبب «عشقهم لفلسطين»، كانوا يتدخلون لدوافع تتعلق بهم، ولأهداف تخصهم وحدهم، وأن جميع هذه التدخلات لم تسفر عن تحقيق انتصار أو إنجاز يعود بالمنفعة على الشعب الفلسطيني، بل أنه في بعض الأحيان كان تدخلهم يتسبب في إلحاق الأذية بالفلسطينيين أنفسهم وبقضيتهم. وآخر هذه الحقائق أننا كفلسطينيين دفعنا كلفة باهظة للحفاظ على القرار الوطني المستقل، وبذلك لن يرتهن قرارنا لأية جهة مهما كانت، ولن نفرط بحقوقنا الوطنية والسياسية وبوحدتنا مهما بلغ حجم التضحيات.
الكذبة الكبرى
كثيرة هي المفارقات والمهازل والمآسي في المشهد العربي، ومن هذه المهازل الشائعة في الحياة السياسية العربية أن «فلسطين قضية العرب المركزية»!
لقد جثمت الأنظمة العربية على شعوبها من منتصف القرن الماضي، وأجهدتها بكافة وسائل القهر والاستبداد المختلفة. وحاولت هذه النظم في رحلة بحثها عن شرعيتها التي لم تظهر عبر العقود المتتالية، تطويع وإخضاع الإنسان العربي الذي لم يؤمن يومًا بنظامه السياسي. أدت هذه العلاقة الإشكالية إلى حالة من العداء الكامن والمعلن بين الطرفين، أوصل العرب شعوبًا وأنظمة إلى حالة من الانسداد السياسي، والاستعصاء الفكري، نجم عنهما أزمات ثقافية واجتماعية وطائفية وعرقية ومذهبية، دفعت بعموم المنطقة العربية إلى قاع التفكك والانحلال.
من النتائج الكارثية لقيام دولة إسرائيل فوق الأرض الفلسطينية في العام 1948، أنه إضافة إلى المأساة العظيمة التي أصابت الشعب الفلسطيني في وطنه ووجوده وحياته وبيته وأهله، وعانى منها -وما يزال- ومن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أنها أصابت الشعوب العربية أيضًا، التي لم يحدث في مجتمعاتها التطور الطبيعي؛ لأن الأنظمة المهزومة بقيام الدولة البغيضة -إسرائيل- لم تقبل هزيمتها، وبالتالي تمت ولادة شعار تحرير فلسطين ونصرة الأماكن المقدسة. ولأجل تحقيق هذين الشعارين قامت الانقلابات العسكرية في العالم العربي، أوصلت العسكريين إلى سدة السلطة؛ لأن المرحلة -تحرير فلسطين- تقتضي بأن يتقدم العسكر الصفوف إلى حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
هزيمة تكشف عورة
فقد تزامن احتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية مع رحيل الاستعمار الغربي عن العديد من البلدان العربية، حيث ظهرت الدولة الوطنية العربية التي مزجت بين أهداف التطور الاجتماعي مع هدف تحرير فلسطين، فلولا تخلف العرب لما كانت الصهيونية قادرة على الانتصار. كان العسكر الذين رفعوا شعار وحدة الأمة العربية يعتقدون أن الأحزاب السياسية مركب طفيلي يجب اجتثاثه، وتم اعتماد الخطاب العسكري بديلًا عن الموقف السياسي الذي تم تحديد الجيش كمرجعية له.
أصبحت السياسة شأنًا من اختصاص العسكر الذين أجروا مقاربات بين تحرير فلسطين كالتزام قومي من العرب، وبين ضرورة إخضاع الشعوب العربية لإرادة العسكر الذين فشلوا في الأصل أمام المواجهات مع العصابات الصهيونية عام 1948 وأدى إلى احتلال فلسطين الدولة العربية الشقيقة، وتشريد أهلها في مختلف بقاع الأرض، وسميت لاحقًا بـ«النكبة».
ثم ما لبث أن قام العسكر الذين أصبحوا في السلطة بتبني شعار الاشتراكية في بداية ستينيات القرن العشرين، واعتبروا أن الفكر الاشتراكي قادر على وضع الأنظمة العربية على طريق العدالة الاجتماعية التي سوف تحقق التقدم بالضرورة. ثم أضافوا شعارًا آخر هو الوحدة العربية بهدف توحيد الدول العربية وشعوبها بعد أن قام الاستعمار بتجزئتهم وتقسيمهم. لكن ما حصل بعد ذلك يدعو للدهشة والبكاء، فلا العرب توحدوا، ولا الأنظمة العسكرية استطاعت أن تضع دولها على درب التطور، والمفارقة المأساة أنه بعد ذلك بسنوات انهزم العرب وجيوشهم ودولهم أمام إسرائيل في العام 1967 فيما سمي لاحقًا «نكسة حزيران»، فأصبح التاريخ الفلسطيني والعربي المعاصر مثقلاً بنكبة ونكسة.
هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في العام 1967 كانت علامة فارقة لسببين بظني؛ السبب الأول أنه شكّل امتحانًا حقيقيًا للأنظمة العربية العسكرية فشلت في اجتيازه، وتحديًا عجزت عنه، والسبب الثاني أن هذه الأنظمة قد بدأت بحصار الشعوب العربية وقهرها، في مسعى لترميم هيبتها التي نال منها الجيش الإسرائيلي، وللتعويض عن الهزيمة التي أصابتها، قامت هذه الأنظمة باحتكار السلطة وإقصاء الآخرين، الأحزاب والقوى والمنظمات والهيئات، حتى أنه تم إقصاء الشعب نفسه، ولاحقًا تم إقصاء فلسطين وشعبها وقضيتها التي كانت السبب وراء وجودهم واستمرارهم في السلطة.
هذا ما حصل، وبهذا انتقلت هذه الأنظمة العسكرية من مشروع الدولة الوطنية إلى الدولة البوليسية القهرية التي تختزل كل قضايا الشعب والأمة في شخص الحاكم.
اختزال القضايا الكبرى
منحت نكبة احتلال فلسطين وقيام إسرائيل الأنظمة العسكرية العربية احتكارًا للسلطة والقرار الوطني والقومي، وأنعمت عليهم نكسة حزيران بمسوغات تحويل الدول إلى أنظمة أمنية تتوجس من كل شيء، بدءًا مما كانت تسميه القوى الخارجية المتآمرة، وصولًا للمواطن المسكين الذي أصبح كيانًا تائهًا مشتتًا بين التزامه القومي نحو فلسطين، وبين لقمة عيشه التي لا يطالها إلا بشق النفس. العجيب الغريب أنه كان يسود اعتقاد لدى بعض هذه الأنظمة أن العدو الخارجي لا يستهدف الشعب العربي، بل إن المستهدف هو القوى والأنظمة التي تدافع عنه! فأصبح التصدي للمؤامرات الخارجية يفترض مصادرة إرادة الشعوب وقرارها ومصيرها واختزالهم في إرادة السلطة والحاكم.
غاب الخطاب الأيديولوجي، وحل مكانه خطاب براغماتي. وزال شعار الوحدة العربية واستعيض عنه بتنسيق أمني، وباجتماعات دورية لوزراء الداخلية العرب الذين يكافحون أية «مخاطر» من شأنها أن تحرر الأوطان والإنسان من قبضة الاستبداد، أو أية محاولة للقضاء على الفساد الذي انتشر في هذه النظم مثل انتشار الفطر السام. فكان القمع والقهر والاستبداد المتحالف مع الفساد المالي والإداري، هما أدوات مرجعية لاستمرار بقاء هذه الأنظمة في السلطة من جهة، ويضمنان تواصل إخضاع الشعوب من جهة أخرى.
ثم فاقمت الاشتراكية التي تبنتها الأنظمة العسكرية الشمولية الفوارق الطبقية بين الناس إلى أقصى حدود. والتعاون العربي-العربي تحول إلى وحدة إلى تنسيق أمني ثم سقط في بئر التنافس ليس في ميادين العلم والمعرفة، بل في إهدار الموارد العربية، وسرقة خيرات الأوطان، واسترضاء القوى الكبرى، ومن ثم التنافس في ساحة تمزيق المصالح العربية، وكل هذا يتم وفق معايير الديكتاتوريات التي تضع مصلحة الحاكم فوق مصلحة الوطن، ومصلحة الحاشية والبطانة فوق مصالح المواطن. ثم تحول التنافس إلى خلافات ونزاعات سياسية واقتصادية وفكرية، وتناحر غير مبرر حوّل المنطقة إلى ما يشبه حمّام السوق.
تكوين وعي بلاغي
قامت الأنظمة العربية العسكرية بتوظيف الأيديولوجيا عند استلامها الحكم لتثبيت سلطتها، وبعد أن استطاعت ترسيخ قوتها وتغول نفوذها حولتها إلى مجرد خطاب براغماتي يضمن استمرار وجودها وتحقيق مصالحها عبر الاستثمار اللغوي والبلاغة في القضايا الكبرى وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.
لذلك تعمدت هذه السلطات عدم خلق مفكرين ومثقفين متنورين؛ لأن من شأن ذلك أن يتعارض مع فكر هذه الأنظمة وممارساتها، فهي لم تكن يومًا بحاجة إلى مثقفين يتواصلون مع الشعوب ويرتقون بوعيهم، واستعاضت عن المثقفين الحقيقيين بجوقة من المنافقين والأُجَراء الذين يقومون بتجميل وجه هذه السلطات وتبرير تعسفها.
وما دامت هذه الأنظمة تعتمد المقاربات الأمنية والقهرية في حكم شعوبها عبر الأجهزة الأمنية والمؤسسات التأديبية الأخرى التابعة لها، فلا حاجة إلى إقناع الشعوب أصلًا، فهي أنظمة لا تؤمن بالحوار ولا بالمشاركة ولا بالمنطق النسبي. من هنا يمكن فهم الانتقال السهل والسريع من نظام الاشتراكية اللفظية التي كانت تتبناه هذه الدول إلى نظام يعتمد رأسمالية السوق، وأدى إلى أن تقوم السلطة نفسها بالتحالف القسري مع أصحاب رؤوس الأموال المحلية، ومن ثم الاحتكار المطلق للأوطان والعباد والثروات.
وبنفس السهولة والسرعة تنتقل هذه الأنظمة من شعارات الفكر القومي إلى مزاوجة النص الديني مع الشعارات السياسية. ومن ليبرالية مائعة إلى ديكتاتوريات، بحيث أصبح في هذه الدول أنظمة هجينة لا تشبه شيئًا، فهي لا قومية ولا اشتراكية ولا علمانية ولا ليبرالية ولا رأسمالية، لا يمين ولا يسار ولا وسط، تحكمها عقليات تعود إلى القرون الوسطى.
هذه الأنظمة التي وصلت إلى السلطة بواسطة الجيوش يدفعها إحساس وطني وفكر عفوي، كانت متحمسة لمواجهة الإشكاليات التي تعوق تقدم وتطور بلدانها، لكنها لم تستطع إدراك الأسباب الحقيقية لهذا التخلف المريع. وكانت تتطلع إلى قدرتها على بناء دول ينتظرها مستقبل، ولكن هذه الأنظمة لم تمتلك يومًا بصيرة تتلمس فيها طريق المستقبل، وذلك يعود بدرجة أساسية إلى بنية النظام العسكرية، والبنية الفكرية لقادة هذه الدول التي مزجت مذاهب أيديولوجية متنوعة، وجمعت بين ما هو تقليدي ومعاصر، وبين القومي والديني، وأجرت مقاربات تصالحية بين الاشتراكية والدين، وبين القومية والإسلام، وتم تأميم الحياة السياسية والحزبية والصناعية والزراعية والتعليمية والصحية والإعلامية والقضائية، وانفرد قادة هذه الأنظمة بالسلطة.
سجايا الاستبداد
بعض الأنظمة العربية جعلت من المؤسسة الأمنية بديلًا عن الأحزاب والأيديولوجيا، وغيبت دور البشر، وأرغمت المفكرين والمثقفين على تبديل أنماط معيشتهم، بحيث أصبح تحصيل الرزق عملية شاقة ومضنية في مجتمعات فاسدة، مما أجبرهم على خيارات وأفعال لم يعهدوها سابقًا. أصبحت وسائل الإعلام قناة من القنوات التي يمارس بها الحاكم ونظامه تسلطهم واستبدادهم، وتم تحويل الهيئات النقابية والمؤسسات الجماهيرية إلى حشود تصفق لبلاغة الحاكم وحصافته. وبعد أن تم القضاء على بقية الأحزاب الفاعلة ورمي قادتها في السجون، أو على أقل تقدير تحجيمها وبتر أطرافها، تحول الحزب الحاكم الوحيد إلى تجمع للمرتزقة والمنافقين والوصوليين الذين لا همّ لهم سوى الحصول على بطاقة العضوية الحزبية للحصول على الاستثناءات التي تحقق لهم مصالحهم. وبهذا تحولت الجماهير غير الحزبية إلى مجرد قطيع من الرعاع.
وهكذا ترسخت طبائع جديدة للاستبداد ضمن المجتمع الفاسد الذي تتحكم السلطة بحركته ومعاييره. وارتبك النسيج الاجتماعي بفعل الثراء السريع لبعض الشرائح الاجتماعية، والعوز الذي أصاب شرائح أخرى بسبب الإفقار الممنهج الذي مارسته السلطة. وتم تفكيك الطبقة المتوسطة في المجتمع بفعل سياسات الاستبداد والإذعان وانتقل جزء صغير منها إلى طبقة الأثرياء الجدد، وهبط معظمها إلى قاع الطبقة الفقيرة. أصبحت في المجتمع كتلتان، المهمشون والمضطهدون، مقابل طبقة الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين كدسوا الثروة من خلال علاقتهم بالأجهزة الأمنية.
لقد اندحرت مقومات التقدم الاجتماعي مرتين في البلدان العربية؛ مرة عن طريق الأنظمة التي تشبثت بالقيم التقليدية، لترسيخ فكرة الحاكم الوحيد والحزب الوحيد، وتم هزيمتها مرة بواسطة الشعوب العربية التي قبلت أن تسلبها الأنظمة حقوقها وتحرمها من فطرتها في أن تكون شعوبًا حرة، ورضيت أن تكون مجرد رعية خانعة.
سقوط أخلاقي
أخفقت الأنظمة الاستبدادية في إقناع الناس بأفكارها وشعاراتها حول الاشتراكية ووحدة الأمة والاستقلال الوطني، وحققت نجاحًا مبهرًا في نشر الفساد وتسمين المفسدين. وتمكنت من إزالة الحياة الحزبية، والقضاء على الحوار المجتمعي، وتطويع مؤسسات الدولة والمجتمع لخدمة مصالحها، والاستحواذ على مقدرات وثروة الوطن، وإضعاف الشعب وتفكيك ترابطه، مما أدى إلى ظهور هذه النزعات العرقية والطائفية والقبلية والمذهبية والعشائرية البغيضة.
حلّت المؤسسة الأمنية وأجهزتها القمعية مكان هيئات المجتمع المدني، ولم تتح لأي شكل من أنواع الوعي السياسي للشعب أن يتبلور، وشجعت الأنظمة الانتماءات الضيقة على حساب الانتماء للوطن، وأعلت المصلحة الخاصة والتكسب على قيم المنفعة العامة، وقامت بتليين بعض المفكرين والمثقفين وتطويعهم، وزجت ببعضهم في السجون، وهرب الآخرون خارج الأوطان، حتى أن بعض رجال الدين قد غيّر بعض معتقداته لتتوافق مع متطلبات المرحلة. تحولت كافة مكونات المجتمع إلى أدوات طيعة في بنية هندستها الأنظمة التي أعلت مصلحتها فوق الوطن والمجتمع.
غابت الشعوب والأوطان عن المشهد، وحضرت الأنظمة التي انهزمت أمام إسرائيل، وقامت لاحقًا بتحقيق انتصار على شعوبها، وسخّرت كل شيء لتكديس الثروات والبقاء في السلطة.
من المفارقات الهزلية المبكية أن العديد من الدول العربية -خاصة المحيطة بفلسطين- كانت قبل احتلال فلسطين وقيام إسرائيل، تشهد قدرًا من التطور الاجتماعي، ومثله في الحياة السياسية والحزبية، ولم تكن تعرف أي نوع من التطرف الديني أو العرقي أو الطائفي، ولم تعهد العنف والإرهاب الفكري والاجتماعي، بل كان التسامح والتكافل والتعايش سمات المجتمع. لكن المصائب ظهرت مع الاستقلال الوطني العربي، الذي ترافق مع ولادة الدولة الصهيونية؛ والذي أفضى إلى احتكار أنظمة عربية للسلطة في بلدانها، قامت بإلغاء الوطن وحقوق المواطنة والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، والتعددية والمشاركة، والحياة السياسية والحزبية، والعمل النقابي ودور هيئات المجتمع المدني، وأنشأت ديكتاتوريات تغولت وابتلعت البشر والحجر.