فيلم «pain and glory»: رغبة ملحة في المكاشفة والبوح
دائمًا، ما نجد أفلام المودوفار غارقة في سردية حكائية. المودوفار الذي يرد كل شيء في سينماه إلى قانون الرغبة، يمكننا أيضًا أن نرد سينماه إلى رغبته في الحكي، رغبة ملحة في المكاشفة والبوح.
في حكاياته، كان المودوفار دائمًا مخلصًا لعالمه الشخصي، ينثر ذاته وذكرياته في ثناياها. إذا كانت سينما المودفار ذاتية للغاية، ففيلمه الأحدث (pain and glory) هو أكثرها ذاتية وحميمية.
الألم والمجد
لدينا مخرج سينمائي اسمه سيلفادور مالو/ أنطونيو بانديراس، يسقط عليه المودوفار الكثير من سماته الجسدية والنفسية، يمنحه ذكريات طفولته، إذا كان المودوفار حاضراً في أفلامه السابقة عبر رغباته، وهواجسه، وحساسيته الخاصة، حيث كان يوزع ذاته على شخصياته، لكن هنا لا مجال للخلط، ولا رغبة في التخفي، القناع الذي يستعيره هذه المرة ليكشف ذاته، قناع شفاف تماماً، إذاً لايمكننا التفكير في سلفادور ماليو بمعزل عن ألمودوفار.
يمكننا أن نصف فيلم ألمودوفار بأنه فيلم خريفي، فسلفادور، مخرج سينمائي يتقدم به العمر صوب الموت. يغمر المودوفار،الذي يصف النقاد سينماه بأنها سينما الجسد والمشاعر، جسد سلفادور ومشاعره بلون غسقي. ليس في الجسد هنا متسع لصخب الرغبات، ومشاعره تدور في دوائر مفرغة من الندم والإحساس بالذنب. يحاول فقط أن يراوغ جراح جسده وروحه، أن يتصالح مع خطايا ماضيه.
يفتتح المودفار فيلمه بتتابع من اللقطات تقول الكثير عن بطله، وعالمه، نشاهد في كادرات مغمورة بالأزرق البارد سيلفادور معلقًا تحت ماء المسبح، مغلقًا عينيه، وفاردا ذراعيه، يبدو كما لو كان مصلوبًا في ذلك الوضع، بعيدًا عن العالم الخارجي، تتحرك الكاميرا باتجاهه، يقطع المودفار، لتستعرض الكاميرا في حركة رأسية ندبة جراحية بطول ظهره، يستعيد المودوفار حركة الكاميرا تجاهه، لتننهي بلقطة مقربة له، ثم عن طريق المزج، يأخذنا ماء المسبح إلى ماء آخر هو ماء طفولته، في كادرات مغمورة بضوء الشمس، نشاهد سلفادور رفقة أمه وصديقاتها على شاطئ نهر يغسلن الثياب ويغنين:
ثم يقطع ثانية بين وجه الطفل المبتهج، ووجه سيلفادور الطافي فوق ماء المسبح متألمًا.
هذه اللقطات الافتتاحية يؤطر من خلالها المودوفار عزلة بطله، وألمه، رغم السكينة التي توحي بها الكادرات التي تصوره معلقًا تحت الماء، فإن الألم حاضر في صورة الجرح، ووضعية الجسد المصلوب، ثم هذا التقابل الذي يخلقه بين برودة الكادرات التي تدور في الزمن الحالي، وبين دفء الذكريات المستعادة يعزز ذلك المعنى.
ثم كلمات الأغنية التي تغنيها الأم وصديقاتها، تضعنا أمام رجل مهجور ووحيد، ستكتشف أيضًا لاحقًا أن والدته، توفيت، وهو بعد لم بتجاوز ذلك. هذا هو مدار فيلم المودفار إذًا، عن رجل في خريف العمر، مغمور تمامًا بألمه الجسدي والنفسي، وهو يجاهد كي يبقي رأسه طافيًا فوق الماء.
المودوفار واستعادة الألق القديم للميلودراما
طالما كان المودوفار منجذبًا نحو الميلودراما، وهو هنا يقدم لنا ضربًا من الميلودراما الخالصة. الميلودراما التي صارت كلمة سيئة السمعة بافتراض أنها قرينة بالمبالغة في الانفعال العاطفي، لكن الميلودراما نوع فيلمي (genre)، ذو جماهيرية واسعة وموجود منذ البدايات الأولى للسينما، يعتمد على حبكات عاطفية معقدة وشخصيات معذبة. إذا كانت هناك أنواع فيلمية مثل الويسترن، أو فيلم الجريمة تركز على الصراعات الخارجية فإن هاجس الميلودراما هو استكشاف الصراعات الداخلية، أو مثلما يقول سيد الميلودراما دوجلاس سيرك، كل ما يحدث في فيلم الميلودراما، يحدث في داخل الشخصيات.
كان المودفار من المخرجين الذين جددوا في هذا النوع الفيلمي، متأثرًا بأساتذة الميلودراما، سيرك، كازان، وفاسبندر. ما يميز ميلودراما المودوفار، أنها ميلودرما تمتلك وعيًا بنفسها، أي أنها تضع سقفًا واضحًا للافتعال، تخطف خصوصيتها من الأهمية التي تعطيها للوعي الاجتماعي والبعد النفسي للشخصيات وليس فقط للأحاسيس، هذا يطرد من الميلودراما كل ما هو مصطنع ويبقي فقط على عناصرها الحيوية.
لكن ما الذي يجعل فيلمًا ما ميلودراميًا؟
على صعيد التيمات، لدينا العلاقات العائلية المعقدة، مواضيع الحب المحرم ( علاقات عاطفية وجنسية خارج التقاليد السائدة)، الفقد، التضحية، وشخصيات معذبة تسعى في طلب الغفران، أو الخلاص.
من أهم السمات المحددة للميلودراما، هو تكدس الوقائع، هناك أشياء كثيرة تحدث، لا تصنعها الشخصيات، بل تقع عليها، كسقوط المطر من السماء، مصادفات كثيرة تحدث في فيلم الميلودراما، هنا في (pain and glory)، يتم ترميم أحد أفلام سلفادور الأولى، ويطلب منه تقديمها للجمهور مع بطل فيلمه الذي لم يتحدث إليه منذ الفيلم لأنه لم يكن راضيًا عن أدائه التمثيلي، يلتقي به مجددًا، يتعرف من خلاله على الهيروين الذي يستخدمه لمداواة آلام جسده وروحه المتفاقمة، يزوره الممثل في بيته، ليجد عنده نصًا مسرحيًا اعترافيًا، عن حبه الكبير الضائع يطلب منه أن يؤديه، يوافق بعد ممانعة، أثناء عرض المسرحية الأولى يدلف هذا الحبيب إلى المسرح ليتعرف على نفسه وحكايته، مما يمهد للقاء بين المخرج وحبيبه القديم.
هذا التواصل الجديد مع حبه القديم، يمنحه الأمل والإرادة لتجاوز آلامه. كل هذا الحشد من الوقائع والمصادفات يقدمه ألمودوفار بطبيعية شديدة، ودون أي افتعال. من سمات الميلودراما أيضًا والتي تتحقق في فيلم آلمودوفار، الاعتماد على الفلاش باك، فالفيلم يتحرك بانسيابية بين الحاضر، والماضي حيث ذكريات الطفولة، ذكريات سلفادور مع أمه، هناك منعطفات سردية، انفصال، ثم لقاءات مجددة، فالسرد الدائري هو الأنسب للميلودراما، فسلفادور هنا يرمم ماضيه، يغلق الدوائر المفتوحة، يلتقي بحبه القديم، الذي اختفى دون وداع، اللوحة التي رسمها له بناء ورسام علمه سلفادور الكتابة في طفولته، وضلت طريقها إليه، يعثر عليها مصادفة في أحد المعارض، يقول لمساعدته، الأهم إنها وصلت لعنوانها في النهاية.
تميل الميلودراما إلى المسرحة، كفضاء يسمح للشخصيات أن تعبر عن الدراما الداخلية لها، وهو ما يتحقق عبر المسرحية التي يؤديها بطل فيلمه القديم، عن نصه الاعترافي، وكأنه سيلفادور يستعير جسدًا آخر مكان جسده المتداعي للتعبير عما بداخله من مشاعر.
فيلم المودوفار هو ميلودراما نقية، ذات عمق عاطفي أصيل وواضح، حيث تتدفق العواطف الداخلية لشخصياته على الشاشة عبر الميزانسين، اللون، الموسيقى والأغاني.
جماليات اللون في فيلم المودوفار
اللون الأكثر حضورًا وطغيانًا لدى المودوفار، هو بلا شك اللون الأحمر، وهو لون إسباني جدًا، أو مثلما يقول المودوفار: يعشق الإسبان الرداء الأحمر، ربما أكثر من الدين نفسه. الأحمر لون الرغبة، والدم، والنار، هنا هو شارة الألم الداخلي لبطله.
في الثقافة الصينية، الأحمر هو لون المحكومين بالموت، وهو ما يمنحه حضورًا إنسانيًا، لأن جميع المخلوقات محكومة بالموت، وهو مناسب لفيلم عن رجل في خريف العمر يتقدم نحو الموت. هنا أيضًا يحضر الأزرق البارد كتعبير عن وحدة الشخصية وحياته المسيجة بالعزلة، مثلما يحضر الأبيض أيضًا، خاصة في ذكرياته، كقرين للبراءة الأولى، أو ربما كتعبير عن فقر وتقشف طفولته، وجفاف جذوره الأولى.
مع المشهد الأخير، يكشف لنا المودوفار، أن ذكريات طفولته التي يستدعيها منذ البداية حيث تؤدي بينلوبي كروز شخصية الأم، هي فيلم، يستأنف به سيلفادور مسيرته المهنية التي توقفت بعد العملية الجراحية التي أجراها في ظهره، وموت أمه. هذا التأطير الفيلمي للذكريات يرمي إلى إثبات فكرة وجود جانب خيالي دائم في ذكرياتنا، هناك مسافة دائمًا بين ما حدث وكيفية تذكرنا له.
لا يمكننا الحديث عن تميز فيلم المودوفار، دون الحديث عن الأداء الاستثنائي لأنطونيو بانديراس، الفائز عنه بجائزة التمثيل في مهرجان كان الماضي، والذي ربما هو الأفضل في مسيرته. يخبر سيلفادور ممثله قبل أدائه لنصه المسرحي، النص أصبح فيه بعض الميلودراما، يجب أن تهرب من الانفعال العاطفي، ليس من الأفضل أن تكون ممثلًا يبكي، بل ممثلًا يحبس دموعه. هذا ما يفعله أنطونيو في أدائه، محاولًا كتم انفعاله العاطفي قدر المستطاع،محافظًا على وجه دائم ميلانكولي ومتألم، نراه دائمًا على حافة البكاء، المشهد الوحيد الذي نشاهد دموعه، هو دموع امتنان وحنين إلى حادثة من طفولته.
فيلم شفاف وحزين وعذب، وواحد من أفضل وأنضج الأعمال السينمائية هذا العام بلا شك.