حلاوتهم و«هبة الله»: ما ورثناه من أسماء المصريين القدماء
الاسم هو ما يُعرف به الشيء ويستدل عليه، وجمعه أسماء وأسامٍ، وبه تُحدد هوية كل الموجودات، ولا يوجد شيء بلا اسم على الإطلاق. ومعرفة الأسماء قد تعطى هبة أو منحة إضافية، فلقد جاء في الحديث الشريف أن لله اسمًا أعظم من دعاه به أجابه ومن سأل به أعطاه، وفي مصر القديمة خُلق العالم بنطق اسم كل ما في الوجود، وفي الممارسات السحرية، فكان معرفة الاسم الحقيقي للقوى الخارقة يساعد من يعرفه في اكتسابها.
تُحَدِد الأسماء هوية الأشخاص في المجتمع وتضمن بقاء ذكراهم لأجيال لاحقة بعد وفاتهم، فأحيانًا بمجرد أن تسمع اسمًا ما، يمكن أن تعرف هويته أو دينه وربما من أي بلد هو. وقد تكون الأسماء وسيلة لتضمين الأجانب في المجتمعات التي يعيشون بها، مثلما حدث في مصر القديمة عندما تسمى بعض الهكسوس بالأسماء المصرية القديمة –أو كما يحدث للأجانب المقيمين فى بلاد أخرى قد يسمون أبناءهم بأسماء أهل هذا البلاد كنوع من الاندماج معهم-. ولأهميتها؛ جعل القدماء «طمس الأسماء» من أقصى العقوبات التي تُوقَّع على المذنبين في الجرائم الكبرى، لأن تدمير الاسم ومحوه يعني أنه لن يُنطق مرة أخرى، وتتلاشى ذكراه، لذا قد يكون من وسائل التهديد لدى العامة حاليًا «سأمحي اسمك من الوجود» مستمدًا من مصر القديمة .
لذا إذا أراد أحد في مصر القديمة أن يدمر أعداءه في العالم الآخر، فكان يدخل خلسة إلى مقبرته ويمحو عينيه؛ فيضل طريقه أو يمحو اسمه فلا يبقى له وجود. وتعرض الملوك حتشبسوت وإخناتون وسمنخ كا رع وتوت عنخ أمون لإسقاط أسمائهم من قائمة أبيدوس الملكية المنقوشة على جدران المعبد الذي يحمل نفس الاسم، والمؤرخة بعهد الملك سيتي الأول حوالى 1300 ق.م، فالأولى تعرضت للانتقام من الملك تحتمس الثالث لاغتصابها العرش وإقصائه عن ملكه وهو صغير، والثاني كان بالنسبة للملوك اللاحقين مهرطقًا لأنه خرج عن اتباع عبادة أمون ومحاربته له، بينما الآخران كانا زوجين لابنتيه لأنه لم يكن له ذكور من نسله.
تأثير الظروف الاجتماعية على اختيار الأسماء
اهتم المصريون القدماء بالأسماء الشخصية، سواء العامة أو الملوك، الذين ارتبطت أسماؤهم بخمسة ألقاب ملكية، هى: (سا رع) ويعنى ابن رع، ويرتبط به اسم ميلاد الملك، (حِر) أي «حور» ويعني المنتمي للمعبود «حور»، (حور نب) أي حور الذهبي الذي انتصر على عمه ست في أسطورة الصراع بين أوزير وأخيه ست، «نِبْتى» أي المنتمي للمعبودتين نخبت وواجيت ربتا الشمال والجنوب، و«نسو بيتى» أي ملك مصر العليا والسفلى الذي يحصل عليه الملك عند تتويجه، أما لقب «بِر عا» والتي تعني القصر حتى منتصف الأسرة الثامنة عشرة ثم استخدمت كلقب ثانوي للملوك.
ربما تشير دلالة هذه الألقاب إلى أن الملوك كانوا مؤيدين من المعبودات، فقبل الثورة الاجتماعية، كان معبود الشمس أول حاكم لمصر، والملك خليفته على الأرض ونقطة التواصل بين البشر والمعبودات، فأصبح وكأنه حور القادم من النسل الإلهى، وابنًا لرع، وظل هذا وضعًا قائمًا حتى منتصف الأسرة السادسة حين ضعفت السلطة المركزية في مقابل زيادة سطوة حكام الأقاليم وسوء الأحوال الاقتصادية وتدهور الوضع الاجتماعي داخليًا؛ فثار المجتمع، ولم يعد الملك مؤلهاً تأليهًا كاملًا مثل ذي قبل، ولكن ظلت الألقاب لتدل على السطوة ذات الطابع الإلهي.
أيضًا، أثّرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية على اختيار العامة لأسماء أبنائهم، على كافة المستويات والطبقات، ففي عصور ما قبل التاريخ –قبل الأسرة الأولى وما يعرف بالأسرات صفر وصفرين- فكانت القرى المتفرقة في أنحاء مصر تضم بعضها بعضًا لتكون مدنًا، وهذا استدعى بالطبع مقاومة بينهم، كما أن طبيعة الحياة نفسها على الرغم من معرفة الزراعة والصناعة، وبداية التحسن التدريجي نتيجة لانتشارهما، إلا أن المناوشات بين الشمال والجنوب ومحاولة سيطرة كل طرف على الآخر كانت قائمة، ولنا في لويحات (لوحة صغيرة) الملك العقرب إشارة لذلك، التي انتهت بانتصار أهل الجنوب بقيادة نعرمر/ ميني على الشمال وتوحيد البلاد.
وإذا لاحظنا أسماء ملوك الأسرتين الأولى والثانية، فلا نجد بها إشارات دينية، أو ارتباطًا بالمعبودات، باستثناء الملكة (مرى نيت) ويعني اسمها محبوبة المعبودة نيت، والملك نب رع (رع نب)، بل أشارت في البداية إلى القوة والثبات ومع استتباب الأحوال بدأت في الإشارة إلى صفات أخرى. فأول ملوك الأسرة الأولى مِنِى/ نعرمر يعني اسمه المثبت، وثاني الملوك اسمه عحا بمعنى المحارب، وفي نهاية الأسرة نجد ملكًا يسمى «قاعا» أي عالي الذراع، وآخر الملوك يسمى «سمرخت» أي سمير أو رفيق الجسد.
أما ملوك الأسرة الثانية، فمنهم «حتب سخم»، أي فلترض أو فلتهدأ القوتان (حور وست)، ثم الملك «بر إيب سن»، أي زعيم قلوبهم، و«خع سخم» بمعنى ظهرت القوتان، وفيه دلالة على تجدد الصراع بين أتباع حور وست على ملك مصر. ولما استتبت الأمور أكثر وأكثر، ابتعدت الأسماء عن طابع القوة، واتجهت إلى التقديس، ففي بداية الأسرة الثالثة، ظهرت أسماء تحمل طابعًا مقدسًا فالملك زوسر حمل اسم (نثر غت) أي إله الجسد، وفي الأسرة الرابعة بدأت تظهر نغمة ارتباط الملوك بالمعبود رع، التي استمرت حتى الأسرة السادسة كونهم مؤلهين آنذاك. وكأن الاسم يشير إلى دلالة دينية وشرعية للملوك.
وبعد سقوط الدولة القديمة، ودخول البلاد لمرحلة جديدة اجتماعيًا وسياسيًا وحضاريًا، عادت نغمة الحرب والقوة إلى أسماء الملوك، فعقب فترة اضطرابات ضخمة استمرت لفترة طويلة، عانت فيها البلاد من محاولات التدخل الأجنبي في الشمال التي صدها ملوك أهناسيا، وفي الجنوب أمّن الطيبيون الحدود الجنوبية، ولأنهم كانوا أهل حرب، هزموا ملوك أهناسيا ووحدوا البلاد تحت حكمهم وتقلد أول ملوكها الحكم وهو الملك «سهر تاوى»، ويعني اسمه «مُطَّهِرُ الأرضين»، واستمر الحال على هذا، حتى إنه في النصف الثاني من نفس الأسرة ظهر اسم المعبود «منتو»، رب الحرب، في أسمائهم.
ومع احتلال الهكسوس مصر وإسقاطهم الدولة الوسطى تأثروا نسبيًا بالحضارة المصرية، لأن الرافد الثقافي المحلي كان قويًا بما يكفى، ليُمِّصر أي دخيل عليه ولكن طبعًا ليس بشكل كامل، فقلدوا المصريين في أزيائهم ولغتهم، وساووا بين بعض المعبودات، فمعبودهم «بعل» ساوَى «رع» في مصر، أما عن أسمائهم فلقد احتفظ ملوكهم بأسمائهم، وتلقبوا بالألقاب المصرية مثل: (مر أوسر رع- عا أوسر رع- عا قنن رع).
ومع بداية فترة التحرير، نلمح جانب القوة في أسماء أواخر ملوك الأسرة السابعة عشرة، الذين قادوا الحرب، فالأول اسمه (سقنن رع) ويعني اسمه «فليقوِّني رع»، وثم ابنه «كامس»، الذي يعني اسمه الثور مولود، فالثور كان له هيئة متحفزة صورت على صلابة الثيران من عصر ما قبل الأسرات وعلى صلابة الملك نعرمر، وفيها يظهر الملك كثور هائج يقهر أعداءه.
أما أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة (أحمس) الذي أكمل المسيرة وطرد الهكسوس من مصر، فإن اسمه يعني مولود القمر، فالمعبود «إعح» رب القمر، الذي استحوذ على قدراته وصفاته كل من خنسو وجحوتي، وربما كان هذا الانتساب لأن خنسو كان شديد البطش والعقاب يساعد في القضاء على من له طباع الشر، وفي نفس الوقت ربا للسلام ودودا، وربما كانت هذه صفات يحب الملك أن تكون فيه، باعتباره مخلص البلاد من الاحتلال وحاكمها.
ولم تنتهِ قصة ارتباط الملوك بالقمر في الأسرة الثامنة عشرة، بل تسمى أربعة ملوك باسم «جحوتي مس»، منهم أعظم ملوك مصر القديمة على الإطلاق الملك تحتمس الثالث، وربما كان اختيار «جحوتى» لأنه سيد الزمن ومقدر السنين، ورب المعرفة والملم بالأسرار،
كما تسمّى أربعة ملوك بِاسم أمنحتب، الذي نلمح به الصبغة الدينية، لأنه يعني «فليرض آمون»، أما توت عنخ أمون فيعني الصورة الحية لآمون، واستمرت هذه الصبغة واضحة في ملوك الرعامسة في الأسرتين 19 و20 ومع بداية الأسرة 21 والحكم الأجنبي لمصر، بدأت تظهر أسماء مثل شاشنق طهرقا وبسماتيك ونكاو وقمبيز –اسم فارسي- وهم غير معروفي المعنى.
الأسماء الشخصية عند العامة
الأسماء الشخصية عند العامة كان لها طابع مميز، تمتعت بالرشاقة والمرونة بعكس الملوك الذين تأطرت أسماؤهم في قوالب معينة، حتى وإن تطورت مثلما أشرنا، ولكن تكمن مشكلة تحديد معنى ومدلول بعض الأسماء في صعوبة تأصيل جذرها، لأن الأفعال أو الكلمات يلحق بها بعض المخصصات التي تدل على معناه، وبتغيرها يتغير المعنى، ومع ذلك يمكن من خلال الأسماء أن نلمح جانبًا من معتقدات الأفراد وتوجهاتهم.
في عصر الدولة الحديثة، وعقب هرطقة إخناتون الدينية، ظهر ما يُعرف باسم التقوى الشعبية، وهي صدى للأفكار والمعتقدات التي آمن بها أصحابها وتوارثوها جيلًا بعد جيل، التي كانت مكنونة في الصدور، يعلمها الناس لأبنائهم بالتوريث، وتختلف من بيئة إلى أخرى، ومن مكان لآخر، وكان من ضمنها التقرب إلى المعبودات بشتى الطرق، التي كان من ضمنها الأسماء الشخصية، والتي لا نزال نستخدم صفاتها في حياتنا اليومية المعاصرة.
وفي عصري الدولة الحديثة والمتأخر، لجأ عدد كبير من العوام إلى ربط أسماء أبنائهم بالمعبودات أو بصفاتهم، بأن يسمى الشخص باسم المعبود مباشرة، كأن تسمى المولودة إيزة (إيزيس)، أو حور أو يكون اسمه ضمن تركيب مثل «رع مس» بمعنى «مولود رع».
هناك أيضًا اسم لشخص مثل اسم «با دي آمون» فهو يتكون من أداة التعريف (با) +الفعل (دي) بمعنى يعطي+ آمون، لتكون التركيبية بمعنى (المعطي آمون)، أو أن يكتب (آمون إر دي إس) بمعنى «آمون يهبها». وأيضًا (دي أوزير) هبة أوزير، والذي يشبه في وقتنا الحالي اسم (هبة الله وعطية الله)، فالناس يعتقدون أن الأبناء هبات من المعبودات، وكان إلى فترة قريبة حين يحتفل العامة في القرى بـ«سبوع الطفل» في اليوم السابع من ولادته، يطبعون بطاقة مكتوب عليها (…أنا ]المولد[ هبة الرحمن).
قد تتشابه عديد من الأسماء في مدلولها المصري القديم مع الأسماء المعاصرة، وهنا نتكلم عن المدلول وليس المعنى الحرفي، فمثلًا عاش في الدولة القديمة رجل اسمه «دوا بتاح»، وكلمة «دوا» بمعنى عبد/ الثناء/الشكر/التهليل، وآخر من نفس العصر يسمى «دوا رع»، واللذان قد يتشابهان في الوقت الحالي مع اسم «شكر الله» و«حمد الله»، وهما من أسماء الرجال في القرى المصرية. ولأن المعتقد عند بعض المصريين في وقتنا الحالي أن الرضا شكل من أشكال التدين، فيمكن أن نجد هذا الأثر في مصر القديمة حين جاء في بردية بولاق 18: 19 أن رجلًا تسمى «با حتب» التي تترجم «الرضا»، الذي لا يزال يستخدم إلى الآن بمعناه ودلالته، فنجد أناس يسمون «رضا، راضي، ورضانا».
ومن الأسماء المشتركة بين الرجال والنساء، التي توارث الناس مدلولاتها وأحيانًا معناها نفسه، ما هو مشتق من كلمة (نِفر) بمعنى جمال أو جميل، والتي يمكن أن تترجم كذلك الطيب والرحيم، وكذلك الممتاز وكان هذا الاسم مشهورًا في مصر القديمة، والذي استمر منذ الدولة القديمة وحتى العصر المتأخر، ولا يزال هذا الاسم في مصر حاليًا، ما بين اسم جميل وجميلة، والطيب، وفي عصر الدولة الوسطى، سُمي رجل «نفر إيب» بمعنى «جميل/رحيم القلب، الذى يعطي نفس معنى الطيب. ومن نفس الاشتقاق اسم ملكة مصر الشهيرة نفرتاري زوجة الملك رمسيس الثاني، ويعني اسمها «صاحبة الجمال»، والذي نجده حاليًا متوارثًا في أسماء بعض السيدات في القرى الريفية المصرية باسم (حلاوتهم).
استخدم في الدولة الحديثة اسم «نِبْ» للرجال والنساء بمعنى السيد أو السيدة، ولا يزال إلى يومنا هذا يُسمى بعض العامة أبناءهم باسم سيد أو سيدة مجردًا، وأيضًا اسم «إعح»، بمعنى «قمر»، الذي كان مستخدمًا في فترة الدولتين الوسطى والحديثة، ولا يزال مستخدمًا بمعناه أو بالإشارة إلى اسم «بدر»، كما لا يزال مستخدمًا للتعبير عن صفة الجمال للتدليل.