الفيزياء الكونية: الإنسان ينطلق مع الكون بسرعته المذهلة
عند خلودك للنوم ليلا تتوقع أن تستيقظ في نفس المكان، وعند استيقاظك يهيأ لك هذا بالفعل، فأنت في فراشك في غرفتك بالمنزل. لكن هل يعني هذا أنك في نفس المكان؟ لإجابة السؤال يجب أولا أن نفهم معنى السكون.
النظام الساكن هو الذي لا تتغير فيها أماكن عناصره بمرور الوقت، ولا يعني هذا أنه لا يتحرك، فيمكن أن يكون النظام ساكن إذا كانت جميع عناصره تتحرك بنفس السرعة الثابتة المنتظمة.
وأول من وصف هذا المفهوم هو «جاليليو جاليلي» عام 1632، حيث قام بتخيل سفينة تتحرك بسرعة منتظمة على سطح البحر لكن دون تعرضها للأمواج. وقال أن أي بحار في جوف السفينة لن يشعر بحركة السفينة ولن يستطيع تحديد إذا كانت السفينة متحركة أم ثابتة. ولكي يدرك البحار حركة السفينة يجب أن يصعد للسطح ليرصد بنفسه الحركة المنتظمة للسفينة نسبة لما حولها.
أي أن الحركة أساسا هي تغير المكان نسبيا بين جسم وآخر. وليس هناك حالة سكون مطلق، أو جسم ساكن بشكل مطلق يمكن قياس الحركة عليه. وهو ما أكده أينشتاين في النظرية النسبية الخاصة ومن بعدها النسبية العامة، وأصبح هذا المفهوم من الثوابت الفيزيائية. ولكننا لن نتعرض الآن لمفهومي النسبية الخاصة والعامة، ولكننا سنتحدث عن الحركة التي نتعرض لها بشكل دائما في أنظمتنا المغلقة. ويسمى النظام الذي يتحرك حركة منتظمة بـالإطار المرجعي القصوري «Inertial frame of reference».
وجودنا على سطح الأرض يماثل راكب القطار الذي يتحرك قطاره بسرعة منتظمة، وثبات الموجودات النسبي لنا على سطح الأرض يمثل حالة السكون التي يشعر بها هذا الراكب نسبة لباقي الركاب، أي أن الأرض لنا كالقطار للراكب تعتبر إطارا مرجعيا قصوريا. ولو نظر هذا الراكب من النافذة سيجد أن الأشجار والطرق تتحرك للخلف، والحقيقة أنه هو الذي يتحرك بالقطار للأمام. وتعاقب الليل والنهار وأيضا حركة النجوم ليس سببها أنهم يدورون حول الأرض، لكنها بسبب دوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل 24 ساعة. وكل الكائنات على سطح الأرض تتحرك معها في تلك الحركة بسرعة 1600 كيلومتر/ساعة بسبب ارتباطها بجاذبية الأرض.
كما أن للأرض حركة أخرى وهي دورانها حول الشمس. وتكمل الأرض دورتها حول الشمس بسرعة 107000 كيلومتر/ساعة لتقطع 970 مليون كيلو متر في السنة. وتحملنا الأرض معها أيضا في تلك الحركة.
وحركة المجموعة الشمسية تمثل أيضا إطارا مرجعيا قصوريا، وترتبط الكواكب ومنها الأرض بالشمس في حركتها بفعل الجاذبية. والشمس ليست بمفردها أيضا، فهي مع مئات المليارات من النجوم الأخرى تكون مجرتنا، مجرة درب التبانة أو الطريق اللبني. والشمس كما كل النجوم تتحرك داخل المجرة بأكثر من حركة مختلفة، فللشمس حركة منفردة داخل المجموعة القريبة لها من النجوم، كما أنها تتحرك أيضا مع كل نجوم المجرة حول مركز المجرة. وتقاس سرعة حركة الشمس نسبة لمتوسط سرعات النجوم القريبة لنا فيما يعرف ب «local standard of rest».
وتتحرك الشمس حركتها المنفردة بسرعة 70000 كيلومتر/ساعة حاملة معها المجموعة الشمسية تجاه نجم النسر الواقع «Vega» في كوكبة القيثارة «constellation of Lyra». و «Vega» من النجوم القريبة نوعا ما لنا، فهو يبعد عنا الآن 25 سنة ضوئية فقط، كما أنه أحد أكثر النجوم لمعانا في السماء.
كما تتحرك الشمس حول مركز المجرة بسرعة 792000 كيلومتر/ساعة. ولكي تكمل الشمس دورة كاملة حول مركز المجرة ستسغرق 230 مليون عام. وتسمى تلك الفترة بالسنة الكونية. ومنذ نشأة المجموعة الشمسية مرت عليها عشرون سنة كونية، أي أنها أكملت 20 دورة حول مركز المجرة. لكن منذ خلق الله الإنسان على الأرض لم يمر علينا سوى جزء بسيط لا يُذكر من السنة الكونية.
ومجرة درب التبانة أيضا تتحرك كوحدة واحدة، لكن كيف يمكن تحديد سرعتها؟ فقياس سرعة السيارة كان مقارنة بسطح الأرض، وسرعة الأرض كانت بالنسبة للشمس، وسرعة الشمس كانت بالنسبة لباقي النجوم المجاورة. فبماذا نقارن المجرة؟ لا يمكن أن نقارنها بالمجرات الأخرى فهي أيضا تتحرك بسرعات هائلة وكل في طريقها المختلف! كان هذا سؤالا مؤرقا لعلماء الفلك لفترات طويلة حتى تم رصد ما يُسمى بـالضجيج الكوني.
فما هو الضجيج الكوني؟
طبقا لـنظرية الانفجار الكبير، وهي أقوى نظرية تشرح كيفية نشأة الكون ويُثبتها الكثير من الأدلة والمشاهدات والتجارب العلمية، بعد نشأة الكون بفترة قصيرة أطلقت التفاعلات الحادثة في الفضاء أشعة كهرومغناطيسية عالية الطاقة تسمى أشعة جاما. ومع مرور الوقت واتساع الكون تمددت أشعة جاما وزاد طولها الموجي حتى أصبحت الآن ذات طاقة منخفضة في هيئة موجات تحت حمراء وموجات راديو. وتسمى تلك الموجات بالضجيج الكوني أو إشعاع خلفية الكون قصير الموجة «cosmic microwave background radiation».
وتم رصدها لأول مرة عام 1965 بواسطة عالما الفلك روبرت ويلسون «Robert Wilson» وأرنو بنزياس «Arno Penzias» بواسطة لاقط الموجات القصيرة «Holmdel Horn Antenna» بأميركا، و حاز العالمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978 لاكتشافهما هذا. وبما أن الكون ما زال يتمدد حتى الآن فإن المجرات تتحرك مع تمدد الكون، والذي يمكن رصده برصد الضجيج الكوني وقياس التغيرات المختلفة على طاقته وطوله الموجي.
فكيف يمكن بمراقبة الضجيج الكوني قياس سرعة حركة المجرة؟
يستطيع علماء الفلك الآن قياس سرعة حركتنا نسبة للضجيج الكوني باستخدام ظاهرة الدوبلر “Doppler Shift” وهي تغير تردد الموجة حسب تغير اتجاه حركة الجسم أو المراقب. ويمكن ملاحظة الظاهرة بسهولة عند وقوفك على طريق القطار، ومن ثم الانتباه لصوته وهو يتجه نحوك ومقارنته بصوته وهو يبتعد عند.
وبذلك قام علماء الفلك بقياس سرعتنا نسبةً للضجيج، وباستخدام بعض الحسابات تم طرح سرعة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس وطرح سرعة الشمس في المجرة، وبالتالي تصبح السرعة المتبقية هي سرعة تحرك المجرة في الكون، والتي تبلغ 2.1 مليون كيلومتر/ساعة. سرعة مذهلة لم تتخيل قط أنك تتحرك بها بشكل دائم بالفعل. فسبحان الله.
فهل بعد كل ذلك ما زلت تعتقد أنك عند نومك تظل ثابتا في مكانك؟ العلم يقول أنه لا شيء ثابت في هذا الكون. فسبحان الله بارئ هذا الكون المعقد.