ألم يبطل العلم الحديث حكايات الدين عن الكون؟
سأل سائل: نحن في عصر العلم الذي أخرجنا أخيرا من ظلمات الخرافة إلى نور المعرفة.. لماذا تصرون على العودة إلى الوراء؟ أليس العلم متعارضا مع الدين؟ أوليس العلم حينئذ أكثر تعبيرا عن الحقائق وأولى بالاتباع؟
قد بينّا في الحلقة السابعة من هذه السلسلة ما هو العلم، والآن نبيّن اختصارا ما هو الدين (دين الإسلام)، لكي نتكلم بعده فيما يتصوّر فيه التعارض بين العلم والدين، ونتناقش فيه([1]).
قد ذكرنا من قبل ما هو العلم..
فما هو الدين؟
الدين في التراث الإسلامي يُعرَّف بأنه: (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم)، ومعنى أن الدين وضع إلهي: أنه ربط إلهي بين أمور معينة.
ففرضية الزكاة هي وضع إلهي، أي أن الإله أوجب على الإنسان في دين الإسلام أن يتبرع بــمقدار معين من فائض ماله للفقراء، فهذا ربط إلهي بين معنى الوجوب (وهو تحتُّم الفعل وحُرمة الترك) وبين هذا القدر المخصوص من المال بالشروط المذكورة في الشريعة الإسلامية.
فالدين هو في حقيقته ربط إلهي. وشرط هذا الخطاب الديني أن يتوجه إلى العقلاء، ثم يقوم هؤلاء العقلاء باختيارهم بالاستجابة لهذه الأوامر والنواهي الدينية، وهذه الاستجابة لهذه الأوضاع الإلهية والأوامر الدينية فيها خير لهم إذ إنهم سيجازون في الآخرة بالثواب الجزيل، وسيرفع عنهم العقاب الشديد، نتيجة استجابهم لهذه الأوامر والنواهي ، وهي أمور باعثة للعبادة إلى السعادة النيوية والأخروية .
والخطاب الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رسالة الإسلام هو نصوص:
– القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة
ووهذه النصوص تدل على أمور يطلبها الله عز وجل من الناس، ويمكن تقسيمأهم مطالبها إلى أربعة أقسام:
- عقائد: وهي أمور معرفية يجب على المكلف أن يعلمها علما جازما مطابقا للواقع عن دليل، وهي العلم بوجود الله وصفاته، وبرسالة الرسل، وبالآخرة والحساب والقضاء والقدر.
ومن أهم عقائد الإسلام:
أن الله موجود، وأنه واحد لا شريك له، وأنه متصف بالقدرة والإرادة والعلم، وأنه متعال على الزمان والمكان، وأنه ليس كمثله شيء
وأنه أرسل للبشر أنبياء ورسلا كسادتنا آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم، وأرسل معهم كتبا كالقرآن والإنجيل والتوراة والزبور
وأنه يحاسب الخلائق على أعمالهم يوم القيامة، ويجازيهم بالجنة أو بالنار.
- عبادات: وهي أوامر أمرنا الله بها تختص بعلاقتنا بالله كالصلاة والصوم والحج.
- معاملات: وهي أوامر أمرنا الله بها تختص بعلاقتنا بالبشر كجواز البيع، وحرمة الربا، وجواز الزواج والطلاق، وحرمة الزنا، وحرمة الاعتداء على النفس والعرض والمال إلخ…
- أخلاق: وهي أوامر تختص بعلاقة الإنسان مع غيره ، وتختص بباطنه ، مما ينبغي أن يتحلى بها كالصدق والإخلاص، والإيثار ، وأن يطهر نفسه من الأخلاق القبيحة كالكبر والغرور.
– ثبوت تلك النصوص
وهذه النصوص الدينية بعضهاقطعي الثبوت (أي أننا نقطع بثبوته إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أوحي إليه من ربه) كالقرآن الكريم وقليل من الأحاديث النبوية
وبعضها ظني الثبوت (وهو الذي نرجح ثبوته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكننا لا نقطع بذلك) كالأحاديث الصحيحة والحسنة.
ومن هذه النصوص ما هوقطعي الدلالة (أي أننا نستطيع استنباط المعنى فيه بلا تردد ولا اختلاف).
ومنها ما هو ظني الدلالة (أي أن دلالة اللفظ على معناه فيه ليست قطعية، بل هي ظنية مبنية على النظر والاجتهاد في الفهم).
فهذا–باختصار شديد– تعريف عام بديننا الإسلامي.
– كيف يتصور أن يتعارض العلم والدين؟
إذا قرأنا ما سبق في المقالة السابعة من تعريف العلم التجريبي ، وما سبق في أول هذه المقالة من تعريف الدين، فإننا نقول أن التعارض بين العلم و الدين يمكن أن يُتصوَّر في أمرين:
- فيما تخبر به النصوص الدينية من أمور كونية وعلمية قد يُتَصوَّر تعارضها مع العلم التجريبي بأن تتعارض حكاية الدين عن الأمر الكوني مع حكاية العلم.
- فيما يخبر به الدين من أحكام وأوامر ونواهٍ قد يتصور تعارضها مع العلم في التطبيق (بأن يأمر الدين بشيء ويقول العلم أنه مضرٌ مثلا)
فالتعارض الأول يُتصَوَّر في الأمور العلمية الخبرية، والتعارض الثاني يتصور في الأمور العملية الفعلية. وسنتناول النوع الأول في هذه المقالة، والنوع الثاني في المقالة التي تليها بإذن الله.
– قاعدة عامة في تعريف التناقض وبيان التعامل معه
التناقض في المنطق هو:(اختلاف القضيتين بحيث يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى). أي أن تكون هناك قضيتان، بينهما اختلاف بحيث يستحيل عقلا أن يحصلا معا. فقولي مثلا (قميصي الأخضر في غرفتي) و(قميصي الأخضر ليس في غرفتي) قضيتان متناقضتان لأنه إن صدق قولي أن قميصي الأخضر في غرفتي .. فقد كذب أنه ليس في غرفتي، فلا يمكن أن يكون قميصي الأخضر في الغرفة وليس في الغرفة في آن واحد.
ولكن هنا تنبيه هام. لكي يتحقق التناقض فإنه لابد أن يتحققالاتحاد بين القضيتين في كل شيء إلا في إثبات القضية أو نفيها.
فلا تناقض بين قولي (زيد قائم) وقولي (عمرو ليس بقائم) لاختلاف الموضوع الذي تتناوله القضية (زيد في الأولى وعمرو في الثانية)
ولا تناقض بين قولي (زيدٌ قائمٌ) وقولي (زيدٌ ليس بقاعدٍ) لاختلاف المحمول أي الحكم الذي أحكم به على زيد (وهو القيام في الأولى والقعود في الثانية)
ولا تناقض بين قولي (زيدٌ قائمٌ أي ليلا) و(زيدٌ قائم أي نهارا) لاختلاف الزمان
ولا بين (زيدٌ قائم أي في المسجد) و(زيد قائم أي في السوق) لاختلاف المكان
ولا بين (زيدٌ أبٌ أي لبكر) و(زيدٌ ليس بأبٍ أي لعمرو) لاختلاف الإضافة
ولا (الجسم مفرق للضوء أي بشرط كونه أبيض) و(الجسم ليس مفرِّقا للضوء أي بشرط كونه أسود) لاختلاف الشرطـ
ولا (الخمر في الزجاجة مسكرٌ أي فيه قوة الإسكار) و(الخمر في الزجاجة ليس مُسكِرًا أي بالفعل) لاختلاف القوة والفعل
ولا (الزنجي أسودٌ أي بعضه) و(الزنجي ليس بأسود أي كله) لاختلاف الجزء والكل.
فالخلاصة أن القضيتين المتناقضتان لابد أن يتفقا في كل شيء ،ولا يكون بينهما خلاف إلا في الإثبات والنفي، ولكي يتحقق التناقض في الواقع بحيث يلزم من ثبوت إحدى القضيتين واقعا أن تنتفي الأخرى واقعا، لابد أن تكون كل قضية من القضيتين قطعية، فإن القضية الظنية لم نتأكد من ثبوتها بعد حتى يمكننا أن نقطع بانتفاء نقيضها.
العلم حل المشكلات
والعلم –كل علم- أساسه محاولة حل المشكلات، والتوفيق بين الظواهر التي تبدو متناقضة، وهذا يكون باتباع الخطوات العلمية الآتية قبل أن نحكم بأن إحدى القضيتين نقضت الأخرى:
- ( التصور الصحيح )
أولا أننفهم القضيتين فهما عميقا، ونحرر المصطلحات، فلا ينبغي أن يكون هناك أي لبس أو غبش في فهم وتصور الكلام قبل الحكم عليه.
- ( تحرير محل النزاع )
أن نتأكد أن القضيتينتتكلمان على نفس الموضوع ونفس الحكم في نفس الزمان ونفس المكان بنفس الشروط والإضافات، لأنه إذا حصل اختلاف فيما تتناوله كل قضية من الاثنتين فإن التناقض لا يقع.
- ( الجمع حيث أمكن )
أن نحاولالجمع بين القضيتين، فإن استطعنا أن نفهم كلا منهما على وجه مقبول في العقل واللغة والواقع، ليس فيه تحريف للقضية، وتمكنّا عبر هذا الفهم الصحيح أن ندرأ التعارض بين القضيتين، فقد توصلنا لحل الإشكال.
- ( الترجيح بين الظنيات حيث أمكن )
وإن لم يمكن الجمع بين القضيتين، وكانتا ظنّيتين فإنناننظر في المرجحات ، هل هناك مرجح يقوى جانب قضية على حساب الأخرى أو لا ؟ وقد تقوى المرجحات في كفة ، ثم بعد طول نظر وتفكير تقوى الكفة الأخرى
- ( التوقف )
فإن لم توجد مرجحات فإننا نتوقف عن الحكم عليهما، لأننا لا ندري بعد أي من القضيتين صادق حتى نبطل به القضية الأخرى.
- ( إبطال الظني المعارض للقطعي بعد تعذر الجمع )
إن ثبت أن إحدى القضيتين قطعي، وأنه لا يمكن الجمع بينهما بوجه مقبول عقلا أو لغةً، فإن القضية الثابتة التي نقطع بصدقها يلزم منها حينئذ كذب الأخرى.
فالتوفيق بين القرآن والعلم التجريبي معناه أنه عند توهم أو ظن وجود التعارض أننا نحاول تفسير أحد المتعارضين أو كليهما أو تخصيص أحدهما أو كليهما بحيث نفهم كلاً من المتعارضين على وجهٍ يصحّحه من غير تحريف المعنى وتغييره بشكل لا تقبله قواعد العلم. فإذا فشلنا في فهم أيٍ من المتعارضين أو تصحيحه بحيث لم يفهم إلا على هذا الوجه، وكان بينهما تعارض أو تضاد، مع كون كل منهما ظنيا، ولم يمكن ترجيح ، فإننا نتوقف عن الحكم عليهما.
كيف نحل التعارض المتوهم بين العلم والدين في الأمور العلمية والكونية المعرفية:
نحن ندعي أن التعارض بين الدين والعلم في الغالب يكون متوهما غير حقيقي، وبيان ذلك أن نقول:
- ما دل عليه العلم قطعا لن يدل الدين على عكسه قطعا ؛ لاستحالة تعارض القطعيين
وما تُصُوِّر من تعارض فهو لسوء فهم الدين ، أو سوء فهم العلم
- وما تعارض فيه ظني العلم مع قطعي الدين ، فإنه يجب اعتماد قطعي الدين فيه، ثم يكون نظر العالم التجريبي في النظرية الظنية كيف يمكن أن تتواءم مع ذلك القطعي الذي مصدره الخبر الصادق، أو حتى في إعادة النظر في نفس النظرية العلمية لاحتمال كونها غير معبرة تمام التعبير عن الحقائق الدنيوية .
- وما تعارض فيه قطعي العلم – وهو قليل جدا – مع ظني الدين ، فيكون ذلك من الدلائل على أن ذلك الفهم للنص الديني فيه نظر وهو مغلوط. فنحن نتمسك بالقطعي في كل الأحوال.
- وما تعارض فيه ظني العلم مع ظني الدين ، فهذا محل اجتهاد في محاولة التوفيق بينهما أو الترجيح ، أو التوقف عن الحكم.
فالمنهجية العلمية هي التي تُتبع في النظر والترجيح بين الحقائق والمعارف المختلفة، من حيث النظر في ثبوت ذلك ، وفي قوة دلالته على مدلوله ، ثم في محاولات التوفيق ، أو الترجيح.
القطعي من العلم والدين
من المهم قبل الخوض في هذه المباحث التنبيه على أن القطعي في العلم التجريبي قليل جدا جدا. فنظرية كنظرية أينشتاين مثلا (النسبية العامة) و هي من أهم النظريات العلمية ومن أصحها ليست قطعية، بل نضيف أنها متعارضة مع نظرية أخرى هي من أهم النظريات العلمية كذلك وهي ميكانيكا الكم Quantum mechanics.
والقطعي من الدين كذلك قليل جدا.
أما القطعي من الدين في خصوص العلوم فإنه أشد ندرة ويقارب أن يعد على أصابع اليد الواحدة. فكلام القرآن عن الأمور الكونية ليس تدخلا في بيان أحوالها العلمية، وإنما بهدف التأمل في الكون الذي هو أحد أهم الوسائل لتنمية الإيمان. فنظر الدين بالأساس إلى الآخرة، وإنما ينظر إلى الدنيا من حيث أنها جسر يعبر عليه الإنسان إلى الآخرة.
بعض ما تُوُهِّمَ تعارضه مع العلم من النصوص الدينية ،وبيان منهجية تعامل العلماء في تفسيرها
1. كروية الأرض
مثال: كروية الأرض قطعية من الناحية العلمية، و يتوهم البعض التعارض بينه و بين الدين، وهذا التعارض باطل لا يصح. فليس في القرآن ما يدل على عدم تكوير الأرض، بل فيه ما قد يستدل به على تكويرها كقوله تعالى ((يكوِّرُ الليل على النهار)). بل وقد قال بذلك الكثير من علماء المسلمين من فوق الألف سنة.
و أحيانا يزعم البعض أنا نتأول الدين ونحرفه ليوافق العلم، ويضربون بهذه المسألة و غيرها مثالا، وهذا محض باطل لا يصح، بل هذا الذي نقوله قاله السلف
بل قال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي( ت 336هـ / 947 م):
(لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة
وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين: أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب.
قال: ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركاتها ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء ثم تنحدر على ذلك الترتيب. كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا
قال :وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .
قال : ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب) ([2])
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في الجواب على بعض يشكل عليه فهم بعض الآيات فيظن أن الأرض غير كروية :
( {وإلى الأرض كيف سطحت} [ الغاشية 20] سطحا بتمهيد وتوطئة، فهي مهاد للمتقلب عليها،ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح) [3]
وقال الإمام النيسابوري في غرائب القران:
(وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة… والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال بدليل قوله كَيْفَ خُلِقَتْ ، كَيْفَ رُفِعَتْ ، كَيْفَ نُصِبَتْ ، كَيْفَ سُطِحَتْ ،وليس في السطح دلالة على عدم كرية الأرض لأنها في النظر مسطحة وقد تكون في الحقيقة كرة إلا أنها لعظمها لا تدرك كريتها)
حتى أن ابن حزم الأندلسي قال قبل ألف سنة (أي قبل قطع الإنسان بكروية الأرض، وقبل النهضة العلمية الأوروبية، وقبل كل هذا النقاش والجدل بقرون طويلة) قال:
(إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل:{يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض [4] مأخوذ من كور العمامة وهو إدارتها، وهذا نص على تكوير الأرض) [5]
2. عين حمئة
والبعض يطلق أقوالا مغالطا زاعما بها التعارض بين الدين والعلم. فمن ذلك قول بعض الملحدين:
أن الدين يقرر أن الشمس تغرب في عين حمئة، أي أنها تغطس في هذه العين عند غروبها، وهذا هو موضع اختفائها. وهذا القول على ظهور فساده ، وسهولة رده ، إلا أننا نجيب عليه نظرا لانتشاره والتشغيب بمثله. وحتى لا يظن أحد كذلك أننا نخترع ونؤلف أقوالا لنوفق بين العلم والدين، فإننا ننقل كلاما لابن حزم كذلك (المتوفي من قرابة ألف سنة، قبل قرون طويلة من النهضة العلمية، وبروز هذه النقاشات إلى السطح. يقول:
(وذكروا أيضاً قول الله عز وجل عن ذي القرنين ((وجدها تغرب في عين حمئة)) (..) وهذا هو الحق بلا شك وذو القرنين كان في العين الحمئة الحامية (حمئة من حماتها حامية من استحرارها) كما تقول رأيتك في البحر تريد أنك إذ رأيته كنت أنتَ في البحر.
وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل، ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان مرئيٌّ مشاهد ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف، وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم عين البتة ، لاسيما أن تكون عيناً حمئة حامية، وباللغة العربية خوطبنا.
فلما تيقنا أنها عين بإخبار الله عز وجل الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه علمنا يقيناً أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار هنالك.
وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس ليس يشغل من الأرض إلا مقدار مساحة جسمه فقط قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً ، ومن هذه صفته فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض بمقدار مكان المغارب كلها لو كان مغيبها في عين من الأرض كما يظن أهل الجهل. ولابد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض أو من نشز من أنشازها ما يمنع الخط من التمادي إلى أن يقول قائل إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة عيناً حمئة ولا حامية.
وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك، وأنها إنما هي من الفلك سراج.
وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يجوز أن يختلف ولا يتناقض ، فلو غابت في عين في الأرض كما يظن أهل الجهل أو في البحر لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك .. وهذا هو الباطل المخالف لكلام الله عز وجل حقاً، نعوذ من ذلك، فصح يقيناً بلا شك أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة الحامية حين انتهى إلى آخر البر في المغارب وبالله التوفيق لاسيما مع ما قام البرهان عليه من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض وبالله تعالى التوفيق )) [6]
وخلاصة كلام ابن حزم، وهو ما يوافقه عليه جمع كبير من المفسرين، أن قوله تعالى: (وجدها تغرب في عين حمئة) أي أن قوله تعالى (في عين حمئة) راجع إلى ذي القرنين لا إلى الشمس، فذو القرنين كان هو في العين الحمئة لا أن الشمس هي تغرب وتدخل في عين حمئة كما يظن أهل الجهل. والحمد لله أن قيل هذا الكلام في تفسير الآية قبل ألف سنة حتى لا يدعي مدعٍ أننا نخترع كلاما نرد به هذه التشغيبات والمغالطات.
3. خلق الأرض في ستة أيام
كذلك من زعم أن الخلق في ستة أيام متعارض مع العلم، وهذا إما قلة عقل أو غرور، إذ أقل ما ينبغي أن يعتقد العاقل في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عبقريا من عظماء العالم، ألم يخطر على باله إذن، وعلى بال من تبعه – وقد تبعه العظماء على مر العصور – أن اليوم في لغة العرب (وهي لغتهم التي كانوا يتكلمون بها كالعامية لنا) هو من شروق الشمس إلى غروبها، وأن خلق السماوات والأرض كان بالضرورة قبل وجود الشمس ، و بالتالي قبل وجود اليوم بهذا المعنى؟!
وعلى رغم ضعف هذا الاعتراض فإننا نذكر جوابا نظرا لاشتهار هذه الشبهة بين بعض الناس.
فنقول:
الأصل في الكلام أن يُحمل على حقيقته، فإن استحال حمله على الحقيقة، حُمل على المعنى المجازي. فلو قلت لك: (رأيت أسدا) فالأصل حمل كلامي على المعنى الحقيقي وهو الحيوان المفترس، فلو قلت لك: (رأيت أسدا يخطب في الجنود) لاستحال حمل كلامي على المعنى الحقيقي للأسد هو الحيوان المفترس لأنه لا يخطب في الجنود، فحُمل كلامي على المعنى المجازي وهو القائد الشجاع.
فقوله تعالى في الصيام مثلا: (أياما معدودات). نقول: ما المعنى الحقيقي لليوم؟ هو من شروق الشمس إلى غروبها. (قال في لسان العرب: اليَوْمُ: معروفٌ مِقدارُه من طلوع الشمس إِلى غروبها، والجمع أَيّامٌ). فهل يمكن حمل المعنى في الآية على اليوم الحقيقي. الجواب: نعم. فتحمل على المعنى الحقيقي
وقوله تعالى في خلق السماوات والأرض: (في ستة أيام). نقول: ما المعنى الحقيقي لليوم؟ هو من شروق الشمس إلى غروبها. فهل يمكن حمل المعنى في الآية على اليوم الحقيقي. الجواب: لا. لأن الآية تتكلم عن حالة قبل خلق السماء والأرض أصلا، فلا يمكن حملها على المعنى الحقيقي لليوم. فلابد أن ننقل المعنى من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي لليوم. فما هو المعنى المجازي لليوم؟
- منها أنه: مقدار زمني كمقدار الشروق إلى الغروب.
- ومنها أنه: مقدار زمني نسبيٌ بين أمرين كنسبة حركة الشمس إلى حركة الأرض (وعليه تحمل الآيات نحو: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما يعدون)، وفي قوله تعالى: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فاختلف تقدير اليوم لأن المقصود به مطلق المقدار الزمني. أي أن اليوم في مقدار زمني نسبي يعلمه ربك كمقدار ألف سنة من المقدار النسبي الذي تعرفونه أنتم
- ومن معانيه: النعم. وعليه يحمل قوله تعالى: (وذكرهم بأيام الله) أي بنعم الله
- ومن معانيه: الطور أو المرحلة، ولذلك تطلق كلمة المرحلة ويُراد بها اليوم. يُقال: (سافرت مرحلتين) أي يومين. وتطلق كلمة اليوم ويُراد بها المرحلة.
فلما بطل حمل الآية على الأيام الحقيقية لعدم وجود الشمس والأرض، حُملت على المعنى المجازي.
فمن ثم ، لا وجه لزعم مناقضة الأية للمعنى العلمي.
وقد قال الإمام فخر الدين الرازي ( ت: 606 هـ / 1210 م ) من قبل مجيبا على استشكالات البعض:
(بأنه لو قيل: اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام؟
فالجواب: أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله: {لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا }[مريم: 62] والمراد: على مقدار البكرة والعشي في الدنيا ؛ لأنه لا ليل ثَمَّ ، ولا نهار.
ولو قيل: أنه تعالى قال: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50] وهذا كالمناقض لقوله: خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فالجواب : أن قوله: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة.
فالمقصود الأصلي من معنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى وإن كان قادرا أن يخلق كل شيء دفعة واحدة، لكن إرادته اقتضت أن يخلق كل شيء في وقت مقدّر معلوم. ولذلك جائت التوصية في الآية التي تليها بأمر النبي بالصبر وانتظار أمر الله الذي أراده في وقت معلوم
فهو تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ، ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل.[7]
وعلى هذا قول العامة في المثل المشهور أمرا بالصبر (ربنا خلق الكون في ست أيام) والمعنى: اصبر على ما أصابك، وآمن أن الله يجعل كل شيء في وقت معلوم بقدر معلوم، كما أنه خلق السماوات والأرض على مراحل وكان يقدر على خلقها دفعةً.
وهذه أمثلة قليلة، وسوف نتناول في مقالات لاحقة بإذن الله كثيرا مما يتوهم أنه تعارض بين القرآن وبين العلم بالمناقشة والتفنيد، وأكثره من سخيف القول الذي يُـحمِّلُ القرآن ما لا يحتمل من المعاني، ثم يزعم أنها تعارض العلم.
4. منهجية النظر في النصوص في ظل الحقائق العلمية الأخرى
ونحن ذكرنا هذه الأمثلة لا لخصوص الجواب على الشبهات المطروحة عليها فحسب ، بل أهم من ذلك في هذا المقام هو:عرض نماذج تشير إلى المنهجية العلمية التي اتخدها العلماء في تفسير هذه الآيات ، وهي:
أنهم نظروا في المشاهدات وتفسيرها (وهو ما يقوم به العلم التجريبي)، ثم نظروا في المعاني التي تحتملها النصوص، وفسروا النصوص الشرعية بما لا يتعارض مع ما يعرفونه عن العالم والكون ، دون ضرب للآيات ببعضها ، ودون تعسف في تأويل الآيات بما لا تحتمله اللغة العربية ، ودون جحد المشاهات.
فالنظر في التوفيق والترجيح باب واسع ، يحتاج إلى فهم عميق ودقيق للمباحث العلمية ، وكذلك للمباحث الدينية ، حتى يتأكد الناظر من حقيقة فهمه لكلا المسألتين ، مع الإلمام بالتفسيرات والتأويلات المخلفة لكلا الأمرين ، العلمي والديني ، حتى يمكن الجزم بالتعارض في الحقيقة.
فقد يكون هناك أكثر من نظرية علمية لتفسير المشاهدات ، ويكون داخل المجتمع العلمي نقاشات ومحاورات عن أي تلك النظريات أفضل في تفسير المشاهدات، ثم إذا استقر جمهور العلماء على نظرية ، ففي نفس بعض المسائل نجد خلافات في تفسيرات تلك المشاهدات في ظل النظريات ، ثم قد يحصل تغير كامل في النظرية عن طريق تغير كامل في رؤية الواقع من منظور مختلفparadigm shift ، فما ظُن صحته ، يظهر ما فيه من ضعف وخلل . ( وقد تكلمنا على ذلك في مقال سابق)
وكذلك يقال في النص الديني، من حيث التفاوت في قوة ثبوته نقلا، ومن حيث الاحتمالات التي يحتملها تأويلا وفهما؛ فعملية التوفيق بين الأقوال أو الترجيح بينهما يحتاج إلى علم عميق في الأمرين؛ العلمي والديني، وإن من المجازفة الشديدة ادعاء التناقض بادي الرأي ، فإنه مخالف للمنهجية العلمية كما سبق أن ذكرنا.
5. من الجناية على الدين
من الجناية على الدين التعرض لإبطال القطعي من العلم بإسم الدين، وهذا المنهج العلمي الذي ادعيناه هو فهم مستقر في تراثنا الإسلامي ، فنجد أن العالم الكبير الإمام أبو حامد الغزالي –الذي لُقِّب بحجة الإسلام- رحمه الله قد أصل له في مقدمة كتابه ” تهافت الفلاسفة ” في بيان المسائل التي يرى أن فلاسفة عصره قد خالفت فيه المسائل الدينية .
وقد قسم المسائل التي خالفوا فيها إلى ثلاثة أقسام :
الأول: ما يرجع فيه الخلاف إلى مجرد اللفظ.
والثاني الذي قال فيه: «إنه لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه».
والثالث: مايتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين.
قال رحمه الله :
القسم الثاني:ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله ؛ إذ لا يتعلق به غرض ،ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة.
فمن يطَّلِع عليها، ويتحقَّق أدلتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين ، وقدرهما ، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له: ” إن هذا على خلاف الشرع”لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقه. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل.
فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: “إن الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكر الله والصلاة” فكيف يلائم هذا ماقالوه؟
قلنا: وليس فى هذا ما يناقض ما قالوه ؛ إذ ليس فيه إلا نفى وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته والأمر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع ، من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟
فإن قيل: فقد روُى انه قال فى آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على أن الكسوف خضوع بسبب التجلى.
قلنا:هذه الزيادة لم يصحّ نقلها ، فيجب تكذيب ناقلها ، وإنما المروى ما ذكرناه ، كيف ولو كان صحيحاً لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية.
فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد.
وأعظم ما يفرح به الملاحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، إن كان [شرعه][8] أمثال ذلك.
وهذا لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً ، ثم إذا ثبت حدوثه ـ فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الإلهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان.
فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت) [9]
كم من الزيف يروج بقولهم :science has proven
تكلمنا فيما سبق على أمثلة مما ظُنَّ فيه التعارض بين العلم والدين في تصور العالم، وبينّا أن هذا ينتج كثيرا عن سوء فهم الدين، ونتكلم الآن على التعارض بينهما الذي سببه سوء فهم العلم.
يكثر التسرع في إطلاق القول بأن العلم قد أثبت كذاscience has proven so and so، وهذه الجملة لا تنطبق حقا إلا على أقل القليل من المسائل العلمية، وسنضرب أمثلة تبيِّن كيف أن كثيرا جدا مما يظن أنه قطعي في العلم ليس كذلك، وهذه الأشياء لا تعارض الدين بالضرورة .. وإنما غرضنا تبيين أن القول بأن العلم قد أثبت كذا ليس سهلا.
العلم لم يثبت بشكل قطعي..Science has Not proven
أن العالم في اتساع في يومنا هذا،إذ يُـحتَمَلُ علميا أن الفضاء ثابت وأن كل شيء آخر (من الذرات و النجوم و الكواكب إلخ) يتضاءل ويصغر. نعم .. هذا يحتاج لإعادة كتابة المعادلات، ومبدأ أوكهام للترجيح بين النظريات يرجح نظرتنا الحالية من اتساع الكون، لكن لا مانع علمي من القول الثاني بناء على تجاربنا الحالية.
العلم لم يثبت بشكل قطعي..Science has Not proven
أن الأرض ليست في مركز المجموعة الشمسية (تخيل!) بل إن هذا ممكن علميا كذلك مع تغيير المعادلات لتصير أعقد.
وهذان المثالان السابقان لا يمكن أن يرجح فيهما إحدى النظرات عن الأخرى بالتجربة، بل إن التجارب العلمية تحتمل النظرتين، و اختيارنا لإحداهما هو محض اختيار و إن عضد بمبدأ أوكهام.
العلم لم يثبت..Science has Not proven
أن الإليكترونات لم تكن مادية ثم صارت مادية، وبالتالي فالحقائق تتبدل، لكن معنى هذا الكلام إذا قاله العلماء أن الإليكترون كان في وقت ما في بداية الكون وقت سخونة الكون يتحرك بسرعة كبيرة جدا تقارب سرعة الضوء ، وهذا بناء على تعريف معين للمادةmatter، وهو أن المادة هي ما يتحرك بسرعة أقل بكثير من سرعة الضوء (أما المتحرك بما يقارب سرعة الضوء فهو radiation)
العلم لم يثبت..Science has Not proven
أن الأجسام تتحول لطاقة والعكس، وإنما المتحول إلى طاقة هو الكتلةmass، وهي صفة للجسم كالطاقة ، لا نفس الجسم أو المادة matter.
وقول بعض العلماء أن جزيئا وآخر تحولوا لطاقة مثلا هو مجاز، وإنما مرادهم أنهم تحولوا لفوتونات محملة بالطاقة
العلم لم يثبت..Science has Not proven
أن الأشياء تأتي من لا شيء، أو أن قطة شرودنجر حية وميتة في آن واحد، أو أن التناقض جائز، فكل هذا مما يساء فهمه عن العلم ، والعلم لم يثبت هذا – وسيأتي في مقالات آتية مناقشة هذه المزاعم- ، ولا يمكن أن يثبت العلم ما يخالف العقل وإن زعم الزاعمون.
فتبين مما سبق أن كثيرا جدا مما يُتوهّم فيه التعارض بين العلم وبين ما أخبر به القرآن عن الموجودات الكونية هو توهُّمٌ راجع إلى سوء فهم الدين ولغة العرب التي نزل بها القرآن ، وإلزام الآيات القرآنية ما لا يلزم عنها من جهة، وإلى سوء فهم المسائل العلمية وتوهُّم أن الظنيَ منها قطعيٌ من جهة أخرى.
وسوف نُجيب في مقالات قادمة على أمثلة عملية كثيرة لما يُظنُ تعارضا بين الدين والعلم ، ونبين أن هذا التناقض متوهم غير حقيقي. ونرحبُ بأسئلة القراء الكرام في هذا المجال لنجيب عليها. وقد ضربنا في هذه المقالة ما يكفي لتوضيح الفكرة والتدليل عليها.[10]
فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال
أن الدين هو وضع إلهي، أي ربط إلهي بين أمور معينة، وهذه الأمور تنقسم إلى عقائد، وعبادات، ومعاملات ، وأخلاق. وأن التعارض بين العلم والدين إنما يتصور في أمرين: فيما تخبر به النصوص الدينية من أمور كونية وعلمية قد يُتَصوَّر تعارضها مع العلم،أو فيما يخبر به الدين من أحكام وأوامر ونواهٍ قد يتصور تعارضها مع العلم في التطبيق.
وأن التعارض لا يحصل أبدا بين قطعي العلم وقطعي الدين بحيث يؤدي إلى أن أحدهما قد أبطل الآخر، وأن كثيرا مما يتصور فيه التعارض راجع إلى سوء فهم القرآن واللغة العربية من ناحية أو إلى توهم القطع في أشياء علمية ليست قطعية من ناحية أخرى.
[1] في مقالات آتية سنتناول بيان الأدلة على وجود الله تعالى ، ثم صحة دين الإسلام ، الذي يلزم منه صحة النصوص الدينية التي جاء به الإسلام من حيث نسبتها إلى خالق الكون، وسنتناول هنا باختصار معنى التعارض المدعَّى مع العلم، وإمكان حصوله من عدمه ، ثم كيفية حله.
[2] وهو من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد بن حنبل ، انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/195.
[3] التفسير الكبير ، سورة الغاشية آية 20.
[4] طبعا لا ينبغي أن يعترض على قولهم بكروية الأرض أن الأرض ليست كرة تماما لما فيها من الانبعاج، لأن إثبات الكروية لا يعني أنها دائرة مستقيمة تماما perfect circle
[5] الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/78 مكتبة الخانجي.
[6] الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/81-82
[7] التفسير الكبير “مفاتيح الغيب” ، في تفسر سورة الأعراف ، آية 54.
[8] في المطبوع “شرطه” ولعل ما أثبتناه الصواب.
[9] تهافت الفلاسفة، تحقيق د. سليمان دنيا ، صـ 80-81 ، ط. دار المعارف ، الطبعة الثامنة، القاهرة.
[10] المسائل العلمية المذكورة في المقال قمنا ببحثها ومراجعتها من مصادر علمية متخصصة، ونتقدم بالشكر للدكتور عمرو أحمدين – أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة سينسيناتي، أوهايو – على تعاونه معنا ومراجعته للمسائل العملية المذكورة في المقال.