المسكنات تؤلم.. وتقتل أيضًا
1-1
شقَّت صرختها سكون الليل حتى تكاد تجزم أنها أيقظت الساكنين في الحي المجاور. كأن كرة من النار انفجرت فجأة في منتصف بطنها. أسرعت إلى دورة المياه لتغسل وجهها. كانت ملامحها تضج بالألم، وفجأة تغلَّبت عليها رغبة شديدة في القيء. وللإمعان في صدمتها، اكتسى الحوض باللون الأحمر الداكن.
لسوء حظها كان زوجها الطبيب في المستشفى الذي يعمل به. هرعت إلى التليفون المحمول لتستنجد به، لكن 10 محاولات اتصال لم تفلح .. يبدو أنه مشغول في حالة طارئة، هكذا حدَّثت نفسها.
تمكَّنَ منها القلق والتوتر، وشعرت بضربات قلبها تكاد تمزق ضلوعها .. فكرت بالاتصال بوالدتها، لكن كيف ستصل إليها من المدينة المجاورة بعد منتصف الليل بساعتين ؟! ولا يمكن بأي حال أن توقظ إحدى صديقاتها المتزوجات في هذه الساعة. وكذلك تحرجَّت أن توقظ جيرانها لنفس السبب.
الألم يقصف أحشاءها بنفس الوتيرة .. مرت عشرُ دقائق كأنها عشرة أيام. تكرر القيء الدموي مرة أخرى، ضربات قلبها تواصل تسارعها، وشعرت بالبرودة تزحف في أوصالها وتغزو أطرافها. فجأة رنَّ التليفون المحمول .. الطالب هو زوجها! .. لم تكد تفتح المكالمة حتى فوجئت بنفسها تطلق صرخة أشد من سابقتها .. وأظلمت الدنيا في عينيها تماماً ..
2-1
«الزرع أو الغسيل» …. نزلت العبارة كالصاعقة على الشاب الثلاثيني المسكين، وحاول عقله تشغيل خطوط الدفاع النفسية الإنكارية، فيوهمه أنه لم يسمع العبارة جيداً، أو أن المقصود بها غير المعنى الذي فهمه جيداً.
فجأة .. ودَّ لو ينقض على الطبيب الذي أطلق عليه هذه القذيفة بدمٍ بارد ووجهٍ خالٍ من الانفعالات، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
«إزاي الكلام ده يا دكتور ؟! … مفيش أدوية تنشط الكلى .. أي حاجة بدل النهايتين السود اللي انت بتخيرني بينهم !» … قالها بلهجة الغريق الذي يحاول التعلُّق بقشة، وولَّت كل حواسه وجهَها شطر شفاه الطبيب ينتظر أي ردٍ يُحيي شبابه الذي يراه يحتضر أمام ناظريه.
«صدقني لو فيه بدايل يا بني كنت هبدأ بيها، لكن واجبي بيقول إني لازم أصارحك بخطورة حالتك بمنتهى الوضوح، لإن الموضوع ما يحتملش تأخير، والخيارات صعبة، وعايزة حسم» .. خرج الكلام بأداء آلي رغم محاولة الطبيب إكسابه بعضًا من روح التعاطف.
أُسقِطَ في يدِ الشاب، فخرَّ على أقرب كرسي يبكي في مرارة هو وأعز أصدقائه الذي صحبه طوال الشهر الفائت في جولته المؤلمة بين العيادات والمشافي.
بدأت رحلة العذاب منذ أسابيع قليلة بانتفاخ بسيط حول العينين في الصباح، ووصلت الذروة الأسبوع الماضي بالإنعاش القلبي الرئوي في العناية المركزة .. والآن وصل إلى مفترق طريقين أحلاهما شديد المرارة، وتظللهما غيوم الموت …
الألم النافع الضار
لا يوجد مثال أوضح من «الألم» للتعبير عن امتزاج المتضادات في حياتنا ..
الألم -المادي والمعنوي- هو الرعب الأزلي للبشرية جمعاء، ويعتبر التغلب عليه أو على الأقل التعامل معه بطولةً حقيقية، وتسامياً للبشر فوق بشريتهم وضعفها. ومع ذلك فالألم قد يكون هو الحياة في أوقاتٍ كثيرة.
ألم الصدر الشديد الذي يصاحب جلطات القلب المميتة هو جرس الإنذار الذي يدفع الإنسان دفعًا للكشف العاجل، فيكون سبباً في إنقاذ حياته. آلام الصداع في أحيانٍ كثيرة تكون الكاشف الرئيسي لارتفاع ضغط الدم، والذي يحلو للكثيرين تلقيبه بالقاتل الخفي. أوجاع البطن المختلفة تكون النذير المبكر بكوارث كالانسدادات المعوية أو الغرغرينا أو التهابات البنكرياس والمرارة والزائدة الدودية..إلخ، فتدفع المتنبه للتحرك السريع لإجهاضها في بدايتها قبل أن يتفاقم أمرها، الأمثلة لا حصر لها فعلا.
أشهر سياقات الألم هو نتاج تفاعل مهم جدًا في جسم الإنسان، هو الالتهاب (inflammation). والذي يمكن اعتباره أحد أجزاء خطة طوارئ الجسم للتعامل مع أي غريب، سواء كان إصابة بكتيرية أو فيروسية تخوض معركة شرسة مع دفاعات المناعة، أو لسعة من النار أو تسمم غذائي أو انسداد في الشرايين المغذية لأعضاء هامة بالجسم أو.. أو.. إلخ. وقد تكون خطة الطوارئ هي عين الكارثة، كما يحدث في الالتهابات الناجمة عن أمراض المناعة الذاتية أو فرط الحساسية لأي مؤثر داخلي أوخارجي.
تموج ساحة الالتهاب بالكثير من التفاعلات والمواد الكيماوية التي تستثير نهايات الأعصاب، فتسري بها الإشارات الكهربية إلى الجهاز العصبي المركزي، فيترجمها إلى الإحساس بالألم. وتوجد طرق أخرى عديدة لاستثارة النهايات العصبية الناقلة للألم، كالضرب على أماكنها بقوة، أو الضغط عليها بثقل شديد، أو التعرض للحرارة الزائدة أو البرودة الشديدة.. إلخ.
ورغم الكلام العقلاني المجرد عن أهمية الألم كإنذار، فإن تجربة الألم لا يستهان بها، ولذا كان تسكين الألم طموحًا بشريًا أزليًا. ومن هنا كان اكتشاف المسكنات (analgesics) بأجيالها المتعاقبة سدًا لحاجة إنسانية أصيلة. لكن كعادة الإنسان التي لا -ولن- تنقطع، فإنه حوَّل هذا الباب من الرحمة إلى بوابة للجحيم.
1-2
تسربت الرائحة المميزة إلى أنفها، إنها رائحة المستشفيات التي تمقُتُها. فتحت عينيْها فجأة لتجد نفسها فعلاً فيما يشبه العنبر أو العناية لا تدري. لا تعرف كم مرَّ من الوقت، آخر ما تذكره هي صرختها في التليفون رداً على زوجها. وفجأة وقفت إحدى الممرضات أمام سريرها وابتسمت، وقالت بطريقة شبه آلية: «حمداً لله على السلامة» … «دكتور محمد .. دكتور محمد .. تعالَ بسرعة !» .. فجأة ظهر زوجها وجاهد كي يبتسم لها وأن يخفيَ جبال القلق التي تحتل تضاريس وجهه.
في تلك اللحظة كانت حواسها تستكمل استيعاب المشهد من حولها. كيس دم يتسرب إلى وريدها من كانيولا في الذراع الأيسر، بينما زجاجتي محلول تغزوانها من الناحية الأخرى. أنبوبة سخيفة مؤلمة تمر عبر أنفها .. إلى معدتها ؟! .. وتتصل من الخارج بكيس مليء إلى منتصفه بالدم ! … دمائها ! شيءٌ أسخف وأكثر ألماً يخترق أعماقها من أسفل .. لابد أن هذا هو القسطرة البولية التي كانت تصاب بالقشعريرة عندما تسمع اسمها. صوت المرقاب المزعج وهو يعدُّ عليها أنفاسها وضربات قلبها. رائحة الدم المعدنية الصدئة تزكم أنفها. الشيء الإيجابي الوحيد أن ألم بطنها الناري يكاد يكون اختفى.
هبَّ زوجها ليساعدها في الجلوس … «حمدا لله على سلامتك يا حبيبتي» .. وقبل أن تبادره بالسؤال المنطقي عن متى وكيف ولماذا وكم مر من الوقت و … و … «ارتاحي بس دلوقت وهفهمك كل حاجة في وقتها. الحمد لله إنك معانا دلوقت، أنا عايزك ترتاحي عشان بعد شوية هنعمل منظار نشوف الدنيا إيه».
شعرت بمزيج من الغضب والخوف، ولم تعجبها طريقته الوصائية.. «هكذا هم الأطباء» حدثت نفسها بذلك. لكن لم تكن تملك إلا أن تفعل كما تفعل دائماً … أن تثق به تمامًا.
المسكنات ذات الوجهين
ليس الحديث هنا عن المسكنات التي تندرج تحت بند «المخدرات» فلهذه أحاديث أُخَر. حديثنا هنا عن المسكنات المعتادة التي تباع من الصيدليات بالآلاف في كل دقيقة، والتي تكتظ بها الأدراج والجيوب والحقائب …إلخ، والتي يتعامل معها البعض كالبونبون مثلًا.
لن أخوض في مقدمات تاريخية عن نشأة المسكنات، وكيف كان المصري أو الصيني القديم يسكن آلامه ..إلخ. سيتركز كلامنا عما نعيش فيه الآن من كارثة في سوء استخدام المسكنات الحديثة.
كانت القفزة الأولى هي الأسبرين أو حمض السالسيليك. والذي تقلَّبت به أيدي البشر حتى أصبح ينوب عن العملات المعدنية كباقي حساب في الصيدليات وحتى في أكشاك السجائر! الأسبرين هو الأب الروحي لمجموعة المسكنات العظمى المضادة للالتهاب والتي تسمى بـ «NSAIDS» أو مضادات الالتهاب غير الكورتيزونية. وكان وجه التميز لها أنها مضادة للالتهاب وللحمى ومسكنة للألم في آن واحد، وفي نفس الوقت لا تحمل الآثار الجانبية التي لا تعد ولا تحصى لأشهر المجموعات المضادة للالتهاب وهي الكورتيزونات.
الأسبرين يعطل إنزيمي COX 1 وCOX 2، وعن طريق هذا يقلل إنتاج البروستاجلاندين أحد أشهر مواد تفاعلات الالتهاب وإنتاج الألم في أجسامنا. ولكن للأسف يختلط بشدة النافع بالضار في هذا الدور. فالأسبرين يضرب أيضًا خطوط إنتاج البروستاجلاندين المفيد كالنوع الذي يساهم في بناء بطانة المعدة لتتحمل الأحماض المعدية المركزة الهاضمة، والنوع الذي يساهم في توسيع الشرايين الواردة إلى الكلى لضمان وصول التغذية الدموية الكافية لها. كما وُجد للأسبرين أثرًا جانبيًا خطيرًا هو زيادة سيولة الدم عن طريق الإخلال بوظائف الصفائح الدموية، وإن أصبح -للمفارقة- هو أكثر ما يكسب الأسبرين قيمته الحالية في عالم الطب كواسطة العُقد. في أدوية جلطات القلب والمخ! لينقذ حرفيا حياة مئات الآلاف من البشر سنويًا.
ومع مرور الوقت، بدأ إنتاج مجموعات جديدة من NSAIDS أقوى من الأسبرين في آثاره العلاجية، كمجموعة البروفين ذائعة الصيت، ومجموعة الديكلوفينات، والتي يندرج تحتها المنتج الأكثر ابتذالا في استخدامه بمصر بعد الأسبرين وهو الكاتافاست! لكن للأسف لم تستطِع هذه المجموعات التخلص من الآثار الجانبية الخطيرة خاصة التهاب المعدة، وقرح المعدة والإثنا عشر، وكذلك الإضرار بالكلى.
ظهرت مجموعات أقل خطورة في آثارها الجانبية كمجموعة الأوكسيكام، والتي تركز على إنزيم COX 2 المساهم الأكبر في إنتاج البروستاجلاندين المسبب للالتهاب والألم، بينما تتجنب COX 1،المساهم الهام في إنتاج بروستاجلاندين بطانة المعدة. لكن مع ذلك استمر تلف الكلى مع الاستخدام المزمن مؤرق للغاية.
1-3
كانت تجربة مرعبة لم تتخيل أن تمر بها. كانت تشعر بكل شيء تقريبًا رغم أنهم أكدوا لها أنها ستأخذ مخدرًا عامًا لكي لا تشعر بالمنظار بتاتا. كل ما فعله المخدر هو أن جعلها لا تقوى على الاعتراض كثيراً، وتشعر ببعض الانفصال عما حولها، لكنها كانت تسمع كل صوت وكل تعليق! والأكثر رعباً أنها كانت تشعر بهذا الشيء المعدني يملأ جوفها.
«قرحة نازفة كبيرة في بطانة المعدة، والتهاب شديد في مساحة كبيرة من باقي البطانة. والحمد لله تم حقنها بالمنظار وتوقف النزيف. وهناك قرحة أخرى الجزء القريب من الإثنا عشر. وستأخذين جرعة مكثفة من مضادات الحموضة المعدية لإعطاء الفرصة للقرحة للالتئام» .. هكذا لخص لها زوجها نتائج المنظار، بعد أن عاتبها بشدة على الإسراف في استخدام المسكنات لدى أقل شعور بالألم. فهي المتهم الرئيس فيما حدث «كنت على مدار الشهور الماضية تفقدين الدم شيئًا فشيئًا في نزيف مزمن قليل لكنه مستمر، واستمرت حموضة المعدة في الارتفاع مُحفَّزة بالمسكنات، فزادت القرح التهابًا وعمقًا حتى جاء اليوم المشؤوم وتآكلت جدران أحد الأوعية الدموية الكبيرة في قاعدة القرحة، فسببت النزيف الحاد الذي أفقدكِ أكثر من لتر من دمائك على الأقل، وهبط بنسبة الهيموجلوبين إلى 7 بينما الطبيعي ألا تقل عن 12، وحدث هبوط شديد في الدورة الدموية… والحمد لله أن استطعت الوصول إليكِ في الوقت المناسب ..» لم يستطِع أن يحبس دمعة ترقرقت على وجنته عندما وصل إلى هذا الجزء. ولم تتمالك نفسها هي الأخرى فاغرورقت عيناها بالدموع، لا تدري ألمجرد التأثر بكل ما حدث، أم لأنها لم تصدق أن مهنته تركت جانباً في نفسه يتأثر لها ويدمع كباقي البشر !
المسكنات في يد الجميع !
هنا مكمن الخطورة .. يغترٌّ الكثيرون بسهولة تداول هذه المسكنات المعتادة، فيسرفون منها دون ضابط، فيستهلكون منها بجرعات يومية أو شبه يومية.
هناك بالفعل بعض المرضى بالآلام المزمنة الشديدة – كمرضى روماتويد المفاصل مثلاً ـ يضطرون لاستخدام جرعات كبيرة من المسكنات، وحتى هؤلاء يُنصحون بأسرع ما يمكن بأخذ العلاجات المباشرة للحالة، وذلك لتقليل اللجوء للمسكنات بشكل مزمن.
وأيضا أثبتت الدراسات والمشاهدات خطورة الإسراف في المسكنات عند مرضى القلب خاصة المصابين بقصور الشرايين التاجية، وضعف عضلة القلب.
وينصح الأطباء عمومًا في حالة الاضطرار لاستخدام المسكنات بالبدء بأكثرها أمانا وهو الباراستيمول (ويسمى أيضًا بالأسيتامينوفين)، إذ ليس له تفاعلات خطيرة على المعدة أو الكلى أو القلب ..إلخ، وإن كان للأسف يفتقر إلى قوة التأثير لدى المسكنات الأخرى ذات الآثار الجانبية الأخطر كمجموعة NSAIDS.
في هذا الجزء نكون قد أشرنا إلى بعض وجوه قصة سوء المسكنات. ولكن للقصة جوانب هامة جدًا، خاصة قصة الكلى، تحتاج لبيان أكثر تفصيلاً … في المقال القادم