صفحات من تاريخ الأزهر: من الفاطميين إلى المماليك
حين يكونُ التاريخُ رأسَ مال رمزي
لم يكن المسجدُ في المجتمع الإسلامي التقليدي مجرد مبنى يغشاه المسلمُ لأداء فريضة الصلاة، بل كان ـــ بالإضافة إلى هذا الدور الشعائري ــــ يضطلع بوظائف ذات مضمون اجتماعي وسياسي وعلمي؛ ففي رحابه يلتقي المسلمون فيناقشون أوضاع حياتهم، ويتبادلون الحديث حول شئونهم العامة، ويقفون على أخبار المجتمع وقرارات السُّلْطة وتوجهاتها، ويتزوَّدون من خلال الانتظام في حلقاته العلمية زادًا معرفيًّا وأخلاقيًّا لا غنى عنه لمن أراد أن يُقيم حياته على أسس متماشية مع الإسلام. فلا جرم كان بناءُ المسجد الجامع تقليدًا متبعًا في تأسيس العواصم الإسلامية، ومظهرًا دالاًّ على أهمية الدين في حياة المسلمين، ودوره المركزي في توجيه مسارها، فلكلِّ عاصمةٍ مسجدٌ جامع يقاسمها تاريخها ويقف شاهدًا على ما يمر بها من أحداثٍ وتحولات [1].
ولقد كان «الأزهر» أحد المساجد الجامعة التي عرفتها مصرُ الإسلاميةُ عبر تاريخها الحافل الممتد. صحيحٌ أنه لم يكن أقدمها بناءً أو أسبقها تاريخًا في حساب الأيام والسنين، ولكنه أضحى ــــ بغير مبالغة ــــ أوسعها شهرةً وأعمقها تأثيرًا وأعظمها إثارةً للجدل والخلاف، ولا سيما حين يتطرق الحديثُ إلى فكرة «المؤسسة الدينية الرسمية» التي اقترنت بالأزهر، أو قلْ إن شئتَ الدقة: التي حمل الأزهرُ لواءها على نحو هيَّأ له أن يكون ناطقًا باسم الإسلام الشيعي أولَ أمرِهِ، ثم محتكرًا للحديث باسم الإسلام السُّني في مرحلة متأخرة من تاريخه.
وفي الحقّ أني حين شرعتُ في كتابة هذا المقال لم أكن أقصد إلى التأريخ للأزهر وبيان ما طرأ عليه من ألوان التبدُّل والتغيير منذ نشأته الأولى إلى عصره المتأخر، بل كان مقصودي أن يكون حديثُ النشأة الأولى وما أعقبها من مراحل مدخلاً صالحًا يمهِّد لمناقشة أحوال الأزهر في العصر العثماني. ثم تبيَّنتُ أني مضطرٌّ إلى تناول أطرافٍ من ذلك التاريخ البعيد في مقال مستقل.
ومبعثُ هذا الاضطرار أمران جديران بالاعتبار: أولُهما: أن التحول النَّوعي الذي غَشِي الأزهر خلال العصر العثماني لا يتضح تمامَ الوضوح إلا عند مقارنته بما سبقه من عصور، والآخر: أن الميراث التاريخي الطويل الذي حظي به الأزهرُ كان عنصرًا أصيلاً فيما يمكن الاصطلاحُ على تسميته بــ «رأس المال الرمزي الأزهري»، وهو الذي اتخذه الأزهريون ذريعةً ما فتئوا يعتصمون بها لتسويغ موقعهم الديني، والدفاع عما استقام لهم من سلطةٍ معرفيةٍ لا يقبلون أن يمسَّها أحدٌ طعنًا وانتقاصًا أو شكًّا وتساؤلاً. ولستُ أُحصي كم مرةً سمعتُ فيها شيخًا أزهريًّا يُشِيد بتاريخ هذه المؤسسة العريقة التي أربى عمرُها على ألف عامٍ، في لهجة لا تخلو من ثقةٍ واستعلاءٍ، وبخاصةٍ إذا كان في مقام الدفاع عن “الثقافة المهيمنة” التي يمثِّلها الأزهر، في مجابهة مَنْ يبغون التأسيسَ لهيمنةٍ مضادةٍ سواء أكانوا من المنتمين إلى الأحزاب العلمانية بمختلف أطيافها، أم من أصحاب الرؤى الدينية المغايرة للرؤية الأزهرية؛ كالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها.
ومقصودي من هذا المقال والذي يليه تفكيكُ هذا التاريخ الطويل الذي تقلَّب الأزهرُ في مراحله المتمايزة، وبيانُ أن النظر إلى هذه المراحل كلِّها بوصفها مرحلةً واحدةً امتدت في الزمان مُنْشِئةً مجموعًا متجانسًا من الحقائق والوقائع والأخبار هي التي يتألَّف منها تاريخُ هذه المؤسسة العريقة= مدخلٌ مضلِّل تجانبه الدقةُ كلَّ المجانبة، وتجافيه حقائقُ التاريخ المتفق عليها كلَّ المجافاة.
الأزهــــر في دوره الشيعي
كان الأزهرُ أولَ مسجدٍ وُضِع للناس بالقاهرة عاصمة الفاطميين (358- 567م/969- 1171م)، فكان عنوانًا على انتصارهم السياسي ودليلاً على سيادتهم الدينية، ومعهدًا علميًّا لتدريس الفقه الشيعي (على المذهب الإسماعيلي). ولعلّ من نافلة القول أن نذكر أن الفضل في بنائه ــــ الذي استغرق نحو عامين ــــ يرجع إلى القائد الفاطمي النابه جوهر الصقلبي الذي افتتحه للصلاة في السابع من شهر رمضان سنة 361هـ/972م [2].
ولقد حكم الفاطميون مصر زُهاء قرنين من الزمان ظلَّ الأزهر خلالهما موضع تقدير الخلفاء وعنايتهم؛ فتعهدوه بالتجديد والإصلاح غير مرةٍ؛ عرفانًا بأهمية دوره الديني والمذهبي [3] في تلك المرحلة الجديدة من مراحل تطور الدعوة الفاطمية، التي انتقلت منذ إعلان الخلافة في المغرب من طور الدعوة الدينية التي يستخفي بها أصحابُها عن أعين الرقباء والمترصدين، ويبشِّرون بها في جوٍّ من السرية والكتمان، إلى طور الدعوة/الدولة التي تملك من أسباب القوة والسيادة ما يأذن لدُعاتها وفقهائها بمزاولة أنشطتهم المذهبية علانيةً، وهم بمأمن من الملاحقة والاضطهاد، وفي مؤسسات تبنيها الدولةُ وتشرفُ عليها وتُجزل العطاء لأصحابها على نحو يكفل لهم حياةً كريمةً.
وفي هذا السياق كان الأزهر أداةً مهمة من أدوات الجهاز الأيديولوجي للدولة الفاطمية، توسَّلت به إلى إنشاء نوعٍ جديد من الهيمنة المذهبية مضادٍّ للثقافة السُّنية السائدة. ومن هنا فقد احتضنت أروقةُ الأزهر منذ سنواته الأولى حلقات علمية منتظمة لتدريس الفقه الإسماعيلي وبيان أحكامه وشرح متونه؛ إذ يذكر المؤرخون أن القاضي علي بن النعمان جلس في صفر سنة 365هـ/975م لإملاء مختصر فقهي يعرف ب«الاقتصار»، وهو كتاب من تصنيف أبيه القاضي النعمان بن حيون (ت 363هـ/974م)، مؤرِّخ الدولة الفاطمية ومؤسِّس نظامها الفقهي [4]. ويلوح أن الفاطميين كانوا يسمحون لعامة أهل مصر بحضور هذه الدروس؛ عسى أن يُفضي ذلك إلى نشر المذهب الإسماعيلي وتوطيد نفوذه [5].
ثم مضى الفاطميون خطوة أبعد في سبيل إضفاء مزيدٍ من المؤسسية على الدرس الفقهي بالأزهر؛ فأمر الخليفة العزيز بالله سنة 378هـ/988م ــــ مستجيبًا لمطلب وزيره الأشهر يعقوب بن كِلِّس ــــ بتنظيم حلقة لتدريس الفقه بالأزهر، تضم 35 طالبًا، أُجْرِى عليهم من الرواتب ما يفي باحتياجاتهم، وشُيِّدت لهم دار يسكنونها إلى جوار الجامع [6].
وعلى هذا النحو اكتسب الأزهر صفة «التعليم الديني»، وهي الصفة التي لازمته إلى يوم الناس هذا، وإن اختلف مضمونُها وتغيرت وجهتُهَا فيما استقبل من عصور. وقد نبَّه هاينز هالم (Heinz Halm) على خطأ الاعتقاد الشائع بأن الأزهر كان مركزًا للتبشير بالعقائد الإسماعيلية الباطنية (أو الحكمة)، مؤكِّدًا أن هذه العقائد إنما كانت تُدرَّس في مجالس مخصوصة بالقصر الفاطمي، لا يشهدها إلا مَنْ استجاب للدعوة وانخرط في صفوفها وأُخذ عليه العهدُ للإمام [7].
وفي الحق أن «الأزهر الفاطمي» كان يُنظر إليه بوصفه «جامعًا ملكيًّا» يرتبط بالسُّلْطة الجديدة التي تعتنق مذهبًا مغايرًا لمذهب عموم السكان؛ ولذا فقد كان المصريون السُّنة يترددون على مساجد أخرى؛ كجامع عمرو بن العاص، وجامع أحمد بن طولون [8]. ولعل هذه المغايرة هي التي حالت دون أن يغدو الأزهر «مؤسسة دينية وسيطة» بين النخبة الحاكمة وعموم الرعية، وحرمته ــــ من ثم ــــ من أداء أي دور سياسي خلال هذا العهد المبكر؛ وهو ما يومئ إليه الأستاذُ محمد عبد الله عنان، وإن اتجه في تأويله وجهة أخرى؛ إذ يقول: «لم يكن للأزهر في تلك المرحلة الأولى من حياته أثر ملحوظ في توجيه الحياة السياسية؛ ذلك أن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي أشدَّ الحرص، وتُغْرِق في التمسك بعصبيتها المذهبية، ولا تفسح كبير مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين خصوصًا إذا لم يكونوا من أوليائها وحملة دعوتها، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها المذهبية إلا توطيدًا لدعوتها السياسية، ولم يكن للدعاة من العلماء ورجال الدين من النفوذ المستقل إلا ما يتجه نحو هذه الغاية، ويخضع لسياسة الدولة العامة»[9].
الأزهــر الأيوبي: قرنٌ من الإهمال
ألقى سقوطُ الدولة الفاطمية سنة 567هـ/1171م وقيامُ الدولة الأيوبية على أنقاضها بظلال من التأثير السلبي على «الجامع الأزهر»؛ إذ تعطَّل نشاطُهُ وأفل نجمُهُ وطُويت ذكراه. والحق أن هذا المآل لم يكن إلا أثرًا مباشرًا للسياسة الدينية التي انتهجها الملك الناصر صلاح الدين (مؤسِّس الحكم الأيوبي)، مبتغيًا من ورائها تفكيك «الجهاز الأيديولوجي» للدولة الفاطمية، وتعزيز المذهب السُّني وتمكين علمائه من السيطرة على المجال العام مرة أخرى. وفي مقدمة الإجراءات التي اتخذها لإدراك هذه الغاية: إبطالُ خُطبة الجمعة من الأزهر سنة 565هـ/1169م، ونقلها إلى جامع الحاكم بأمر الله شمال القاهرة بزعم أنه أكبرُ مساحة؛ مستندًا إلى ما أفتاه به الشافعيةُ من حظر إقامة خطبتين للجمعة في بلدٍ واحدٍ[10].
وعلى الرغم مما ينطوي عليه الاحتجاجُ بهذه الفتوى من ذكاء ملحوظ، فإنها تظل قاصرةً عن حجب ما تتسم به السياسةُ الصلاحية في هذا الصدد من تناقض واضح؛ إذ لو صحَّ أن الفتوى كانت هي السبب وراء إبطال الجمعة من الأزهر، للزم القولُ بسريانها على ما سواه من مساجد جامعة، كجامع عمرو بن العاص وجامع أحمد بن طولون اللذين كانا ينتميان إلى مِصْر واحد أو كتلة عمرانية واحدة، على حد تعبير ناصر رباط. بيد أن شيئًا من ذلك لم يحدث، وظلت الجمعةُ تقام في هذين الجامعين طوال العصر الأيوبي، وهو ما يؤكد أن الدافع الأساسي وراء هذا الإجراء الذي اتخذه صلاح الدين هو الرغبة في محو ذكرى الأزهر الذي كان أداة أيديولوجية استعانت بها الدولة الفاطمية في نشر مذهبها [11].
ومن آيات إضعاف الأزهر والعمل على تهميش دوره إبان هذا العصر أنَّ الأيوبيين حرموه عطاياهم السخية وأوقافهم الضخمة التي آثروا بها مدارسهم الكثيرة التي توسعوا في إنشائها [12]. وتجدر الإشارة إلى أن المدرسة كانت هي الأداة الناجعة التي لجأت إليها جلُّ الأنظمة السُّنية في المشرق؛ لمجابهة المد الشيعي دينيًّا وفكريًّا، فلا عجب بلغ عددُ المدارس التي شُيِّدت بمصر الأيوبية (وفقًا لإحصاء بعض الباحثين) قرابة 24 مدرسة [13].
على أن حرمان الأزهر من الرعاية الرسمية للدولة طوال العصر الأيوبي لم يحل بينه وبين النهوض ببعض الأنشطة التعليمية، وإنْ بَدَتْ محدودة النطاق واهنة التأثير، بعيدة كلَّ البعد عن المسائل المذهبية فقهًا واعتقادًا. وبوسعنا أن نورد في هذا الصدد أسماء طائفة من العلماء الذين احتضن الأزهرُ نشاطهم العلمي؛ كعبد اللطيف البغدادي الذي كان يُلقي في رحابه دروسًا في الكلام والبيان والمنطق والطب، وموسى بن ميمون الذي عقد بأروقته حلقةً علمية لتدريس الطب والرياضيات والفلك [14].
الأزهرُ في ظلال المماليك بعث جديد
ظلَّ الأزهرُ يعاني الإهمالَ والتهميشَ طوال عصر الأيوبيين الذين نظروا إليه على أنه رمزٌ للدولة الفاطمية التي استفرغوا جهدهم في محو رسومها وإزالة ما ارتبط بها في نفوس أهل مصر وأذهانهم من أخبار وذكريات. ثم كان أن جرى على الدولة الأيوبية منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) ما جرى على غيرها من أسباب الضعف والسقوط، فاستولى على الحكم طائفةُ المماليك الذين نجحوا في تأسيس دولة قوية شغلت من تاريخ مصر الإسلامية ثلاثة قرونٍ إلا قليلا (648- 923هـ/1250- 1517م).
ولئن كانت السياسة الدينية التي انتهجها المماليكُ امتدادًا ــــ في كثير من جوانبها ــــ لسياسة الأيوبيين، فقد خالفوهم في جملة من الأمور، يعنينا منها في هذا المقام ما يتصل بالأزهر؛ إذ رأى المماليكُ أنه ليس ثمة ما يسوِّغ الاستمرار في إهماله والإعراض عنه، وبخاصة أن ارتباطه بالفاطميين ــــ وقد مضى على سقوطهم قرنٌ من الزمان ــــ غدا مجرد ذكرى باهتة لا تثير تعاطفًا مع الشيعة ولا تدلُّ على توجه مذهبي مضادّ لتوجه الدولة؛ ومن هنا فإن بعث الحياة فيه مرة ثانية أمرٌ مأمون العواقب من الزاويتين السياسية والدينية، فضلاً عما يمكن أن يجنيه المماليكُ من مكاسب أدبية ومعنوية إنْ هم أولوا الأزهر شيئًا من عنايتهم ؛ إذ لا بد أن هذه الخطوة ستضفي على حكمهم مزيدًا من الشعبية، وستُثبت أنهم حكام مستقلون لا مجرد أتباعٍ مقلِّدين لأسلافهم الأيوبيين. ومن جهة أخرى، كان النموُّ السكاني المطرد لمدينة القاهرة التي غدت قاعدة العالم الإسلامي سياسيًّا ودينيًّا وفكريًّا ــــ وخاصة بعد سقوط بغداد ــــ يوجب إعادة فتح الأزهر الذي يتوسط المدينة ويشغل من أحيائها موقعًا مركزيًّا [15].
وتأسيسًا على هذه الاعتبارات الوجيهة، أعاد المماليكُ الحياةَ إلى الأزهر، أو قُلْ: أعادوا الأزهر إلى الحياة؛ حيث استأذن الأمير عزُّ الدين الحِلِّي السلطانَ الظاهر بيبرس في تجديد عمارته؛ فأذن له، وأعانه بمبلغ من المال، حتى إذا كان الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 665هـ/1266م أُقيمت به خطبة الجمعة بعد أن لبثت مُعَطَّلة مائة عام [16]، كما تبرع الأمير بيلبك الخازندار بعمل مقصورة كبيرة، ورتَّب بها درسًا للفقه الشافعي وآخر للحديث النبوي والرقائق [17]؛ فكان ذلك إيذانًا بانطلاق الأزهر في أداء مهمته التاريخية، وهي أن يكون معهدًا لتدريس علوم الإسلام السُّني، وجعل منذ هذا التاريخ ـــ فيما رواه القلقشندي ـــــ «يتزايد أمرُهُ حتى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدرًا»[18].
وقد أولى السلاطينُ والأمراءُ عمارة الأزهر قدرًا من الاهتمام جعل يتزايد حتى بلغ أَوْجَه في العقود الأخيرة من الحكم المملوكي؛ فجدَّد عمارته كلٌّ من: الأمير سلار سنة 702هـ/1302م، والقاضي نجم الدين الأسعردي محتسب القاهرة سنة 725هـ/1325م، والأمير سعد الدين بشير الجامدار الذي ألحق به سبيلاً وكُتَّابًا عند بابه القبلي سنة 761هـ/1359م، والأشرف برسباي الذي بنى بصحنه صهريجًا للماء سنة 828هـ/1425م [19]، والأشرف قايتباي الذي أمر سنة 881هـ/1476م بترميمه وتجديد دورة المياه به وهَدْم الخلوات الكائنة بسطحه، وأنفق في ذلك نحو عشرة آلاف دينار [20]، والسلطان الغوري الذي أمر سنة 915هـ/1510م بتشييد المئذنة الشهيرة ذات الرأس المزدوجة التي ما زال الأزهر يزدانُ بها إلى الآن [21].
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن أهم ما طرأ على عمارة الأزهر خلال الحقبة المملوكية تلك المدارس الثلاث التي أُضيفت إليه في مراحل متباينة، وهي المدرسة البديعة المعروفة بالمدرسة الطيبرسية؛ نسبة إلى مُنْشِئها الأمير علاء الدين طيبرس سنة 709هـ/1309م، وتقع على يمين الداخل إلى الجامع، وقد قرَّر بها درسًا للفقه على المذهب الشافعي، وألحق بها مكتبة عامرة، والمدرسة الآقبغاوية التي أنشأها الأمير علاء الدين آقبغا عبد الواحد سنة 740هـ/1340م، وتقع على يسار الداخل إلى الجامع، والمدرسة الجوهرية التي أنشاها الأمير جوهر القنقبائي في عهد السلطان الأشرف برسباي [22].
ولقد يتخذ بعضُ الباحثينَ من تجديد عمارة الجامع الأزهر، وترتيب الدروس العِلْمية به، وثلاثة المدارس الكبرى التي أُضيفت إليه= دليلاً ربما يُفضي إلى القول بأنه غدا أرفع مركز تعليمي خلال عصر المماليك، وذلك في معرض الإجابة عن السؤال الذي ما فتئ يحيِّر الباحثين، وهو متى شغل الأزهر موقع الزعامة الدينية والعلمية في البلاد؟
الحق أن الأزهر لم يكن إلى الثلث الأخير من القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) أرفع المعاهد العلمية في مصر، ولا كان علماؤه أعلى مقامًا ممن ارتبطت أسماؤهم بمؤسسات علمية أخرى. ولئن كان نفر مِنْ أعيان العلماء قد زاولوا التدريس به حينًا من الدهر؛ كابن خلدون (ت 808هـ) وابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، فإنهم كانوا يستمدون مكانتهم المرموقة لا من مجرد انتمائهم إليه، وإنما من كفاءتهم العلمية الفائقة، وما تركوه من آثارٍ مهمة كانت موضع تقدير البيئة العلمية في مصر. ومن هنا فإني أوافق ناصر رباط فيما ذهب إليه من أن المدارس الثلاث التي أُلحقت بالأزهر (وهي: الطيبرسية، والآقبغاوية، والجوهرية) ليست دليلاً يمكن الاحتجاج به في هذا الصدد؛ ذلك أنها كانت مستقلةً عن الأزهر عمرانيًّا ووظيفيًّا، وهو ما أومأ إليه مؤرخو العصر المملوكي حين عدُّوها معاهد علمية منفصلة لا جزءًا عضويًّا من الأزهر [23].
ويبدو أن العقود الأخيرة من الحكم المملوكي قد شهدت نموًّا ملحوظًا في المنزلة العلمية للأزهر، وهو الأمر الذي دفع اثنين من أبرز سلاطين الدولة المملوكية في عهدها المتأخر، وهما قايتباي والغوري، إلى إحاطته بالرعاية والاهتمام؛ عرفانًا بهذه المنزلة؛ فأنشأ الأول رواقين لإيواء الطلاب الأتراك والشوام، وأمر الثاني ببناء المئذنة الشهيرة التي سبقت الإشارة إليها [24]. وإذا كان الأزهر يلي في الأهمية العلمية تلك المدارس التي شيَّدها الأمراء والسلاطين، وتنافسوا في حبس الأوقاف عليها، فإنه صار ــــ بأثرٍ من هذا التطور الأخير ــــ يحتل المرتبة الأولى بالنسبة للوافدين إلى القاهرة، وبخاصة من أقاليم الوجه البحري وبلاد المغرب [25].
ولعل تزايد أعداد الوافدين على الأزهر هو الذي أدى إلى نشأة نظام الأروقة التي كانت تحفل بطوائف من المجاورِين انقطعوا «لعبادة الله تعالى، والاشتغال بالعلوم وتلاوة القرآن»[26]، حتى بلغ عددُهم سنة 818 هـ/1415م نحو 750 مجاورًا تنوعت أصولُهم الجغرافية تنوعًا ملحوظًا، فكان منهم الإيرانيون والمغاربة والزيلع (أي: أهل الصومال)، فضلاً عن المصريين، ولا سيما أهل الريف، وكان لكل طائفة منهم رواق خاص بهم [27]، تقيم فيه بأمتعتها، وتُجرى عليهم الرواتب عينًا ونقدًا. وجرت العادة ــــ فيما رواه المقريزي ـــ بمبيت كثير من الناس في ساحة الجامع الأزهر، بين تاجر وفقيه وجندي وغيرهم، فمنهم من يلتمس البركة، ومنهم من لا يجد مكانًا يؤويه [28]. وقد ارتفع عدد المجاورين سنة 855هـ/1451م ليصل إلى نحو ألف مجاورٍ، جرى توزيعهم على أربعة أروقة أساسية، وهي: رواق ابن معمر، ورواق الريافة، ورواق المغاربة، ورواق الجبرت والزيالع واليمنيين [29].
وكانت إقامة هؤلاء المجاورين تخضع لرقابة دقيقة وقواعد صارمة قد تبلغ حدَّ التعسف والإعنات في بعض الأحيان [30]. ولم تكن دولة المماليك حتى حين تراجع اقتصادُها وضربتها الأزماتُ المالية تبخل عليهم بالرعاية المادية؛ ففي سنة 865 هـ/1460م أرسل السلطان إليهم ألف دينار، فكان لكل شيخ ستة دنانير، ولكل طالب ثلاثة [31]. وظل الأثرياء يقصدون الجامع الأزهر بأنواع من البر والأطعمة والأموال ولاسيما في المواسم؛ «إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى»[32]. ومنهم من خصَّص وقفه للغرباء والمهاجرين من مجاوري الأزهر؛ حيث نصَّتْ إحدى وثائق الوقف على أن «يُصرف من ريع الوقف المذكور في ثمن خبز يُفرَّق لله تعالى في الجامع المعمور بذكر الله تعالى المعروف بالأزهر …….على الفقراء المجاورين الآفاقية»[33].
ولا ريب أن نظام الأروقة كان له دور ملحوظ في علوّ مكانة الأزهر محليًّا وإقليميًّا، ولعله يفسِّر لنا أيضًا تزايد الإقبال على الدراسة به، وهو ما تنهض على إثباته جملة من الشواهد؛ منها مثلاً: ما لاحظه بعضُ الباحثين من أن ثلث العلماء المصريين الذين ترجم لهم الشيخُ عبد الوهاب الشعراني (ت 973هـ) ـــ ألمع عالم صوفي في زمانه ـــ بكتابه «لواقح الأنوار القدسية في طبقات العلماء والصوفية» قد درسوا في الأزهر أو زاولوا التدريس به، وأكثرهم ممن تلقى العلم أواخر العصر المملوكي لا مطلع العصر العثماني [34]. على أننا لم نزل بحاجة إلى مزيد من الدرس والنظر فيما تيسَّر لنا من كتب الطبقات والتراجم التي تغطي هذه الفترة؛ عسى أن تلقي بعض الأضواء الكاشفة على هذه المسألة المحيِّرة.
[1] لمزيد من التفاصيل عن مكانة المسجد ووظائفه في الإسلام، راجع: حسين مؤنس، المساجد، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981م، ص 30 وما بعدها.[2] المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 4/1/90، 91، حسن عبد الوهاب، تاريخ المساجد الأثرية، القاهرة، دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية، 2010م، 1/47-49.[3] لمزيد من التفاصيل راجع: المقريزي، المواعظ والاعتبار، 4/1/92 وما بعدها، حسن عبد الوهاب، تاريخ المساجد الأثرية 1/50، 51. والواقع أن العمارة الفاطمية الأولى للأزهر كانت أقل كثيرًا مما آل إليه أمرها في العصر الحاضر؛ حيث أُضِيفت إليها عبر التاريخ كثير من الإضافات، حتى إنه لم يبقَ من العمارة الفاطمية الأولى سوى القليل. انظر: المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/90، 91، حاشية رقم (1).[4] المواعظ والاعتبار 4/1/389. ولمزيد من المعلومات عن الجهود الفقهية للقاضي النعمان، راجع:Wilferd Madelung, The Sources of Ismāʿīlī Law, Journal of Near Eastern Studies, Vol. 35, No. 1 (Jan., 1976), pp. 29-40 [5] هاينز هالم، الفاطميون وتقاليدهم في التعليم، ترجمة: سيف الدين القصير، (بيروت: دار المدى، الطبعة الأولى، 1999م)، ص 77، 78.[6] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/94، 4/2/452.[7] هاينز هالم، الفاطميون وتقاليدهم في التعليم، ص 73، 78.[8] السابق، ص 59.[9] محمد عبد الله عنان، تاريخ الجامع الأزهر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2012م)، ص 219.[10] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/103.[11] Nasser Rabbat, Mamluk History through architecture; Monuments, culture, and Politics in Medieval Egypt and Syria, The American University in Cairo Press, 2010, p. 88.[12] Idem.[13] لمزيد من التفاصيل عن مدارس الأيوبيين راجع: المقريزي، المواعظ والاعتبار، 4/2/453، وما بعدها.[14] محمد عبد الله عنان، تاريخ الجامع الأزهر، ص 111، 112.[15] Nasser Rabbat, Mamluk History through architecture; p. 89.[16] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/100-102.[17] السابق 4/1/101.[18] القلقشندي، صبح الأعشى، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر، 2004م، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية)، 3/364.[19] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/103، أحمد فكري، مساجد القاهرة ومدارسها، الجزء الأول، العصر الفاطمي، (القاهرة: دار المعارف، 2008م)، ص 44، حسن عبد الوهاب، تاريخ المساجد الأثرية، 1/54، 55.[20] ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر، العدد (40)، بدون تاريخ)، 3/124.[21] أحمد فكري، مساجد القاهرة 1/45.[22] حسن عبد الوهاب، تاريخ المساجد الأثرية 1/58.[23] Nasser Rabbat, Mamluk History through architecture; p.90.[24] Ibid., pp. 87, 91.[25] Ibid., p. 91.[26] الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، تحقيق: مصطفى السقا، كامل المهندس، (القاهرة: دار الكتب، 1969م)، 190.[27] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/106، السلوك 4/1/323.[28] المقريزي، السلوك 4/1/324.[29] البقاعي، إظهار العصر لأسرار أهل العصر، المعروف بـ (تاريخ البقاعي)، تحقيق: محمد سالم بن شديد العوفي، (الرياض، الطبعة الأولى، 1992م)، 1/139، 140.[30] السخاوي، التبر المسبوك في ذيل السلوك، تحقيق: نجوى مصطفى كامل، لبيبة إبراهيم مصطفى، (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، مركز تحقيق التراث، 2002م)، 2/58.[31] البقاعي، إظهار العصر لأسرار أهل العصر 3/241.[32] المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/1/106، سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، (القاهرة: دار النهضة العربية، بدون تاريخ)، ص 161.[33] عبد الغني محمود عبد العاطي، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، (القاهرة: دار المعارف، 2002م)، ص 166.[34] Nasser Rabbat, Mamluk History through architecture; p. 91.