كسروا المنابر وعجزوا عن دفن موتاهم: أوجاع فقراء الدولة العباسية
تبدلت أحوال الدولة العباسية في عصرها الثاني من القوة والازدهار إلى الضعف والوهن، بسبب ضعف شخصية الخلفاء، وتغلغل العنصر التركي وسيطرته على مقاليد الأمور، إضافة إلى تعرض الدولة لمجموعة من الكوارث الطبيعية، وكل ذلك أثر بالسلب على المجتمع وجعل قطاعًا عريضًا منه عرضة للفقر والعوز.
ورغم تعدد أسباب شيوع الفقر في المجتمع العباسي فإن العوامل السياسية كان لها الدور الأبرز في ذلك. يذكر الدكتور حسام حسن إسماعيل في دراسته «الفقر في العصر العباسي الثاني وأثره على حياة العامة»، أن الأتراك عرفوا طريقهم للمجتمع العباسي عندما قام المعتصم (833- 842) آخر خلفاء العصر العباسي الأول بجمع الغلمان الأتراك من سمرقند وفرغانة (تقع بالقرب من تركستان)، واستمر في شرائهم حتى بلغ عددهم 18 ألفًا.
سبّبت كثرة عدد الأتراك ضيقًا لأهل بغداد، نظرًا لما أحدثوه من خراب ودمار، ما دفعهم للشكوى لدى الخليفة المعتصم، فقرر أن يترك المدينة ويبني مدينة سامراء ليستقر بها هو وجنوده الأتراك.
وكان ذلك بداية لتغلغل الأتراك داخل المجتمع العباسي، فتدخلوا في اختيار الوزراء والمسؤولين، وازداد نفوذهم، واعتادوا على السلب والنهب، ما ترتب عليه سوء إدارة الدولة وتدهور الأحوال الاقتصادية، ومن ثم تفشي الفقر بين العوام.
فساد إداري وإطاحة بذوي الكفاءة
وبحسب فهد مطر المطيري في دراسته «التاريخ الاقتصادي للدولة العباسية في العصر العباسي الثاني 247- 334هـ»، ارتبط الفقر بهذا الفساد الإداري الذي تعرضت له الدولة العباسية، حيث عُين العديد من الوزراء الضعاف ممن لا خبرة لهم في الأمور الإدارية، وكان أغلب هؤلاء لا يفكرون بالإصلاح الإداري والمالي بقدر ما يفكرون في طرق جمع المال عن طريق السرقة والرشوة وتقديم الأموال والنساء للخليفة، كما أطمعوا الجيش بالتدخل في شؤون الدولة لدرجة تحالفهم في كثير من الأحيان مع الجيش ضد الخليفة.
ويضرب «المطيري» مثالًا على ذلك بتعيين الوزير أحمد بن الخصيب في زمن المعتصم، رغم ما عُرف عنه التقصير في عمله وفي شؤون الإدارة، بل كان مطعونًا في عقله.
وفي زمن المستعين بالله (862 – 866)، استبد الوزير أوتامش التركي ووالدة المستعين «مخارق» بأموال الدولة، كما سيطر على بيوت الأموال وتصرف فيها كيفما يشاء.
وإن حصل وتولى الوزارة رجل من ذوي الكفاءة الإدارية يُعزل مباشرة بسبب معارضة القادة الأتراك له، كما هو الحال في الوزير الحسن بن مخلد الذي عُزل في زمن المعتمد على الله (870 – 892)، وكان من ذوي الكفاية والضبط، حيث كان يُوثِّق كل ليلة قبل أن ينام في دفتر صغير أصول الأموال ومصادرها.
وفي زمن المقتدر بالله (908- 932) بلغت الإدارة أسوأ أوضاعها، خاصة بعد أن تحكم النساء والقادة بأموال الدولة وأمورها، خاصة قادة الجيش، فكان لمؤنس الخادم قائد الجيش الدور الأكبر في اختيار الوزير وعزله، وبلغ من تحكمه في ذلك أن أقنع الخليفة بقتل الوزير أبو الحسن بن فرات بعد أن توترت العلاقة بين الجيش والوزارة.
علاوة على ذلك، عيّن المقتدر عددًا من الوزراء مِمَّن ليست لهم دراية بالأمور المالية، كما هو الحال في الوزير أبي علي بن محمد بن عبيدالله الخاقاتتي الذي تولى الوزارة، ولم يهتم بأمور الدولة بقدر ما اهتم بجمع الأموال للخليفة ورجال الدولة، وبيع المناصب بالأموال، مشتغلًا بأمور الشراب.
واعترض الأتراك أيضًا على الوزير عبد الله بن محمد بن يزداد الذي تولى الوزارة في عهد الخليفة المعتز بالله (866- 869)، فخفض الرواتب والنفقات، فهدده الأتراك بالقتل إلى أن ترك الوزارة وهرب، بحسب «المطيري».
وكان الوزير أبو الفضل جعفر الإسكافي الذي تولى الوزارة مرتين، إحداهما في عهد الخليفة المعتز، والثانية في عهد المهتدي بالله (869 – 870)، ذا علم بأمور الوزارة إلى أن اعترض عليه الأتراك وعزلوه.
ثورات متعددة تُؤجِّج الفقر
ورغم أن ثورات سياسية واجتماعية اندلعت في العصر العباسي بسبب الفقر وتفاوت الفجوات بين الطبقات، فإن هذه الثورات زادت من حدة العوز بين العوام، وأبرزها ثورة الزنج (869- 883) التي تزعمها محمد بن علي، والذي ادعى النسب العلوي وجمع حوله العبيد أملًا في رفع منزلتهم وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، وبدأت هذه الثورة في عهد الخليفة المهتدي ثم تطورت في عهد الخليفة المعتمد على الله.
وبعد القضاء على ثورة الزنج قامت حركة القرامطة (899- 1077)، والتي ظهرت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري على المذهب الإسماعيلي في أيام الخليفة المعتمد، ثم انتقلت إلى بلاد الشام والبحرين واليمن، ويعتبر حمدان بن الأشعث المعروف بـ«قرمط» أحد دعاة القرامطة الأوائل.
ويرى فاروق عمر في كتابه «الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية»، أن الحركة القرمطية كانت انتفاضة اجتماعية، ورغم أنها توسلت بالدين من أجل ضرب النظام العباسي، لكنها هدفت إلى إنشاء نظام اجتماعي اقتصادي يحقق -على حد زعم القائمين بها- المساواة الاجتماعية والرفاه المادي.
على كلٍ، ترتب على قيام الثورات والحركات السياسية، كثورة الزنج وحركة القرامطة، عددٌ من النتائج السلبية التي أثرت على الدولة العباسية بشكل عام، وعلى اقتصادها بشكل خاص، ما زاد من وطأة الفقر، فقد سيطر الزنج والقرامطة وغيرهم على رقعة كبيرة من الأرض تمتد بين الأهواز وواسط، وصولًا إلى البحرين، ومن ثم ألحق ذلك ضررًا اقتصاديًا بتلك الرقعة الحساسة في الإنتاج، فتعطلت الزراعة في تلك الأراضي الخصبة، بحسب «المطيري» في دراسته.
ليس هذا فحسب، فقد أُرهق الفلاحون المستقرون في جنوبي العراق، لأنهم اضطروا إلى تمويل الجيش العباسي، وكذلك تمويل حركة الزنوج في الوقت ذاته، وإلا وقعوا فريسة للنهب والاعتداء، ومن ثم وقع الفلاحون بين مطرقة الجيش العباسي وسندان الحركات الثورية، حيث قام الجيش العباسي بالتنكيل بالقبائل البدوية لأنها لم ترتدع عن تمويل حركة الزنوج.
كما تضررت الكثير من الأنهار والترع التي حفرها الخلفاء العباسيون الأوائل لري الأراضي وتسهيل عملية استغلالها، حيث سد المقاتلون الأنهار ليمنعوا سفن الطرف الآخر من المرور فيها. كانت كل هذه العوامل كافية لغلاء الأسعار المفرط الذي أصاب العراق والحجاز في تلك الفترات.
سرقات وانفلات أمني
زاد الفقر أيضًا لكثرة ما تعرضت له الأمصار من حركات السرقة نتيجة الانفلات الأمني الناتج عن التخبط السياسي في الدولة العباسية في عصرها الثاني، حسبما ذكر الدكتور حسام حسن إسماعيل في دراسته المذكورة آنفًا.
فقام العامة في بغداد بالهجوم على الدير العتيق الخاص بالنصارى في عام 884 ونهبوا كل ما فيه من متاع، وقلعوا الأبواب الخشبية الخاصة بالدير، وهدموا بعضًا من حيطانه وسقوفه، حتى تدخل الحسين بن إسماعيل صاحب الشرطة في ذلك الوقت، ومنعهم من هدم ما تبقى منه، ثم أعاد بناء ما هدمته العامة.
وأثناء خلافة المتقي لله (940 – 944)، ثار عبد الله البريدي على الخلافة العباسية واستولى على بغداد، وبدأ هو ومن معه بالقيام بعمليات السلب والنهب، فسرقوا الدواب، وأخرجوا الناس من منازلهم، واستولوا على الأسواق، فغلت الأسعار، وصادر أموال الناس، وأخذ أموال التجار غصبًا، حتى أن بعضهم بدأ يستتر لكثرة ما طلبه منهم من أموال، ونتيجة لذلك بدأ الناس في نهب بعضهم بعضًا في بغداد، وهجموا على المنازل في الليل والنهار، أملًا في الحصول على القوت، وعمت الفوضى في بغداد.
كذلك ظهر لص ببغداد يطلق عليه «ابن حمدي»، واستطاع ومن معه أن يؤرق الخليفة، وأن ينهب أموال العامة، فكان يهجم على بيوت الناس بالسلاح والشمع ويسرق الأموال، وكان الناس يحرسون منازلهم بالبوق في الليل، ويمتنعون عن النوم خوفًا من هجمات ابن حمدي وأصحابه، وخلت المنازل من السكنى ببغداد، وأغلقت عدة حمامات، وتعطلت الأسواق والمساجد بسببه، واستمر ابن حمدي في ترويع الناس حتى قُتل على يد أبي العباس الدليمي صاحب الشرطة.
واضطرب الناس في بغداد بعد أن ألقى أحمد بن بويه «معز الدولة» القبض على الخليفة المستكفي بالله (944- 946)، ونُهبت الأموال في بغداد، وسُرقت دار الخلافة كاملة فلم يبق منها شيء.
كوارث طبيعية مُستمرة
وتضافرت العوامل الطبيعية إلى جانب العوامل السياسية في تفشي ظاهرة الفقر في العصر العباسي الثاني، حيث شهد العديد من الكوارث الطبيعية التي أثرت بالسلب على المجتمع، منها الزلازل والرياح العاتية والأمطار والأمراض المتفشية.
ويذكر «إسماعيل»، أن زلزالًا كبيرًا وقع بدمشق عام 848 أدى إلى سقوط المنازل والأسواق على من فيها، وسقوط بعض شرفات المسجد الجامع، فقتل الكثير من الرجال والنساء والصبيان. ووقع زلزال شديد بمصر عام 885 خُرب على إثره المنازل والجوامع، ومات بسببه خلق كثير.
كما هبت رياح شديدة أثرت على الزروع والإنسان، فهبت ريح بالعراق عام 849 شديدة السموم، أدت إلى إحراق زرع الكوفة والبصرة وبغداد، وقتل المسافرين، ثم وصلت هذه الريح على همذان فأحرقت الزرع وقتلت المواشي، ثم وصلت إلى الموصل وسنجار فمنعت الناس من التجارة بالأسواق، واستمرت هذه الريح 50 يومًا قتل فيه خلق كثير.
وتذكر مها سعيد حميد في دراستها «الكوارث والأوبئة في الموصل خلال العصر العباسي»، أنه في عام 821 تعرضت الموصل إلى فيضان عظيم أدى إلى غرق مساحات واسعة ترتب عليه ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة، فعانى الناس من قلة الغذاء، وتعرضت البلاد لمجاعة استمرت إلى سنة 822 شملت مناطق ومدنًا أخرى.
ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى ما ذكره أبو زكريا الأزدي في كتابه «تاريخ الموصل»، حيث قال «وكان لا يجترئ أحد أن يظهر نموذج الطعام، وإنما يخرج الرجل الشيء في كمه فيبيعه سرًا، وربما كاله ليلًا خوفًا من الناس والمجاعة التي كانت». ويتبين من خلال هذا النص غياب السلطة بشكل أو بآخر وفقدان الأمن، حيث غابت إجراءات الحد من المجاعة، والتي أدت بدورها إلى بحث السكان عن مواطن جديدة وانتقالهم إليها، وبذلك تغيرت التركيبة السكانية لكثير من المناطق.
كما حدث غلاء سنة 960 بسبب فيضان ضرب الموصل والمناطق المجاورة لها سنة 959، ترتب عليه حدوث مجاعة قاسية اضطرت الأهالي لأن يفروا إلى الشام ووسط العراق خوفًا من الموت.
وتسبب عدم سقوط الأمطار وانعدامها في بعض السنوات في وقوع المجاعات، مثلما حدث في سنة 1031 عندما حدث غلاء شديد وزادت الأسعار بسبب انحباس المطر وتلف الغلات، حسبما روت «حميد».
وفي 1047 حدثت مجاعة في العراق فقلت المواد الغذائية بالأسواق بشكل كبير تكاد تكون معدومة، ما اضطر الناس إلى أكل الميتة، وذلك بسبب انعدام المطر في هذه السنة أو العام الذي قبلها، ما أدى إلى وباء شديد قضى على كثير من الأهالي.
وبحسب «حميد»، تكرر ذلك أكثر من مرة، منها في سنة 1124 عندما حصلت مجاعة بسبب ارتفاع الأسعار فعم القحط في الشام والموصل والجزيرة وديار بكر وكثير من البلاد بسبب احتباس الغيث، واستمرت المجاعة إلى سنة 1125.
وفي عام 1053، انتشر وباء في الموصل بسبب المجاعات التي شهدتها تلك الفترة، ثم ظهر وباء آخر سنة 1056 في مصر وبلاد الحجاز، وكان تأثير ذلك واضحًا على الفقراء بعدما زادت الأسعار.
أكل الجيف ونهب القصور
كان من المنطقي أن ينعكس هذا الفقر الذي تفشى بين العوام في عدد من المظاهر، ففي عهد المستعين بالله (862- 866) شكا أهل بغداد سوء الحال حتى أنهم أكلوا الجيف.
وفي خلافة المقتدر ضجت العامة من الغلاء، فكسروا المنابر، وقطعوا الصلاة، وأحرقوا دار الروم، فاضطر الخليفة لاستدعاء وزيره حامد بن العباس لكي يبيع الغلات التي يمتلكها في بغداد للعامة، وأنقص في كل كر (مكيال لأهل العراق) خمسة دنانير، ولكن ذلك لم يثن الناس عن ضيقهم من الغلاء ونقص الطعام، فاتجهوا إلى داره، ودار قتال شديد بين غلمانه وبين العامة استمر لأيام قُتل على إثره عدد كبير، ثم اشتد بعدها البلاء، وزاد الغلاء في بغداد، روى «إسماعيل».
وفي خلافة الراضي بالله (834- 840) اشتد الغلاء بخراسان، ومات خلق كثير من شدة الجوع، وعجز الناس عن دفنهم لغلاء المعيشة واضطروا لجمع الغرباء والفقراء في بيت واحد حتى يتسنى لهم دفنهم وتكفينهم، وغلت الأسعار في بغداد.
ولم تسلم خلافة المتقي من غلاء الأسعار عام 942، فزادت في بغداد زيادة بالغة، وانتشرت الأوبئة، وعانى منها العوام حتى اضطر الناس حينها إلى أكل الجيف.
واستمرت موجة الغلاء حتى عام 945، واشتد فيها القحط بصورة لم يكن لها مثيل في بغداد، وضاق الناس ذرعًا، وكانت النساء تخرج يصحن «الجوع.. الجوع» طلبًا للطعام حتى يمتن.
ظهور العيارين والشُطار
ونتيجة للتفاوت الاقتصادي، والتمايز الطبقي داخل الدولة العباسية، ظهرت فئات العيارين والشطار، وهم الفئة الفقيرة من طبقة العامة المحرومة. يذكر محمد نجيب أبو طالب في كتابه «الصراع الاجتماعي في الدولة العباسية»، أن الترف بلغ درجة لا توصف في حياة الطبقة الخاصة من الأغنياء، وتزامن ذلك مع ازدياد الفقر والحاجة في صفوف العامة، لذا بدأت تنشأ تجمعات بشرية فقيرة، أرهقها غلاء المعيشة، ومزقها الغلاء والجهل والتشرد، وزاد فقرها بعد أن تركت أعمالها الزراعية في الريف، واضطرت إلى اللجوء إلى المدن نتيجة الحروب والمعارك التي كانت تدور في الأرياف، حيث تحولت حياة الكثير منهم إلى فراغ قاتل، فسيطرت البطالة وازداد الفقر، وزاد الشعور بالنقمة على الطبقات الغنية.
والعيارون والشطار هم جماعات من العوام نظمت نفسها على شكل تكتلات يرأسها رؤساؤها ومتقدموها، وقد دفعهم الوضع السياسي المتدهور وسوء الحالة الاقتصادية إلى هذا التكتل، وظهرت بداياتهم في هذه الفترة وقبلها بقليل، حيث نشطوا في حصار بغداد أثناء فتنة الأمين والمأمون (809- 813)، وبرز دورهم بعد ذلك في كثير من الأحداث السياسية والعسكرية، إلا أن حركتهم لم تنتظم ولم تتبلور إلا في الربع الأخير للقرن الرابع الهجري، أو في العصر البويهي حين زادت الفوضى السياسية واتسعت الهوة بين الأثرياء والفقراء لسوء الحالة المعيشية.
وبحسب «المطيري» عادى العيارون الأغنياء والتجار الموسرين وأشراف الناس، وكان ظهورهم بسبب ارتباك سياسي وسوء إدارة نتيجة تسلط الأتراك في القرن الثالث، فأربك الحياة الاقتصادية وأضر بأهل الصنايع بصورة مباشرة، فاتجهت هذه الطوائف إلى المشاركة في الحركات الثورية التي ظهرت في تلك الفترة والتي سعت لتحسن أوضاعها الاجتماعية والمادية مثل حركة الزنج والقرامطة.
ظهور القرّادين وأصحاب الملاهي
ويذكر الدكتور شوقي ضيف في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الأدب العربي»، أن طبقة العامة التي وقعت في براثن الفقر خلال العصر العباسي الثاني كانت تُبتز بما في أيديها من أموال قليلة، ومن يعملون في الأرض من الأكرة والزراع كانوا عبيدًا لا يُترك لهم إلا ما يسد رمقهم، أما صغار الصناع والتجار والفعلة والفراشون والبوابون وكل من يؤلفون الطبقة العامة فقد كانوا مثلهم مثل رقيق الأرض لا يكادون يجدون ما يسد جوعهم إلا نادرًا.
وكان من يوجد لديه مال كأنما يقع تحت طائلة العقاب بسبب كثرة الضرائب، والتي كانت تُفرض حتى على الأسواق وما يصنع فيها وما يباع ويشترى.
وما زاد هذه الطبقة بؤسًا أن الأسعار لم تكن ثابتة، فكثيرًا ما كان يرتفع ثمن القمح والشعير حتى يصبح حصول العامة عليهما عسيرًا، وكان العامة كثيرًا ما يلجؤون بالشكوى إلى الخليفة، على نحو ما صنع أهل البصرة في عهد المعتضد بالله، إذ أرسلوا وفدًا كبيرًا إليه يشكو ما نزل بمدينتهم من غلاء فاحش آملين أن يمد الخليفة لهم يد المساعدة.
وبحسب «أبو ضيف»، أدى بؤس هذه الطبقة العامة إلى أن ينشأ فيها كثير من القرّادين وأصحاب الملاهي الصغيرة كالطوافين والحوائين، كما نشأ فيها كثير من المهرجين الذين ينقطعون لإضحاك أهل الطبقتين الوسطى والعليا، وكان منهم من يتصل بخليفة أو وزير فتبتسم له الدنيا، ونشأ فيها أيضًا كثير من مروضي الخيل وأصحاب القنص والصيد بالكلاب والفهود.
ونشأت أيضًا طبقة من الأدباء المتسولين المسمون بـ«المُكدين»، وكانوا حينئذ خليطًا من هؤلاء الأدباء ومن متظاهرين بالنسك، مستعملين كل حيلة من شعر وغيره، فهم يطلبون المال من كل طريق.
ويدل على ما كانت تعانيه هذه الطبقة من بؤس أن كثر بها اللصوص، حتى غدوا في أوقات كثيرة مصدر خطر عظيم ببغداد، لكثرتهم ولشدة فتكهم، وكثيرًا ما أشار إليهم الجاحظ في كتاباته حيث تطرق لرؤسائهم وذكر أن لهم مروءة الفرسان، وكأنهم كانوا امتدادًا لصعاليك الجاهلية.