رحلتنا مع «هنا البي بي سي»: من مدرسة المشاغبين حتى سقوط بغداد
منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ثم المنصات الرقمية المختلفة، تنبأ أساتذة الإعلام بقرب اختفاء وسائل إعلام باتت تقليدية، أبرزها الصحف الورقية التي تُحتضَر بالفعل في عدة بلدان عربية، بواقع أرقام التوزيع شبه المنعدمة، ثم تنبأ بعضهم بقرب انتهاء عصر التلفزيون بعد أن أصبح الهاتف المحمول رفيقًا لا غنى عنه، ويمكن من خلاله مشاهدة الأفلام ومتابعة حلقات المسلسلات والبرامج المختلفة عبر المنصات، وبالتالي كان الحديث عن انتهاء عصر الراديو أمرًا متوقعًا ضمنيًّا.
مع نهاية شهر سبتمبر من العام الحالي 2022 أعلنت خدمة بي بي سي العالمية إغلاق عدة خدمات لها عبر العالم، أبرزها وقف الإذاعة العربية التي استمرت مرتبطة بالمستمع العربي طوال 84 عامًا، منذ انطلاقها لأول مرة عام 1938، مع وقف البث الإذاعي بلغات أخرى مثل الصينية والفارسية والبنغالية، بإلغاء حوالي 382 وظيفة في بي بي سي.
على الرغم من تبرير بي بي سي هذا الإغلاق بأنه خطوة لتسريع وتيرة تحولها صوب المحتوى الرقمي وزيادة التأثير الجماهيري حول العالم، فإن وقع الخبر كان صاعقًا لمحبي الإذاعة من الأجيال المختلفة، منذ أن كانت الإذاعة الوسيلة الأساسية للمعرفة، وحتى الأجيال الجديدة، التي ربما مرت عليها مرور الكرام، ومع ذلك تذكر لبي بي سي عربي موقفًا كانت فيه المتنفس والمقصد لمعرفة الحقيقة.
فور إعلان خبر الإغلاق امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بموجات حنين وشجن، امتزجت بكلمات محبي الإذاعة العريقة، حتى وهم يشاركون المشهد الكوميدي للفنان سعيد صالح في مسرحية «مدرسة المشاغبين» وهو يقول: «هنا البي بي سي»، كان «الإفيه» حزينًا هذه المرة، شعر كثيرون أن جزءًا جديدًا من عالمهم وعالم من سبقوهم بأجيال يتلاشى.
زلزال 1992: المأساة بصوت رخيم
بدأت ذكريات «مروة كمال» مع إذاعة بي بي سي عربي مع الزلزال المدمر الذي ضرب مصر عام 1992، بينما كان الجميع يهرع إلى الحدائق والشوارع خوفًا من انهيار البنايات، كان المصريون أشبه بقطع متناثرة لا يدري أحد ما حل بالبقية، افترشوا الحدائق وأمسكوا بأجهزة الراديو الصغيرة، وبحثوا بين الإذاعات عن معلومات عن أثر هذا الزلزال الذي لم يعتادوا مثيله.
توضح مروة لـ«إضاءات» أن عشق والدها للراديو وشغف التنقل بين إذاعاته انتقل إليها، وما زالت تذكر ذاك الصوت الرخيم الذي اخترق حالة الصدمة ليُذيع نبأ الزلزال: «كانت النبرة هادئة نوعًا، لكنها رصينة وحازمة وبها من الجدية ما جعلني أنتبه للخبر الصادم بعد الزلزال، حيث أسرعنا لتلقف تفاصيله عبر الإذاعات لمعرفة المستجدات وللمقارنة بين طريق تناوله».
لا تذكر مروة اسم المذيع الذي أعلن الخبر عبر بي بي سي العربية، لكنها تتذكر جيدًا أنه مع كل مرة كان يُعيد فيها قراءته كان يُضيف معلومة جديدة تروي ذلك التعطش إلى معلومات حقيقية، لم تجدها في بقية الإذاعات المصرية: «أتذكر أنني وضعت شريط كاسيت في جهاز الراديو وسجلت الخبر بصوت المذيع، واستمعت إليه أكثر من مرة بعدها».
تصف مروة بي بي سي عربية بأنها ليست مجرد إذاعة، تقول: «بي بي سي جزء من ذاكرتنا وسنين عمرنا الجميلة التي نتشبث بها كنوع من الحنين لكل شيء تركنا ورحل».
من اغتيال السادات لسقوط بغداد: رحلة البحث عن معلومة
قبل الزلزال بقرابة العشر السنوات، تحديدًا في يوم 6 أكتوبر 1981، كانت نوال عبد اللطيف تتابع من منزلها ووسط أسرتها العرض العسكري الذي تُقيمه القوات المسلحة المصرية في ذكرى انتصار أكتوبر، وبينما تُشاهد عبر شاشة التلفزيون الكاميرا وهي مُسلطة على الرئيس محمد أنور السادات، والبهجة تكسو وجهه وهو يتابع حركة الطائرات، تاركة ألوان علم مصر وراءها في السماء، ثم التقطت الكاميرا مشهدًا لجنود ينزلون من سيارات العرض ويتجهون نحو المنصة، اعتقدت وقتها أن ذلك كان جزءًا من العرض، وأنهم في طريقهم لتأدية التحية العسكرية للسادات، لكن الإرسال انقطع.
تصف نوال هذه اللحظة لـ«إضاءات» قائلة: «التلفزيون قطع البث وبقى عبارة عن تشويش زي اللي بيجي بعد ما البرامج بتخلص … واستنينا البث يعود لكن محصلش». عندها شعروا بأن الأمر غير ما اعتقدوا في البداية عندها اتجهوا إلى جهاز الراديو للبحث بين الإذاعات الدولية عن خبر يُشبع فضولهم: «سمعنا على بي بي سي إن دي عملية اغتيال للسادات … وفضلنا نتابعها لغاية ما أعلنت وفاته في الوقت اللي غابت فيه أي معلومة رسمية»، منذ تلك اللحظة ارتبطت بي بي سي عربية في ذاكرتها بأنها الأقرب إلى المعلومة الحقيقية.
في أبريل/نيسان 2003 سقطت بغداد، دخلت القوات الأمريكية العاصمة العراقية بعد مئات الضربات الجوية، كانت الأجواء كئيبة كفاية لتنعزل «فاطمة عبد المنعم» عن كل من حولها، ركزت اهتمامها على متابعة وسائل الإعلام، خاصة المرئية، على أمل أن تجد أصواتًا تشفي بعضًا من غليلها، لكنها لاحظت سيادة واضحة لأصوات انهزامية أو شامتة في نظام صدام حسين.
أغلقت فاطمة شاشة التلفزيون، وأمسكت بجهاز الراديو الصغير، وضعته إلى جوارها، وضبطت إشارته على بعض الإذاعات الدولية، جذبها برنامج أذيع عبر أثير بي بي سي عربية، اعتمد فقط على اتصالات المستمعين، توضح فاطمة: «كان عبارة عن مساحة حرة للناس لتعبر عن غضبها وحزنها على سقوط بغداد … وكان فيه ناس بتقول آراء سياسية محترمة جدًّا».
على الرغم من أنها لا تتذكر اسم البرنامج، ولا تعتبر نفسها من عشاق الإذاعة، فإن بي بي سي عربية ظلت طوال فترة الحرب تجذبها لمتابعة هذا البرنامج، الذي شارك من خلاله عشرات المستمعين من دول عربية مختلفة، تضيف فاطمة: «فاكرة إن البرنامج كان بيتذاع بعد الساعة 12 بالليل وكنت بفضل مشغلة الإذاعة أسمع الأخبار ومشاركات المستمعين لغاية الفجر».
تعلم الإنجليزية بأصوات محببة
بعيدًا عن أجواء الحرب يذكر أحمد عبد الحميد كيف كان لبي بي سي عربية دورًا كبيرًا في اهتمامه باللغة الإنجليزية، لم يكن متابعًا لها بالأساس: «كنت في ثانوي ودايمًا بسمع إذاعة الشرق الأوسط، ساعتها أعلنوا عن بث مشترك مع بي بي سي كل يوم خميس الساعة 5 مساءً … ده كان برنامج اسمه BBC E لتعليم اللغة الإنجليزية».
لم يكن لعبد الحميد في هذا الوقت وسائل ترفيهية أخرى، فاحتلت الإذاعة جزءًا من وقته، وكانت الرغبة في تنمية قدراته اللغوية هي الطريق الذي قاده إلى بي بي سي عربية: «البرنامج ساعدني كتير وقتها في تعلم اللغة الإنجليزية؛ لأن كان فيه خالد أبو النجا وبريطانية اسمها كيث، وكانوا بيتكلموا في موضوعات متنوعة، وده ساعدني في الفترة دي».
ويُمثل برنامج BBC E الإنتاج المشترك الأول بين الإذاعة المصرية وهيئة الإذاعة البريطانية، حتى إن الإعلان عن البرنامج تطلب إقامة مؤتمر صحفي، حضره حسام السكري الرئيس الأسبق لبي بي سي عربية والإذاعية المخضرمة إيناس جوهر، رئيس الإذاعة المصرية في 2006، إلى جانب الفنان خالد أبو النجا وأندرو تومسون بصفته رئيس قسم تعليم الإنجليزية.
رسائل يومية من مستمعين أوفياء
على الرغم من الانتقادات السياسية التي دائمًا ما تنال بي بي سي من وقت لآخر، مع تعدد واختلاف الآراء والتوجهات خاصة خلال الأحداث الجسام، إلا أنها كانت قادرة على طبع بصمة واضحة في وجدان المستمع العربي، فما بالك إذا كنت أحد العاملين بها، وهو ما أشار إليه الصحفي محمد صلاح الدين، الذي عمل داخل الإذاعة البريطانية لفترة من الوقت. غادر صلاح الدين «بي بي سي عربية» منذ قرابة عام ونصف العام، لكنه ما زال يذكر ما تعلمه داخلها بامتنان شديد.
يقول صلاح لـ «إضاءات»: «رغم إني كنت بعمل في الراديو بنظام الصحفي الحر، لكن اتعلمت منه كيفية إجراء حوار إذاعي قوي مع عدد كبير من المحللين والمسئولين من مختلف أنحاء الوطن العربي».
منحته بي بي سي عربية فرصة تعلم العمل على التغطيات الإخبارية وتخطي المواقف الطارئة، والإلمام الجيد بالزوايا المختلفة للحدث: «ده غير العمل مع فريق على قدر عالٍ من الاحترام والمهنية، أضافوا كتير مهنيًّا وشخصيًّا».
اهتمت المؤسسة دائمًا بتنمية قدرات العاملين بها. هذا ما قاله الصحفي أحمد منعم، الذي عمل سابقًا في إذاعة بي بي سي عربية، قائلًا: «إن الوفاء الذي لمسه من المستمعين عقب الإعلان عن إغلاق القسم العربي، هو نتاج جهد صحفيين هم الأفضل في العالم العربي، سواء في مكاتب لندن أو القاهرة أو عمان، ونتيجة اهتمام كبير بتدريب الصحفيين وتطوير مهاراتهم».
دائمًا ما سمع «منعم» عن حجم ارتباط أجيال من الدول العربية بإذاعة بي بي سي، حتى انضم إليها: «كنا بشكل يومي وبدون انقطاع بنتسلم رسائل صوتية من مستمعين بيعلقوا على الأخبار ويتفاعلوا مع التغطيات التي نُذيعها». مشيدًا بالمستوى الثقافي للمتابع العربي لبي بي سي: «أثناء عملي بمكتب القاهرة كنت بتفاجئ بزوار من دول عربية مختلفة جاءوا لزيارة استوديو إذاعة بي بي سي في مصر». مواقف كانت كافية لإشعاره بالفخر والرغبة في إكمال ما بدأه أساتذة كبار عبر السنوات.
كانت رسائل المستمعين تصل من دول خارج حدود الوطن العربي، مثل غينيا والنيجر ومالي وتشاد، فما عاد يستغرب «منعم» هذا الارتباط العربي بالإذاعة، يقول لـ«إضاءات»: «كنا بنسمع أصوات زملائنا الصحفيين وأساتذتنا الكبار في راديو البي بي سي في تاكسيات موريتانيا والمغرب والكويت والعراق وغيرها من الدول العربية أثناء سفريات العمل».
لم تدفع ذكريات المستمعين ولا مشاعر امتنان العاملين «بي بي سي» إلى العدول عن قرارها بإغلاق الإذاعة العربية، وسط أزمة اقتصادية عالمية طاحنة، اتجاه يحسمه ما صرحت به ليليان لاندور مديرة خدمات بي بي سي العالمية، بأن 4 % فقط من إجمالي جمهور بي بي سي عربي يتابعونها حصرًا عبر إذاعتها، مضيفة: «ليس من السهل خسارة أي بث ولكننا نمر بظروف مالية دقيقة ويتعين علينا اتخاذ قرارات صعبة».