أوهمتنا أفكار الرأسمالية في الأزمان الغابرة أن العصر الصناعي سيكون عصر نعيم ورخاء، ستتحول الأرض إلى جنة عدن، غير أن ما حدث، وفقًا لمحللين ونقاد ثقافيين كثيرين على رأسهم ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر؛ عالما الاجتماع الألمانيان الراحلان، لم يكن سوى تحويل الأرض إلى جحيم مقيم.

فآفة التقدم الإفراط في التقدم، ومعضلة الحداثة الإمعان في التسريع، حتى إن هارتموت روزا، وهو عالم اجتماع ألماني معاصر، صنع كتابًا عن «التسريع الاجتماعي» حاول فيه استقراء هذه الظاهرة، والوقوف على حدودها.

وبعيدًا عن هذا وذاك، فثمة مسألة حرية بالتأمل والنظر هنا؛ فالسرعة، في زمن الحداثة المفرطة، لا تعني الوصول، وإنما تحيل، في الواقع، إلى انتظار مؤبد؛ نحن نهمون لكل ما هو جديد، لكل سلعة جديدة، لكل «تريند» جديد؛ لذا ترانا متأهبين دومًا، منتظرين دومًا. هذا الانتظار هو بالضبط، وليس السرعة ولا التغير، هو سمة العصر الراهن؛ المفرط في السيولة والتبدل.

وهو عصر يصفه علي حرب، في كتابه «الحداثة الفائقة، ص 212: 213»(1) على أبلغ نحو قائلًا: هذا العصر، «عنوان عريض لزمن متعدد ومركب تندرج تحته مختلف الموجات والطفرات والتحولات التقنية والحضارية والاجتماعية والثقافية التي تصوغ الحياة المعاصرة وتشكل المشهد الكوني: الزمن المتسارع والمكان المفتوح، الإنسان الرقمي والفاعل الميديائي، الاقتصاد الإلكتروني والعمل الافتراضي، البداوة الجديدة والجنسية المتعددة، والهويات الهجينة والثقافة العابرة، القيم المتحركة والمهام المتعددة، الأجهزة المتحكمة والنصوص الفائقة، انكسار النماذج وتشظي المراكز، انهيار اليقينيات والمقدسات والمطلقات، نظام المخاطر وحالة الطوارئ، لغة التداول والتحول والشراكة».

والمؤسف أن لهذه التغيرات الجذرية، كما هو متوقع طبعًا، آثار سلبية على الكائن البشري، فـ«…التغير في نمط الإنتاج والاتصال والتداول، كما يتمثل في الانتقال من الإنتاج الميكانيكي والسلع الثقيلة إلى الإنتاج الإلكتروني والسلع الافتراضية، إنما يترك أثره القوي على مختلف وجوه النشاط البشري، كما على بنية الثقافة ومنتجاتها وعلى مكانة النخب الثقافية ومهماتها»(2).

التقنية وثنائية الكدح والسرعة

لم تعمل الآلات التقنية الحديثة- كما زعم بنجامين فرانكلين ذات مرة- على إرحاتنا، ولم تقصر ساعات العمل إلى أربع ساعات فحسب في الأسبوع، وإنما ترافق معها (مع تطور التقنية) أمران غريبان: رفع معدلات السرعة وهذا ليس مستغربًا، وإن كان من المتوقع، في زمن غابر، أن تسهم التقنية في إبطاء إيقاع الحياة اليومية.

والأمر الآخر الذي ترافق مع هذه التقنية، هو الكدح والانتظار، لم تعمل التقنية على إراحتنا، وإنما حولت حياتنا إلى جحيم لا يطاق، وعمل لا يتوقف، حمى العمل في كل مكان، إلى درجة أن الناس يموتون في اليابان من كثرة العمل.

فما دامت الآلات التقنية تساعد على تسريع الإنتاج، فلمَ لا يستغل الرأسماليون العمال في الإنتاج أكثر وأكثر؟ وإذا كانت الآلات لا تتوقف ليل نهار، فلا بد أن يكون هناك من يديرها، ويشرف عليها، فعملت التقنية بذلك على زيادة معدل الكدح في الحياة المعاصرة وليس العكس. وهذا هو من أغرب نتائجها وانعكاساتها.

وفي ظل هذه الثنائية من الكدح والسرعة، وفي ظل الماكينات والحواسيب التي تعمل ليل نهار، ترانا لا نفعل سوى انتظار انقضاء موعد الدوام، انتظار حلول موعد الراحة، الذي لن يتجاوز الساعة، على مدار تسع أو عشر ساعات. نحن إزاء مجتمع أفرط في كل شيء، وتَطَرَفَ في الانتظار.

وتلاحظ مارغريت فيسر في كتابها: «طقوس العشاء» (بحسب ما يشير كارل أونريه، مديح البطء، ص 68)(3) أن المجتمعات الصناعية ثمنت السرعة واحترمتها بوصفها مؤشرًا على التحكم والكفاءة في المآدب الرسمية. السرعة، على هذا النحو، دين العصر الجديد، والانتظار دأب أفراده وديدنهم.

محو الحياة الشخصية

في الانتظار تفوتنا الحياة، مَن ينتظر شيئًا لا يعش، بل يوقف حياته أملًا في حصول هذا المبتغى بعيد المنال. وطالما أنه لا شيء يتحقق في «عصر الوصول» هذا فقد فاتتنا الحياة جميعًا، أو عاشت نفسها من خلالنا.

من جانبه، يلتقط كارل أونريه أثرًا سلبيًا من آثار التكنولوجيا وهو قضاؤها على الحياة الشخصية، حيث يقول:

«كما سمحت التكنولوجيا، في الوقت نفسه، بأن يتسرب العمل إلى كل ركن من أركان الحياة؛ فلا مكان للاختباء في عصر طريق المعلومات السريع، من البريد الإلكتروني والفاكسات والمكالمات الهاتفية، حين نفتح من منزلنا قاعدة بيانات الشركة، أو نتصل من طائرة بشبكة الإنترنت، أو نتلقى من على الشاطئ مكالمة من مديرنا، نكون جميعًا تقريبًا على رأس عملنا في جميع الأوقات»(4).

ألم تلاحظ أنك حتى وأنت في أشد لحظاتك حميمية، أو راحة.. تنتظر شيئًا ما، اتصال من مديرك في العمل، أو تكليف بعمل جديد، أو حتى فصلك من العمل نهائيًا، ألم تقبض على أفكارك وأنت تفكر في وقوع كارثة ما، كأن ينهار عليك سقف الفندق الذي تقطنه وقت العطلة الصيفية مثلًا؟! في «مجتمع المخاطر»- والتعبير لـ«أولريش بيك» لا ننتظر سوى الكوارث!

التقنية والقضاء على وقت الفراغ

من بين الانعكاسات الغريبة أيضًا أن التكنولوجيا، وعكس ما هو متوقع تمامًا، قضت على وقت الفراغ، وأتت عليه من القواعد، على الرغم من أن البعض توقع، في الثمانينيات، أن تمنحنا الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر مزيدًا من أوقات الفراغ التي لا نعرف ماذا سنفعل بها(6).

لكن الواقع عكس ذلك، فحتى لو كانت التكنولوجيا سرعت من دورة الإنتاج، فإنها ألهبت جشع الرأسماليين لكي تدور الآلات على مدار الأربع وعشرين ساعة، كما أن التقنية- وكما كان يحلل ثيودور أدورنو في فصله المعنون بـ«صناعة الثقافة»، ضمن كتاب «جدل التنوير»(7)، احتلت وقت الفراغ.

فحتى في الوقت الذي لا نعمل ترانا مستبعدين من قبل هواتفنا المحمولة، ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة يمكن معها التجاسر على القول، إن السأم الذي كان يخشاه شوبنهاور وشارل بودلير وجد تعبيره الأمثل في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، لم تقض التقنية على الملل، وإنما وجدت له مصرفًا جديدًا، أي وجّهته ناحيتها، وهي (التكنولوجيا) المستفيد الأكبر من الملل؛ فلا شيء أمامك إذا أصابتك نوبة ملل ما إلا تصفح «فيس بوك» أو «إنستجرام»، وعندئذٍ سترى كم يتعاظم مللك ويتآكل وقتك!

والحق أن الملل آية الانتظار ونتيجته، لو انكببت على ما لديك، وتوجهت بكليتك إلى حاضرك، لما سقطت في وهدة الانتظار، أدرك تمامًا أن تشيزار بافيزي قال، ذات مرة، إن الانتظار شغل في حد ذاته، لكنه فاته أن يقول إتمام الجملة: «الانتظار شغل من لا شغل له» هكذا يستقيم المعنى.

الملل والفراغ والاستهلاك

يمكن المغامرة أيضًا بالقول، إن التكنولوجيا أسهمت، صوريًا، في زيادة أوقات الفراغ- هذه الأوقات مفعمة بالانتظار ومحتلة أيضًا بالوسائط التكنولوجية كما قلنا أعلاه- ولكنها أسهمت في رفع معدلات الإنتاج؛ فأولًا من السهل الآن التسوق وأنت في غرفة نومك، كما أن الأجر المرتفع بعض الشيء الذي يمكن أن تحصل عليه من خلال العمل الإضافي على آلات تكنولوجية سوف يذهب بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المتاجر حيث هناك ستهدر أموالك على سلع استهلاكية لا جدوى منها ولا طائع.

يعاني العصر الحديث، ولا علينا من تسميات حنا أرندت، من نوعين مختلفين من الحمى: حمى العمل وحمى الاستهلاك. ومبدأ هاتين العلتين الانتظار، لكن المؤسف أن الناس في عصرنا الراهن لا يعرفون ما ينتظرونه بالضبط، إنهم ينتظرون ما سيأتي هربًا من جحيم واقع مفزع!

«صار الملايين من الناس يذهبون إلى العمل حتى عندما يكونون متعبين جدًا، أو مرضى ليسوا في كامل فعاليتهم، وتزايد بالملايين عدد من يمتنعون عن أخذ إجازاتهم كاملة»(8).

لماذا تراهم يفعلون ذلك؟ هربًا من الملل ليس أكثر.

كيف يأكل الناس؟

إنها مجرد وقفات للتزود بالوقود، كما يعبر كارل أونريه ببلاغة منقطعة النظير، فغالبًا لا نأكل إلا فرادى، رغم أن الأكل وحيدًا أقسى درجات العزلة، لكن هذه العزلة أمست قاعدة في مجتمعات ينخر التفكك عمودها الفقري كما ينخر السوس القمح، وعادة ما لا نأكل فقط، فنحن نمارس شيئًا آخر إلى جوار الطعام: نطالع الإنترنت، نشاهد التلفاز، نسمع أغنية… إلخ(9).

إننا مشغولون حتى عن إطعام أنفسنا، هذه الواقعة تحيلنا إلى سؤال آخر: بماذا يهتم الناس في هذا الزمن؟ ما الذي يستولي على اهتمامنا حقًا هذه الأيام؟ لا شيء أبدًا سوى العدو، الرغبة في أن نسرع، نجري، نتحرك، ننتقل. فالوقوف منذر بالوقوع في هاوية الملل، ويا لها من هاوية.

إننا نلطخ الكوكب والعالم رغم أننا لا ننجز شيئًا فعليًا بعد كل هذا العدو وذاك اللهاث، «وراح الطعام، مثل كل شيء آخر، ضحية العجلة»(10).

السرعة ألهتنا عن الأكل، عن التمتع به، حتى إننا لا نأكل فعلًا، ولا نعرف للتمتع بالأكل سبيلًا، نحن لاهثون، متعجلون، وطعامًا «مطهو بالكامل» ويا للحسرة.

«احتل الاستعجال مقعده على مائدة الطعام خلال الثورة الصناعية»(11).

وهنا تناقض عجيب من تناقضات عصر الانتظار، نحن متعجلون لأننا في انتظار شيء ما، غالبًا لا نعرفه. ترى الواحد مسرعًا في إنهاء عمل ما في يده تحسبًا/ انتظارًا لشيء ما قد يطرق بابه الآن أو بعد حين. يحيا الفرد الحديث على التوقع والانتظار لا غير.

ومثل هذا الفرد لا ينتظر سوى فواجع أو هو عالق في تمنِّي الحصول على متعة مرجأة أبدًا، فمما لم يقله عبد الوهاب المسيري، في تعليقه على جاك دريدا، عند حديثه عن «الاخترجلاف» – أي أن المعنى مختلف بيننا جميعًا ومرجأ أبدًا طالما هو كذلك – أن المتعة في هذا الزمن عاثر الحظ مرجأة أبدًا، يموت الواحد منا وهو في انتظار الحصول على أمر ما.

مجتمع انتظار أبدي

بفعل تدفق المعلومات- تلك المخلوقات الجديدة كما يسميها علي حرب أو هي كما يقول لفظًا «كائنات أثيرية افتراضية يتم نقلها عبر الفضاءات السيبرانية»(12)– وبثها في الزمن الآني، صار كل شيء راهنًا أو مؤقتًا، بانتظار الطارئ أو المفاجئ من الرسائل والمعطيات المتغيرة باستمرار، بحيث إن ما يقال اليوم قد يدحض ويتغير غدًا.

إن مجتمع الحداثة المتأخرة، منظور إليه من هذه الزاوية (زاوية زيجمونت باومان وأولريش بك) هو ليس مجتمع سيولة/ ميوعة فحسب ولا حتى مجتمع مخاطرة ولا يقين واضح، وإنما هو فوق ذلك كله مجتمع انتظار؛ حيث يتوجب علينا، في هذا الزمن الهش/ غير محدد المعالم، أن ننتظر ما سيأتي، ما يأتي غدًا، التقدم الجديد، والتطور الحادث، أن ننتظر ما تطرحه علينا التقنية ومهندسوها وكهنة التواصل الاجتماعي في السيليكون فالي؛ أولئك الذين يتصورون أن العالم كله فئران تجارب بالنسبة لهم.

لكن، ومن أسف، أن حالة الانتظار هذه لن تنتهي أبدًا، لم يعد الوجود هنا عاريًا كما يحلل جورجيو أجامبن، وإنما صار في حالة خواء، ينتظر ما لا يعرف. والفرد في المجتمع الحديث أشبه بشخص في صالة مطار ينتظر طائرة لا يعرف متى ستأتي، لكنه حتى بعد أن يعثر عليها فسوف يجبر على النزول منها بمجرد الصعود إليها لأنها، ويا للغرابة، ستصبح غير صالحة للطيران؛ تغير الجو إلى الأبد.

نحن منتظرون أبديون

لكن الفرد في المجتمع الحديث، وقد تعلم الدرس – أنه سيظل في صالة المطار دائمًا وما إن يركب طائرة حتى يهبط منها، ويمكننا أن نتصور أننا نقضي حياتنا في صالة مطار منتظرين ما سيأتي وما لا نعرفه – خلق مجتمعًا جديدًا هو مجتمع المخاطرة كما يسميه أولريش بيك؛ حيث أصبح الواحد منا مستعدًا للأبد للطوارئ والأحداث غير المتوقعة- في هذا العالم المجنون ليس بإمكان أحد أن يتوقع شيئًا، الصدفة هي المنطق الحاكم الوحيد- بحيث يمكنه النجاة، وأن يظل رابطًا للأحزمة طوال الوقت.

مجتمع الحداثة المتأخرة مجتمع إرهاق ولهاث أو سمه جريًا على عادة أولريش بيك مجتمع مخاطرة، فجميعنا نعدو لكننا لن نصل أبدًا، ترانا جميعًا في الشوارع لاهثين منهكين، لكن وعلى الرغم من هذا الكدح اليومي المتواصل لا أحد منا سعيد، والناجي منا من لديه كفاف يومه.

المراجع
  1. علي حرب، الحداثة الفائقة: الإصلاح، الإرهاب، الشراكة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، ص: ص 212 : 213.
  2. المرجع نفسه، ص 199.
  3. كارل أونريه، مديح البطء: حراك عالمي يتحدى السرعة، ترجمة ماهر الجنيدي، كلمة، أبو ظبي، ط 1.
  4. المرجع نفسه، ص 216.
  5. أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثًا عن الأمان المفقود، ترجمة: علا عادل، هند إبراهيم، بسنت حسن، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013.
  6. مديح البطء، مرجع سابق، ص 214.
  7. هوركهايمر وأدورنو: جدل التنوير: شذرات فلسفية، ترجمة جورج كتورة، ط1، بيروت، دار الكتب الجديدة المتحدة، 2006م.
  8. مديح البطء، مرجع سابق، ص 214.
  9. المرجع نفسه، ص 69.
  10. المرجع نفسه، 68.
  11. المرجع نفسه، نفس الصفحة.
  12. علي حرب، مرجع سابق، ص 201.